رعشةٌ غريبة سرت في الأوصال البريطانية لحظةَ الاعلان عما فعله "الهوليغان" الانكليز في مرسيليا. قضايا جديدة انتقلت الى الواجهة، والقضايا القديمة نسبياً تجدد طرحها على ضوء الحدث المذكور. جوناثان فريدلاند، أحد أبرز كتّاب يسار الوسط الديموقراطيين، تساءل: كيف ننتج وطنية أخرى تُظهرنا مكترثين بوطنية الانكليز لكنها تقطع حبل السرة بالكامل مع وطنية الهوليغان منهم؟ فريدلاند ميّز، على ما فعل جورج أورويل قبله، بين الوطنية التي هي حبٌ للمكان وذاكرته، والقومية التي هي تعلق بخرافة الشعب، لكنه مضى يكتشف عناصر افتخار وطني بريطاني: نحن لم نعرف حركة فاشية قوية. في الحرب الثانية كنا أكثر من تصدى للنازية. حالياً نبني مجتمعاً تعددياً. ليس في بلدنا حركات بقوة "الجبهة الوطنية" الفرنسية. من البداية خلت لندن من الطرق العريضة التي اهتم بمثلها امبراطور فرنسا من أجل أن يمر فيها الجيش الامبراطوري! لكن ما فعله "الهوليغان"، وسمّاه الجميع "عاراً"، وقع وقع الصدمة على قطاع واسع يؤيد "حزب العمال" الحاكم ويقول قوله. فما الذي يقوله هذا الحزب؟ قليل من السمين وكثير من الغث. وأول هذا الغث تعبير Cool Britannia التي ربما كانت ترجمتها الأقرب "بريطانيا المهضومة" بالمعنى الذي تذهب اليه عامية اللبنانيين. انه تعبير تسويقي قليل الدلالات جهِد العمال لملئه بالمعنى. توني بلير، رئيس الحكومة، أتى بتعريف يزيد الغموض غموضاً: "حيث تحب أن تعيش وتربّي أبناءك وتعمل وتقضي شيخوختك...". هذا هراءٌ فيما رولز رايس اشتراها الالمان، وكريستي للمزادات اشتراها فرنسيون، بعدما اصبحت الجاغوار في ايد اميركية، والروفر في يد بي. ام. الالمانية، وسيطر اميركان على ملكية فندق سافوي، وتملّك مصري مخازن هارودز. صحيح أن المُجمّع الاعلامي البريطاني، بيرسون ليمتد، اشترى دار سايمون وشوستر الأميركية، الا أن هذا لا يكفي على الاطلاق. "نيوزويك" الأميركية التي كانت ساهمت في ترويج التعبير، أصدرت، بعد أحداث مارسيليا، غلافاً عن "بريطانيا غير المهضومة"! كثيرون غيرها واجهوا السماجة بعدم تسامح مستجدّ. وبين المهضوم وغير المهضوم، انكشفت خريطة المشاكل التي تعانيها الثقافة قبل أن تعانيها السياسة، وكالعادة حين يكون العمال في الحكم، سارع التقليديون الى شن الهجوم: سألوا: من أين أتى الهوليغان؟ أجابوا: من التهميش المتعاظم الذي يتعرض له نمط الحياة البريطانية ومألوفاتها الحميمة. جورج وُلدن المثقف والناقد المعادي للأمركة، هو أفضل من صاغ هذه التوجهات في محاضرة أعاد نشرها في "ملحق تايمز الأدبي" تي. إل. إس.. فعند ولدن أن من يستمع الى اليمين الثاتشري يخال ان السوق الحرة اختراع انكليزي حصل اواخر هذا القرن، ومن يستمع الى "العمال الجدد" ينتابه أن النشاط والابداعية هما اختراع بريطاني. وهذا انما يعكس محاكاة "روح التجديد والاكتشاف" الأميركية. ثاتشر