النفط يسجل زيادة بأكثر من 3 بالمئة    الأسهم الأوروبية تغلق على انخفاض    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي يحتفي بمرور 30 عامًا على تأسيسه    قتيلان في إطلاق نار في جامعة في فلوريدا    تشيلسي الإنجليزي يتأهل للمربع الذهبي بدوري المؤتمر الأوروبي    ممتاز الطائرة : الأهلي يواجه الاتحاد .. والابتسام يستضيف الهلال    «سلمان للإغاثة» ينفّذ البرنامج التطوعي الثلاثين في مخيم الزعتري اللاجئين السوريين بالأردن    ميلوني: نريد التعاون مع أميركا في مجال الطاقة النووية    الغزواني يقود منتخب جازان للفوز بالمركز الأول في ماراثون كأس المدير العام للمناطق    نائب وزير الخارجية يستقبل وكيل وزارة الخارجية الإيرانية    في توثيقٍ بصري لفن النورة الجازانية: المهند النعمان يستعيد ذاكرة البيوت القديمة    «تنمية رأس المال البشري».. تمكين المواطن وتعزيز مهاراته    تقاطعات السرديات المحلية والتأثيرات العالمية    هل أنا إعلامي؟!    فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين    الاستمرار في السكوت    في إشكالية الظالم والمظلوم    انطلاق مهرجان أفلام السعودية في نسخته ال11 بمركز إثراء    حتى لا تودي بك تربية الأطفال إلى التهلكة    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على الخليج    بعد 40 يوما.. ميتروفيتش يهز الشباك    ضبط إثيوبيين في عسير لتهريبهما (44,800) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    وزير الدفاع يلتقي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني    القبض على إندونيسي ارتكب عمليات نصب واحتيال بنشره إعلانات حملات حج وهمية ومضللة    وزير الدفاع يلتقي رئيس إيران في طهران    غدًا.. انطلاق التجارب الحرة لجائزة السعودية الكبرى stc للفورمولا 1 لموسم 2025    أمير القصيم يستقبل مدير فرع الشؤون الإسلامية    نائب أمير منطقة جازان يضع حجر أساسٍ ل 42 مشروعًا تنمويًا    نائب أمير جازان يرأس الاجتماع الرابع للجنة الإشرافية للأمن السيبراني    عبدالعزيز المغترف رئيساً للجنة الوطنية لمصانع الابواب والألمنيوم في اتحاد الغرف السعودية    نائب أمير منطقة جازان يطّلع على تقرير "الميز التنافسية" للمنطقة لعام 2024    أمير القصيم يستقبل منسوبي تجمع القصيم الصحي ويطّلع على التقرير السنوي    معرض اليوم الخليجي للمدن الصحية بالشماسية يشهد حضورا كبيراً    24 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح خلال الربع الأول من 2025    تجمع القصيم الصحي يدشّن خدمة الغسيل الكلوي المستمر (CRRT)    تخريج الدفعة ال22 من طلاب "كاساو" برعاية نائب وزير الحرس الوطني    إلزام كافة شركات نقل الطرود بعدم استلام أي شحنة بريدية لا تتضمن العنوان الوطني اعتبارًا من يناير 2026    جامعة الإمام عبدالرحمن وتحفيظ الشرقية يوقعان مذكرة تفاهم    مشاركة كبيرة من عمداء وأمناء المدن الرياض تستضيف أول منتدى لحوار المدن العربية والأوروبية    قطاع ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "التوعية بشلل الرعاش"    وفاة محمد الفايز.. أول وزير للخدمة المدنية    سهرة فنية في «أوتار الطرب»    مجلس «شموخ وطن» يحتفي بسلامة الغبيشي    زخة شهب القيثارات تضيء سماء أبريل    يوم الأسير الفلسطيني.. قهرٌ خلف القضبان وتعذيب بلا سقف.. 16400 اعتقال و63 شهيدا بسجون الاحتلال منذ بدء العدوان    معركة الفاشر تقترب وسط تحذيرات من تفاقم الكارثة الإنسانية.. الجيش يتقدم ميدانيا وحكومة حميدتي الموازية تواجه العزلة    5 جهات حكومية تناقش تعزيز الارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يشدد قيود التأشيرات على نهج ترامب    الأمير سعود بن جلوي يرأس اجتماع المجلس المحلي لتنمية وتطوير جدة    القيادة تعزي ملك ماليزيا في وفاة رئيس الوزراء الأسبق    أنور يعقد قرانه    "التعليم" تستعرض 48 تجربة مميزة في مدارس الأحساء    قيود أمريكية تفرض 5.5 مليارات دولار على NVIDIA    حرب الرسوم الجمركية تهدد بتباطؤ الاقتصاد العالمي    مؤسسة تطوير دارين وتاروت تعقد اجتماعها الثاني    قوات الدعم السريع تعلن حكومة موازية وسط مخاوف دولية من التقسيم    رُهاب الكُتب    سمو أمير منطقة الباحة يتسلّم تقرير أعمال الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستشهاد في ثقافة "حزب الله" وأجهزته ومؤسساته الاجتماعية والتعبوية . الجولة التي يكسبها الاسرائيلي بقتله مجاهداً يربحها الحزب ...فيضم الأهل والأولاد الى مجتمع الشهداء
نشر في الحياة يوم 26 - 06 - 2000

} إضافة الى الارادة الاقليمية، السورية والايرانية، قد يكون في رأس من صنع صورة "حزب الله" الأسطورية، وجعله، أخيراً، حزب المقاومة الوحيد في لبنان التسعينات من القرن المنصرم، هو تحوله مؤسسة للاستشهاد والشهداء. لكن هذا التحول لم ينجز فجأة ودفعة واحدة، بل عرف مسارات ومنعطفات ومحطات، تشكل وجهاً من وجوه تاريخ الحزب. ولولا الاستشهاد وصناعة الشهداء والمال الايراني، ما كان "حزب الله" قادراً على الاضطلاع بالدور الذي اضطلع به في لبنان.
