كالعادة في بيروت تتداخل أو تتقاطع أو تتعارض معظم الوجوه والأعمال الثقافية، تبعاً للطبيعة الديموغرافية المتعددة المشارب والمناهل. إلا أن الحدث الأبرز أخيراً كان تحرير الجنوب الذي غدا مسرحاً عاماً للقراءات الشاملة والمتمحّصة، وانتقل الى الأرض المحررة، خصوصاً معتقل الخيام، صحافيون وكتّاب لبنانيون وعرب وأجانب، بثوا من هناك رسائل وندوات وعقدوا أيضاً أمسيات شعر. وعرضت في بيروت مسرحية أسامة الرحباني "وقام في اليوم الثالث" فواجهت رأيين متناقضين، محورهما الحساسيات اللبنانية، ولم تتم قراءة فنية خالصة لهذا العمل المسرحي المستند الى تراث ديني. وبين ليل الاحتلال وغبطة التحرير "تجندت" الأقلام للتعبير عن غبطة حقيقية تاق إليها اللبنانيون والعرب، وتضافرت في الاحتفالات الفنون التعبيرية الجماهيرية بكل أشكالها، حتى العفوية والتلقائية، وشغلت وسائل الإعلام كافة. وتحية التحرير كانت في مبتدأ الأمسية الشعرية للأمير خالد الفيصل التي واكبها معرض لأعماله الفنية ضم ما يقارب الثلاثين عملاً في قصر اليونيسكو، ولا شك أن الحضور الشعري والتشكيلي للأمير خالد الفيصل ترك صدى في الذاكرة الثقافية لمدينة لا تكلّ. وفي إطار الاحتفاليات كان مهرجان شعري في بيروت رعاه الرئيس رفيق الحريري الذي أرسل مندوباً عنه لاحقاً، وفي الانتظار حدث ما يشبه التململ واضطر مقدم المهرجان الزميل موفق مدني الى الاسترسال بكلمة إنشائية زادت عن ثلاثين دقيقة غير مبررة...! أعقبتها ثلة من القصائد الكلاسيكية المنبرية. غير أن الشاعر غسان مطر المتمكن من أدواته استطاع أن يعطي لكلاسيكيته صفة إبداعية، كذلك الشاعر عصام العبدالله الذي قرأ من جديده العاميّ بعض القصائد المهداة للجنوب فاتحاً ثغرة في مدماك شعري تكدست فيه القوافي والأوزان والبحور على مدار ساعتين ونيّف من أحد عشر شاعراً، وشاعرة وحيدة هي هدى ميقاتي. أما الوقع الأغرب في المناسبة فكان للشاعر جورج جرداق الذي تغيّب لأسباب صحية فقُرئت له قصيدة "أنا مصرية" بصوت الدكتورة سعاد الحكيم التي تلكأت بأكثر من مقطع، ما زاد من تعجب الحضور من إدراج قصيدة "أنا مصرية" في مثل هذه المناسبة. وعلى صعيد النشر لا تزال الدور اللبنانية تلعب دورها المركزي في الثقافة العربية. ومن الوعود التي قاربت التحقق القاموس الكبير العربي - الفرنسي الذي ستصدره دار الآداب بعد سنوات طويلة من الجهد بذله الدكتور سهيل ادريس والدكتور سماح ادريس، وجهود تأسيسية كان بذلها الراحل الدكتور الشيخ صبحي الصالح. ومن جديد بيروت أن السياسي والكاتب باسم الجسر أسفر عن وجهه الشعري فنشر مجموعة عنوانها "باقة وجد" وصلت قبل أيام الى أصدقائه في لبنان والمهاجر، طبعت في "مطبعة لبنان الجديد" ومما جاء في تقديمها: "غازلت القوافي، وأنا، بعد، حدث دون السادسة عشرة من عمري، كانت أبيات الشعر التي أسود بها صفحات الدفتر المدرسي باللغة الفرنسية. فلغة الحب لديّ، كانت لغة راسين ولامرتين وهوغو. فأشعارهم، هي التي كانت تُحفّظ لنا، في المدرسة... أما القصائد العربية التي كانت الكتب المدرسية تضمّها فكانت بعيدة عن الحب. وانتقلت من مداعبة القوافي بالفرنسية الى العربية في السنوات الأخيرة من دراستي الثانوية، بعد أن قرأت وحفظت بعض روائع الشعر العربي التقليدي التي كانت مفروضة في برامج التعليم الثانوي، واطلعت على دواوين الشعراء المعاصرين الشهيرين، كعمر أبو ريشة، وسعيد عقل وعلي محمود طه، وصلاح لبكي والياس أبو شبكة، وغيرهم. ولم يكن نزار قباني وبدر شاكر السياب والبياتي والحيدري وأدونيس، ومن شاركهم أو تبعهم، من شعراء المدرسة الحديثة، قد أطلوا، بعد، من شرفة الشعر العربي الحديث. وكان من الطبيعي أن أتأثر بالمدرستين، الرومنطيقية والرمزية، الفرنسية والعربية وأن أنحو في ما أنظم نحو شعرائهما، مقلداً - دون أن أشعر - صلاح لبكي أو الياس أبو شبكة أو عمر أبو ريشة أو علي محمود طه. وشجعني على النظم استحسان رفاق الدراسة لما كنت أنظم وتشجيع حلقة الأصدقاء الصغيرة، لي. فلما انتقلت الى الجامعة ونمت ملكتي اللغوية، ولا أقول الشعرية، بعض الشيء، تشجعت وبعثت بقصيدة الى إحدى المجلات الرائجة، وكم كانت فرحتي كبيرة، لدى ظهورها، في مكان بارز، متوّجة باسمي. .... كان يعزّ علي أن أحرق هذه المجموعة من القصائد أو أن أتركها لتنام في أحد الأدراج ليعلوها الغبار ثم تلقي بها الأيدي بعد مماتي في أحد الصناديق، ليأكلها العث أو تبلى مع الزمن. كان التّوق الى الشهرة أو الثناء بعيداً ورائي. ولكن ثمة رغبة قوية ومتواصلة كانت تدفعني الى نشر هذه المجموعة من القصائد. ولو باسم مستعار فلئن كانت جديرة بالحفظ أو بإثارة لحظة مشاركة في أجوائها من قبل قارئ مجهول، أكون محقاً في نشرها لا في طيها. ثم إن نشرها تحت اسم مستعار أو مجهول يبعد النظرة "الشخصية" إليها من خلال صاحبها ويحصر الحكم عليها حصراً موضوعياً. ومكثت طويلاً أبحث عن الاسم المستعار الذي أتوّج به مجموعة أشعاري، وبالعنوان الذي أعطيه لها. غير أني اخترت أخيراً نشرها باسمي. كما اخترت عنواناً لها: باقة وجد".