وبلير، عنده، يتشاركان في رغبتهما تغيير بلدهما، والاثنان لا يحسان بالإلفة كما يحسّانها في الولاياتالمتحدة. أما القبة الألفية فيُقَرر بناؤها قبل التفكير بما الذي سيُصنع بها، وهذا في نظر ولدن، من تأثيرات أمركةٍ تغلّب المبادرة وتجلياتها في الشكل على المضمون، فضلاً عن تأثرها الذي بات شائعاً بديزني لاند. وبناء القبة مثال عن موقف ثقافي يرفضه التقليديون والمحافظون من أهل الثقافة الرفيعة، لا لنُصبيتها التي تستهويهم، بل لشيء آخر: رغبة الحكومة في استخدامها، هي المبنى الاكبر في العالم، قاعاتٍ مفتوحة لعرض انجازات الثقافة البريطانية، كما تُعرض السلع في الاسواق والمعارض. البعض يؤرّخ لهذا التحول ب1980 حين تم تحويل سوق الخضار والفاكهة التقليدي في كوفنت غاردن الى مجموعة من الدكاكين والمطاعم والحانات المحيطة بساحة مفتوحة: الواجهة الأوروبية فالكوزموبوليتية - الأميركية شرعت مذّاك تدك حصوننا. ولهذا السبب تميل الفيديوات الرسمية اليوم الى تقديم بريطانيا بوصفها نُتَفاً من التقنية وثقافة البوب والديزاين، بينما تختفي تماماً الأكواخ المسقوفة بالقش والرموز والممتلكات المَلكية. كذلك تؤثر أميركا على طريقة "حزننا" بدليل أن الأغنية التي وُضعت لديانا مستوحاة من كلمات وُضعت أصلاً لمارلين مونرو، فيما يميل المغنون البريطانيون الى تطعيم كلماتهم بكلمات وطرقٍ في اللفظ أميركية. وأبعد من هذا، تتأمرك المؤسسات نفسها. فمكتب بلير في 10 داوننغ ستريت يتحول بيتاً أبيض مصغّراً، وملحقه الاعلامي يتصرف كناطق باسم الرئيس. والتحديثات المتعلقة باللامركزية، وإضعاف مجلس اللوردات تمهيداً لالغائه، وتطوير المَلكية وتجديدها، هي كلها ذات مذاق اميركي. أما لغة رئيس الحكومة، الشعبوية والعاطفية و"التي تخاطب القلب"، فأميركية جداً. لكن مشاكل بريطانيا الاجتماعية تصير أكثر أميركية هي الأخرى. فالذي يتابع حدة النقاشات عن العِرقية والمجتمع التعددي في لندن يفوته الانتباه الى أن البلاد لا ترال شديدة الانسجام الاثني، وان السود لا يشكلون فيها أكثر من 2 في المئة من السكان. ويستخلص الكاتب الذي يتجاهل الثقل الآسيوي في بريطانيا أن "التعددية الثقافية استُوردت ]من أميركا[ الى بلد ذي ثقافة واحدة مسيطرة" تقليدياً. كذلك ففي السياسة تنكمش نسب المساهمين في الانتخابات فيما تتزايد رغبات الاستعراض التلفزيوني للسياسيين، وهذا كي لا نقول شيئاً عن التلفزيون والأفلام والهمبرغر. انها جميعاً ظاهرات اميركية بحتة. أما في الثقافة تحديداً، فيتبنى كتاب بريطانيا الألمع، كمارتن آيمِس، نمطاً أطلسياً في الكتابة، عاجزين عن كتمان تأثرهم بسول بيلو وآبدايك وايلمور ليونارد. وحين يسترجع آشيغورو ماضي "بلادنا" القريب في روايته "بقايا اليوم"، التي جعلتها السينما فيلماً، يقدّمه كإكزوتيك شرع يلفظ أنفاسه منذ منتصف القرن. هذه الحدة، وإن كانت لا ترقى الى سوية مثيلتها