في كتابه "المدينة الموقوفة" دار المطبوعات الشرقية - بيروت، 1975 تتبع وضاح شرارة سير "اهتداء" مجموعة من الشبان الشيعة الى "الاسلام الرسالي"، وانخراطهم في الأطر التنظيمية والتعبوية ل"حزب الله" الذي لم يظهر الى الوجود العلني والصريح إلا في سنة صدور الكتاب المذكور. لكن النشاط السياسي للاسلام "الأصولي" أو "الرسالي" الشيعي اتخذ تسميات كثيرة قبل سنوات من الاعلان الرسمي عن ولادة الحزب: "الحركة الاسلامية في لبنان"، "المقاومة الاسلامية"، "تجمع العلماء المسلمين"، وأخيراً "الحالة الاسلامية"، على ما كان يردد في كل يوم السيد محمد حسين فضل الله. أما حين وصلت طلائع "الحرس الثوري" الإيراني الى لبنان عام 1980، فلم يثر وصولها غباراً ولا لغطاً كبيرين، لا في بيروت ولا في بعلبك، بسبب "الزحمة الأممية" التي كانت منتشرة في لبنان برعاية المقاومة الفلسطينية.
سير الشبان "المهتدين" في "المدينة الموقوفة" تبدأ، ربما، مع مطالع إنشاء الحزب خلاياه في الضاحية الجنوبية، قبل إعلانه الرسمي عن ولادته. وقد يكون هؤلاء الشبان وأمثالهم من المتحلقين حول الدعاة والمشايخ المؤسسين للحركة الاسلامية الأصولية الشيعية، وعلى رأسهم محمد حسين فضل الله الذي نزل ونشط في بئر العبد، بعد نزوحه من النبعة عام 1976. والجامع المشترك بين الشبان "المهتدين" انهم كانوا في أواخر العقد الثاني من أعمارهم أو تجاوزوه بسنة أو باثنتين حين "اهتدائهم" الذي تزامن مع انتصار الثورة الخمينية في إيران عام 1978. ثم انهم جميعاً من المتعلمين، إما في السنوات الأولى من تحصيلهم الجامعي، أو أنهوا تعليماً مهنياً عالياً، أو ثانوياً، حين بدأت سير هدايتهم. أضف الى ذلك أنهم عرفوا "ثقافة سياسية" ما، أو انخرطوا في أحزاب "علمانية" البعث، الشيوعي، قبل اهتدائهم الى الاسلام الرسالي.
البؤرة المركزية في أحاديث الشبان عن هدايتهم هي كلامهم على "بناء شخصياتهم". ويكني هذا البناء عن مخاض ولادة فعلية ورمزية، حصل أثناء انتصار الثورة الخمينية. أما "جسر" الشبان الى الهداية فهو "مثقف من النخبة"، على ما يسمونه، ويقولون إنه "يضج بالحياة"، ويجمع الى الفتوة والشباب حكمة الشيوخ وعلمهم. والشخصية الأبرز عندهم بين "العلماء" هي شخصية الخميني، وعلى "مستوى الساحة المحلية"، السيد محمد حسين فضل الله هو المؤهل للقيادة.
طريقا الهداية والشهادة
تشير روايات سير الهداية الى أن "حزب الله" ركّز في عمله التعبوي في بدايات انطلاقه غير الرسمي أو العلني، على بناء شخصية اسلامية رسالية تنقض الشخصيات السابقة للمهتدين. هذا قبل أن يسعى الحزب في إرساء ركائز "مجتمع الحرب" الذي محوره الشهادة والاستشهاد والشهداء. والأرجح أن الحزب، منذ بدايات نشاطه غير العلني، عمل ونشط على خطين متوازيين:
- خط دعاوي داخلي، قوامه استقطاب شبان متعلمين وتثقيفهم ثقافة اسلامية رسالية خمينية على نحو ما يُقال لينينية، وإطلاقهم كدعاة يستقطبون شباناً من أمثالهم، على نحو فردي.
