ليست الهوليغانية حكراً على انكلترا. ففي اسكتلندا يوجد "جيش تارتان"، كما يوجد في الدانمرك "الروليغانز"، او "جماعة السلام"! وهم ايضاً يمارسون العنف في الملاعب. وفي ايطاليا هناك "الالتراز"، او "المتطرفون"، الاشد اعتداداً بذكوريتهم الصافية والذين يحتقرون زملاءهم الانكليز لأنهم يلجأون الى المُسكرات فيما الكحول تُضعف القدرة على القتال. واذا التبس عنف الملاعب الايطالي بالانقسام الى مناطق، فان تاريخ الحرب الاهلية الاسبانية تاركٌ بصماته على حروب الملاعب هناك: ف"ريال مدريد" هو الفريق الذي يستقطب زعران اليمين في مقابل زعران اليسار الذين يلتفّون حول "إيثليتيكو بولباو". وهؤلاء جميعاً شبان يعتدّون بالعضل، وهم كلهم تقريباً صادرون عن بيئات فقيرة، كما انهم، باستثناء الطليان، يعرّجون على الحانات قبل ارتياد الملاعب. لكن ما هو الخاص في الانكليز ممن اعطوا اللغات تعبير "الهوليغان" فصارت الهوليغانية مرادف "المرض الانكليزي"؟ لا شك في ان النسبة البريطانية في العنف اعلى من مثيلاتها بكثير. بيد ان الامر يتعدى النسبة حيث ان ما يبقى "حالات" في سائر البلدان يصير، عند شبان المملكة المتحدة، "ظاهرة". فغير الانكليز يقاتلون اساساً في بلدانهم فيما الانكليز جوّالون ينتقلون جماعاتٍ الى ملاعب الدول الاخرى كي يقاتلوا. وهم حين يشربون يتجمّعون كتلاً كتلاً تجهر بهوياتهم قبل ان ينقضّوا كالذئاب المسعورة على الملعب. وتتحرّك التحليلات ويتعدد المحللون بين قائل ان "الخارج" يثير في الانكليزي شعوراً جمعياً بفردوس مفقود وبامبراطوريةٍ زالت، وقائلٍ ان انكلترا العمالية وأحياءها القديمة موشكة على الانقراض بكل تعابيرها ودلالاتها. ذلك ان الاصرار على الافراط في تناول الشراب جماعياً لا يذكّر بالهوية فحسب، بل يعلن مأزقها ويجدّده. ولا ينبغي، هنا، ان ننسى ان الخمّارة Pub هي، اصلاً، اختراع انكليزي لا يني يتراجع امام المقهى وامكنة الأكل السريع، كما يعدل وظائفه فيقدم الشاي والقهوة والمآكل التايلاندية. الا ان كرة القدم هي ايضاً اختراع انكليزي لم يعد الانكليز من المبرزين فيه، بحيث تلقاهم ينهزمون امام... البرتغاليين والرومانيين! واذا كانت الطبقة العاملة، واليدوي منها تحديداً، قد تعرّضت لانتكاسات لا تُحصى فإنها لا تعثر، في انكلترا، على اللسان الذي يعبّر عن مأزقها. ف"حزب العمال" نفسه بدأ، مع هارولد ويلسون في الستينات، مسيرته المديدة للتصالح مع الطبقة الوسطى، محققاً قفزته النوعية قبل سنوات قليلة بتحوّله حزب عمال "جديداً". لكنْ قبل ذلك بكثير اشتُهرت الطبقة العاملة الانكليزية، على عكس نظيرتها الفرنسية، بالخجل الذي قصّر نضالاتها على المطلبي والنقابي دون السياسي. فاذا اضفنا التهذيب الانكليزي الشهير والمُداوِر ، بتنا امام صمت يلحّ على صراخ. وربما وجد الصامتون طويلاً في السفر الى الخارج فرصتهم للتفلّت من ضوابط الحياة العادية الرتيبة، والجهر تالياً بما يعتمل في الصدور. ثم، اي بلد يملك صحافة "تابلويد" فضائحية كالتي تملكها انكلترا؟ كيف وان الصحافة هذه تمهّد لموسم الالعاب، كل موسم العاب، بحملة عنصرية وكارهة للغريب: الباكستاني والتركي والافريقي والعربي و... الاوروبي القارّي ايضاً. فما ان تبدأ الالعاب حتى تُفرد الصفحات الكثيرة لتغطية نشاط الهوليغان الذين يتعرضون دائماً "لاعتداءات الآخرين". ولئن كان بعض هؤلاء الشبان يُقبلون على الاحزاب الفاشية، ك"الجبهة الوطنية" والتنظيمات الصغرى المتفرّعة عنها، ويتبادلون التحيات النازية واشمين زنودهم وصدورهم، فأي نشاط تُرك للفاشيين في لندن غير هذا؟ ذلك اننا، هنا، لا نتحدث عن جان ماري لوبن او يورغ هايدر، بل عن وجود هامشي جداً لا يؤتى على ذكره في الحياة العامة الا مرة واحدة في العام الواحد. لهذا ترى لندن الزاهية التي غدت اكثر مدن العالم نأياً عن العضلي والقومي، تواجه ما يفعله ابناؤها في الخارج بشعور يشبه الفضيحة غير المتوقعة. هل هي حقاً غير متوقعة؟ * كاتب ومعلق لبنان