الفرنسية كما لا تنطوي على الحجم التمثيلي للأخيرة، تعلن البَرم لا بالهوليغان، بل باختلال العالم البريطاني القديم والحميم. فالأورَبة والعولمة ترافقتا مع الثورة الثاتشرية التي يكملها بلير، ومفادها دفع الطبقة الوسطى وثقافتها الى الصدارة، بعدما عاشت الحياة، السياسية والثقافية، في ظل استقطاب ثنائي: الأريستوقراطية من ناحية، والطبقة العاملة من ناحية ثانية. والحال أن الامتعاض الأريستوقراطي لا يعبر عن نفسه كما يفعل حين يتعرض لأزمة المؤسسات الثقافية. فبعض افضل تلك المؤسسات واعرقها يعاني أزمة مالية قاتلة. المنتجون والمخرجون يهاجمون الحكومة لتوجيه كل اهتمامها الى الثقافة الشعبية. فهي، في نظرهم، تتحايل على تقاليد المسرح وتحوّل كل الرساميل لدعم أشكال فنية تعتبرها ذات قيمة معاصرة وجاذبية واسعة واحتمال اقتصادي. والعمال الجدد، عند نقادهم، يساوون أي مغني بوب بجون كيتس، كما يساوون بين موسيقى الريغي وبيتهوفن، "مفضّلين الفيلم والتلفزيون والفيديو وموسيقى الروك وهندسة العمارة والديزاين، على الموسيقى والرقص والمسرح الكلاسيكي"، بحسب سير بيتر هول المخرج والرئىس السابق للمسرح الوطني ولشركة شكسبير الملكية. انهم، بكلمة، "معادون للفن" وشعبويون. فالوزراء يظهرون في مناسبات تسليم الجوائز لمغني البوب، او في حفلاتهم، ولا ترى لهم أثراً في المسارح وبيوت الاوبرا. اما غرف الاحتفالات في 10 داوننغ ستريت فاصبحت أيضاً مكان حفلات الكوكتيل لنجوم التلفزيون والسينما والروك. وفي تفسير ذلك، عند التقليديين، ان بلير ومجموعته ذهنيتهم ذهنية الستينات. انهم قليلو الارتباط بكل ما "نحن" منشغلون به: بالتاريخ والثقافة الغربيين. الحجة هذه سبق استخدامها بكفاءة أعلى في الثمانينات، ضد "مجلس لندن الكبرى" حين سيطر عليه اليسار. قيل يومذاك، بقدر من الصواب وقدر من المبالغة الديماغوجية، ان المجلس ينفق موازنته كلها على الملونين والمثليين والمثليات. وانتهى الأمر بأن حلت مارغريت ثاتشر المجلس بقرار غير ديموقراطي. اليوم اليمين هو الذي يحتج ويكتب الرسائل من دون كبير قدرة على التأثير. ففي رسالة الى وزير الثقافة كريس سميث اواسط حزيران يونيو الماضي، قال سير كولن ساوثغايت، رئيس بيت الاوبرا الملكية في كوفنت غاردين، ان القاعة التاريخية ستغلق بعد تصليحها ما لم تتم مضاعفة المعونة المعطاة لها والبالغة اليوم 13 مليون جنيه سنوياً. فالمعونات للفنون، بما فيها ال160 مليون جنيه لمجلس الفنون، لم تزد منذ 1993. ويقدر المجلس ان هذا يعني، اذا ما اخذنا التضخم في الاعتبار، تراجعا بقيمة 15 في المئة. كذلك تأخذ هذه الأوساط على القرار الثقافي لندنية أصحابه. فالعمال الجدد منحازون للعاصمة كمدينة ديناميكية وليبرالية وتعددية ثقافياً واثنياً، لكن بريطانيا ليست كلها كذلك. فلندن هي اليوم، وعلى الضد من التقليد اللامركزي البريطاني، المركز السياسي