- خط عسكري سري، قوامه إعداد نوىً عسكرية مقاتلة واستشهادية. وقد يختلف المنضوون في هذه النوى عن المتعلمين المهتدين، في أنهم أصغر منهم سناً، ومن فئات اجتماعية محطمة ومعدمة، وفقدوا السند العائلي، ومن كثيري التهجير بين المناطق في الحرب.
والاستشهاديون هم الذين جعلهم الحزب، بعد استشهادهم بصفتهم أشخاصاً مجهولين في البداية، موضوع تعبئته الاعلامية في أعقاب إعلانه الرسمي عن نفسه عام 1985 الذي ابتدأت فيه جريدة "العهد" الناطقة باسم الحزب بتقليد زيارات "صحافييها" بيوت أهالي الشهداء وكتابة سيرهم. وفي هذه السيَر في "العهد" ربط الحزب معنى الشهادة بالمهدي والحسين وكربلاء، وحوادث السياسة العامة والحياة الاجتماعية والثقافية بالحياة الخاصة والشخصية والعائلية، ومجتمع الأحياء بالأموات والغائبين من طريق الأحلام والمنامات والرؤى. وهكذا ارتسم الموت الاستشهادي و"الإرادي" عملاً جليلاً وخارقاً، يختصر الحياة التي تكون خاوية ولا معنى لها ولا غاية قبل حدوث الاستشهاد وتحققه.
صناعة سيَر الشهداء وصورهم
بعد ظهوره الى العلن عمد "حزب الله" الى بث ثقافته الاستشهادية في "العهد" وعلى الجدران وفي الخطب اليومية في المساجد، باعتبارها الوجه الأبرز للتعبئة الحزبية والجماهيرية. و"ثقافة الاستشهاد" قوامها علو مرتبة الشهداء على مرتبة الأحياء، ورسمهم مثالاً على الأحياء السعي والجهاد في سبيل شرف الوصول اليه. وجاءت ثقافة الاستشهاد هذه تمهيداً لتحويل الشهادة والاستشهاد مؤسسة متصلة بالحياة الاجتماعية وشبكاتها. إنها "مؤسسة الشهيد" التي أنشأها الحزب، وغيرها من مؤسساته الرعائية، وجعلها ركن دخوله مجتمع الأهل واختراقه، ومدّ نشاطه الى أنسجة الجسم الاجتماعي والحياة العامة. وذلك بعدما استقطب شباناً أفراداً وألحقهم بأطره الحزبية، في منأى عن مجتمع الأهل.
ولينشئ الحزب مسلمين رساليين استشهاديين، عمل على انتزاع الشبان من أهلهم وإدخالهم في أطره ونسيجه التنظيمي، كي يعدّهم ويهيئهم للشهادة. وبعد استشهادهم فقط عمل على "إعادتهم الى أهلهم" ومجتمعهم، وصنع لهم ولحياتهم صوراً. وحده الاستشهاد يمنحها المعنى والوجود. فالشهيد لا وجود له ولا سيرة ولا حياة قبل استشهاده الذي يرفعه دفعة واحدة الى حيز الوجود العلوي أو السماوي الذي لا يجارى، ويمسي قدوة ومثالاً لطلاب الشهادة ومريديها. وليست لحظة الاستشهاد وحدها قدوة ومثالاً، بل إن طفولة الشهيد وصباه قدوة ومثال في ضوء الشهادة ونورها الباهر. وهذا هو معنى العبارات السائدة في الأدبيات النضالية على اختلاف نسخها: "الشهيد يحيا يوم مماته". لكن "حزب الله" جعل من الشهداء "سادة أهل الجنة"، و"سادة قافلة الوجود"، على ما كتب في شعاراته وملصقاته.
فالشهيد أحمد قصير، بطل العملية الاستشهادية ضد مقر القيادة العسكرية الاسرائيلية في صور - جل البحر وهذه من العمليات الاستشهادية الأولى للحزب، كانت أمه تظن أنه مخطوف، لغيابه أكثر من سنة ونصف السنة عن البيت واختفائه. ولم يكن يخطر في بال الأم أن ابنها هو الذي ستعلن "المقاومة الاسلامية" عن قيامه بهذه العملية بعد سنة ونصف السنة من حصولها. أما بعد إبلاغها بأنه هو من نفذ العملية فقد أدركت معنى خروجه الدائم من البيت قبيل الفجر، قائلاً لها إنه ذاهب للقيام بتمارين رياضية. وفي ضوء خبر استشهاده أمسى الابن مميزاً منذ طفولته، جريئاً وشجاعاً ومقداماً ومحباً للإمام الخميني. وهو الحبد الذي سحره وخطفه من أمه وأهله وأفضى به الى الشهادة التي ما كان لحياته وموته معنىً بدونها.