والمالي والثقافي في آن. انها، بحسب تشبيه سترايكر ماكغواير ووليم أندرهيل، نيويورك ولوس انجليس وشيكاغو وواشنطن مجموعةً في مدينة واحدة. لكنها فيما غدت تهيمن في هذه الصورة المحكمة على بريطانيا، غدت الأقل بريطانيةً من أي مكان آخر في البلد. والبُعد هذا تترتب عليه نتائج أخرى: فالبليرية ورثت الثاتشرية في ما هي صوت الطبقة الوسطى، من دون وراثتها في ما هي نزعة قومية. هكذا كان العهد السابق قادراً بامتلاكه اللونين معاً على احتواء تناقضات لم يعد العمال الجدد قادرين على احتوائها. من ذلك مثلاً، وفي ظل الجنوح اللندني، ما بات يُعرف ب "التحالف الريفي" الذي يضم لوبي مصطادي الثعالب، وهي "رياضة" أريستوقراطية ووحشية في آن، وأصحاب مشاريع البناء من دون أي رادع في المناطق الريفية وشبه الريفية. هذا التحالف نجح في ان يسيّر تظاهرتين في العاصمة ضمت الأضخم بينهما 250 ألف شخص. والحال أن الدم الريفي يشكل شرياناً نافراً من شرايين الاعتراض: فالمداخيل الزراعية لبريطانيا هبطت العام الماضي بنسبة لم تقل عن 50 في المئة، فيما تأذّت الصادرات الزراعية من قوة الاسترليني، ما حُمّلت مسؤوليته الى بلير وحكومته! فإذا أضفنا الوجهة المتضاربة للأوربة والعولمة، بعد سحق ثاتشر النقابات، فهمنا مناعة بعض حصون العالم القديم الذي ظهر الهوليغان بوصفهم بعض أبطاله: ففي 1986، وابان التفاؤل غير المتحفظ بانتصار الكوزموبوليتية، أصدر مايكل اليوت كتاباً عن مدينة لندن توقع فيه اختفاء الخمّارة التقليدية Pub، "بعالمها المعتم الكئيب وكحوليتها الفاحّة الرثّة ومآكلها الجزيرية القديمة". قبل أيام فقط اعتذر عن توقعه ذاك، متوقعاً، في المقابل، أن تنتعش "ثقافة الخمّارة". اليسار، أيضاً، غير راضٍ عن السياسة الثقافية للعمال الجدد. الهوليغانية، عنده، نتاج عدم اكتراث بالفقراء وعدم اعتناء بتعليمهم وتثقيفهم. وإذا كانت أوساطه تنقسم، كما هي حال اليمين، في ما خص "الأمركة"، إلا أن شعبوية بلير تحظى بدرجة أكبر من اجماعه: ينبغي البحث، كما يقول يساريون كثيرون، عن "الأصوات" الانتخابية، لا عن الستينات وذهنيتها، وراء استسلامه للفنون الجماهيرية وثقافة البوب. انهم يتخوفون من ان يكون مصير الفنون على أيدي العمال ما كانه مصير الصناعات المعملية على أيدي المحافظين، ويكتب أحدهم مطلقاً درجة من التشكيك بالأولين تفوق درجة تشكيكه بالأخيرين: "المحافظون كانوا تذرّعوا في خفضهم المعونات عن الثقافة بانهم يريدون تشجيع القطاع الخاص على التقدم الى هذا الحقل، لكن التقليد الأميركي هذا ليس موجوداً بالقوة نفسها في بريطانيا. هذا ما كان يعرفه المحافظون جيداً حين كذبوا. العمال، من ناحيتهم، وفي ظل الشعبية التي أوصلتهم الى السلطة، كما في ظل العجز عن صياغة أي موقف ثقافي لليسار في مواجهة رأسمالية السوق المعولمة والزاحفة، لا يجدون ما يحوجهم حتى الى أن يكذبوا". العمال، عندهم، تابعوا سياسة المحافظين في تقليص المساعدات للفنون، فيما اجبر عجز الموازنات مسارح المناطق على الاقفال، مثلما أُجبرت الاوركسترات علي ان تقلص برامجها، والمتاحف على ان تفرض تسعيرة دخول. "الغارديان" في افتتاحية لها عن حال الثقافة، قررت ان الأزمة في الفنون "لها سببان تقريبيان: فالعمال ورثوا شهية ريعية، تسبب بها بخل المحافظين، وفاقمتها الحاجة الماسة للعائدات بهدف تمويل الأكلاف اليومية للمشاريع التي توفّر عائداتُ اليانصيب الكتلة الأكبر من رأسمالها. والثاني ان العمال أوضحوا أنهم فيما يبشرون ب"الصناعات الابداعية" فإنهم لن يوفروا لها التمويل. انهم ينفقون على برامج لخلق المهن وتأهيل الأيدي العاملة لها، بقدر ما يمضون في اهمال الفنون وتجاهلها". واختتمت بحدة غير معهودة دائماً: "ان الذين يرفضون اعانة الأمهات، المطلّقات أو غير المتزوجات، لن يعينوا الفنون". والصدمة على هذه الجبهة كبيرة. فحين وصل العمال للمرة الاولى بعد 18 سنة محافظة، ساد الافتراض بانهم سيدعمون الفن الذي لم يدعمه أسلافهم. برنامج العمال تعهد التزام حدود الانفاق المحافظ للسنتين الاوليين في الحكم من دون ان يلحظ اي معاملة استثنائية في ما خص الفنون. انطلاقاً من هذا الالتباس تم تطوير "سياسة التحايل على الموضوع". في ايار مايو الماضي بلغ العداء أقصاه بين الحكومة والأجواء الفنية المحسوبة على اليسار بالمعنى العريض للكلمة. فقد استقال جماعيا بعض أبرز وجوه المسرح والرقص من مناصبهم في الهيئات التحكيمية لمجلس الفنون. كانوا يحتجون على قرار الرئيس الجديد للمجلس غيري روبنسون، وهو ايضا رئيس مجموعة غرانادا التي تملك تلفزيونا وفنادق ومصالح اخرى. القرار بدا انه يستثني "الشعب" من الفنون انطلاقا من كيفيات صنع قرار سياسة العون الاقتصادي. 60 مخرجا ومنتجا وكاتبا مسرحيا كتبوا رسالة الى سميث يقولون فيها انهم قطعوا علاقاتهم بالمجلس كلياً. أوضاع المسارح الصغرى ومسارح المناطق تؤرّق هذه البيئة: مسرح غرينتش خسر ما يتلقاه من دعم وهو 180 الف جنيه. منطقة غرينتش نفسها هي التي تقام فيها القبة الألفية التي تقدّر كلفتها ما بين700 مليون جنيه وبليون! بعض رموز البيئة اياها تربطهم بالحكم علاقة بالغة السوء، لا تتصل أسبابها على الاطلاق بالأسباب الواردة أعلاه. المشكلة، هنا، هي تحصيل الضرائب من النجوم: ثروة ميك جاغر 140 مليون جنيه، وروني وود 45 مليونا، وكايث ريتشاردز 105 ملايين وتشارلي واتس 60 مليونا. والجولة التي بدأتها "رولنغ ستونز" باسم "جسور الى بابل" في ايلول سبتمبر الماضي، كانت قد درّت في أيار الفائت على الفرقة 53 مليون جنيه في 33 عرضاً! مع هذا بسببه!؟ يريدون التنصل مما يتوجب عليهم دفعه، فيتهمون الحكم بمكافحة الابداع. وعلى أية حال فإذا كان الرجعي في حجج اليسار ماثلاً على الدوام، بحسب ما عبّرت عنه مؤخراً ميلاني فيليبس في "الأوبزرفر"، شاكيةً من تقلص الثقافة "الى كرة قدم وجنس ... ثقافتنا الأعرض تمجّد أدنى القيم المشتركة"، فهذا لا يلغي حقائق مخيفة في القطاعين الخاص والعام: الخاص: بعض دور النشر البريطانية الكبرى. فالكاتب، إن كان كبير السن نسبياً، أو لم يكن صالحاً لتشكيل "صورة" Image مقبولة كشاب جميل أو كموضوع جنسي، غدا يواجه صعوبة تقارب الاستحالة في عثوره على ناشر. العام: تكهنات سوداء في ما خص أعمالاً تدخلية للحكومة. خضعت لهذه التكهنات تسمية الفنان "الطليعي" داميان هيرست ضمن قائمة المئة التي اختارتها البي. بي. سي. كأفضل فناني ومبدعي ورجال التسلية ونسائها في العالم، علماً أن أياً من أعضاء لجنة التحكيم لم يختره. كذلك حُجب لقب "سير" عن المسرحي هارولد بينتر وأعطي، بحسب تكهنات أخرى، لزميله ديفيد هير لأن الأول أخرج مسرحية تنتقد العمال الجدد. لقد نجح الهوليغان في نبش أحشاء الحياة الثقافية البريطانية. لكن الاحشاء ليست البدن كله. فبإجماع المراقبين، تبدو حال هذه الثقافة الآن أشد انتعاشاً من مثيلتها الفرنسية التي تتلقى من الدعم الرسمي ما لا تعرفه لندن. أكثر من هذا، وبقياس العلاقة مع فرنسا، بدأ الفرنسيون يتميزون خصوصية النتاج الثقافي البريطاني كمادة مستقلة تماماً عن تلك الأميركية، في معزل عن مختلف أحكام القيمة. وللمرة الأولى في التاريخ الحديث يلقى فنانو بريطانيا استقبالاً احتفالياً في باريس. ففي السينما، مثلاً، عُد فيلم "أربعة أعراس وجنازة" الثاني الذي شاهده الفرنسيون في 1994. كذلك سُجّل هناك اقبال واسع على أفلام "شالو غرايف" و"تراين سبوتنغ" و"مستر بين" و"براسد أوف"، وخصوصاً "فول مونتي". وفي المسرح حمل "المسرح الملكي الوطني" و"بيت الأوبرا الملكية" وغيرهما بعض أعمالهما التي عُرضت على الخشبات الباريسية. ومؤخراً بدأ المسرح الفرنسي يكتشف نصوصاً بريطانية متزايدة، فعرضت "الكوميدي فرانسيز" لتوم ستوبارد "أركاديا" بالفرنسية، ثم عُرضت "سكاي لايت" لديفيد هير، ثم استقدم برنامج "صُنع في بريطانيا" أربعة مسرحيين شبان الى العاصمة الفرنسية للتلاوة والنقاش. وفي التبادل الفني بين البلدين لوحظ أن الفرنسيين لا يزالون أميل الى تصدير "بضاعتهم التقليدية" قياساً بالبريطانيين الأشد ايغالاً في التجديد والابتكار. وحتى في عالم الأزياء حيث درج في فرنسا الاعتقاد بغلبة "الهرج والمرج" على الزي الانكليزي، شرع الفرنسيون يضمون البريطانيين الى الوافدين "المقبولين" من إيطاليين ويابان. فجون غاليانو وألكسندر ماكوين وستيلا ماككارتني باتت أعمالهم تتميز، بحسب وصف ناقد فرنسي، ب"الطاقة والقدرة على اثارة الصدمة مما نفتقد اليه". بلير لا يختصر بريطانيا، وحكومته لا تختصر مجتمعها، وسنته في الحكم لا تختصر سنوات وعقوداً خلت. أما الهوليغان، حتى الهوليغان، فيبدو أنهم فعلوا شيئاً جيداً هو أنهم أطلقوا النقاش. * كاتب ومعلّق لبناني