والشهيد محمد خضر البغدادي مواليد 1968 في الكويت التي هاجر اليها أهله من لبنان، وعادوا اليه عام 1979، وكان محمد في بداية المرحلة المتوسطة، ترك المدرسة وعمل مع والده في متجره حتى العام 1982، ثم التحق بالحزب بعد استشهاد ابن عمه أحمد البغدادي، وقرر الاقتداء به والسير سراً في طريقه، فراح يتغيب عن المنزل. لكن أهله كانوا يدركون سرّ تغيبه، ويبكونه في غيابه. وعام 1986 سافر الى إيران مدة 6 أشهر في دورة عسكرية. وهناك زار مقام الإمام الرضا والجبهة العسكرية بين العراق وإيران. وبعد عودته أحب البحر الذي ما كان يحبه من قبل، وعمل في صيدا صياداً على زورق. وحبه وعمله هذان ليسا إلا وجهاً من وجوه عشقه الشهادة في عملية عسكرية بحرية كان الحزب يعده للقيام بها، ونفذها حين حان موعدها: كان عازماً على زيارة خطيبته في جون، لما جاء إليه رفاقه واصطحبوه من بيته، فتغيب عنه ثلاثة أيام انتهت بوصول خبر استشهاده الى أهله.
والشهيدان أحمد يزبك وعلي أمهز، شأن محمد البغدادي، كانا صديقين لأخويهما اللذين سبقاهما الى الشهادة. فأحمد يزبك سبقه أخوه علي، وعلي أمهز تقول أمه إنه راح يتغيب كثيراً عن البيت ويقضي أوقاته في مقرات الحزب والتدريب، وكان أخوه الذي سبقه الى الشهادة موضع سره وصديقه.
وتتكرر في "العهد" سيَر الشهداء المولودين في دول الخليج العربي، أو المهاجرين اليها مع أهلهم في سن الطفولة أو الشباب. ومن هؤلاء محمد مقلد مواليد الكويت 1967، والعائد منها الى قريته الجنوبية مع أهله، وهو في سن التاسعة. وفي سن العاشرة التحق بدورة عسكرية متأثراً بعمه الذي كان منتمياً الى تنظيم غير "حزب الله". والده كان يتغيب في هجرات متتابعة الى دول الخليج، فيما تعلم الإبن في الكلية العاملية، وأقام عند أقاربه في الضاحية الجنوبية، وتدرب على يد "الحرس الثوري" الإيراني. وروى والده ل"العهد" أن ابنه محمد جاء أمه في المنام بعد مدة من استشهاده، فقال لها إنه لن يعود الى البيت إلا إذا غيّر والده طريقه وربما كان الأب مثل أخيه، عم الشهيد، منتمياً الى تنظيم آخر غير "حزب الله". وهكذا حمل الأب البندقية "الجهادية" في صفوف حزب ابنه بعد استشهاد هذا الأخير وحضوره في منام أمه، وإبلاغها رسالته الى أبيه.
والتزام المساجد له حصته من سيَر الشهداء. فالشهيد علي جرادي، وبيت أهله قريب من "مسجد الرسول الأعظم" في "الرمل العالي"، تذكر "العهد" أنه كان من بُناة المسجد ومن حراسه، وشب في محرابه. وأخوه ابراهيم، على ما روت أمه، كان قد استشهد عام 1984 على يد "القوات المارونية"، أمام المسجد نفسه. وفي سن العاشرة التزم ابراهيم الاسلام الرسالي. أما أخوه الأصغر علي، فسار في طريق أخيه، وتزوج في سن التاسعة عشرة من فتاة روت ل"العهد" ان الإمة الحجة أخبرها في المنام، قبل زواجها، بأنها ستكون زوجة شهيد.
شهداء "أهل البيت"
تصلح السيرة العائية للشهيدين الأخوين إ. ح وح.ح، لتكون نموذجاً لفئة واسعة من شهداء "حزب الله"، وعائلاتهم، في الضاحية الجنوبية، خصوصاً في الرمل العالي والأوزاعي اللتين ذكرت "العهد" في مستهل نقلها سيرة الشهيد أحمد يزبك أنهما المكانين اللذين "يفوح منهما شذى الشهداء" الذين "ينطلقون من بيوت الفقراء، بيوت الكرامة، بيوت الإيمان". وهؤلاء ينطلقون دائماً "مع الفجر"، و"ينطلق الفجر" بهم، ويكونون "مؤذني صلاته".
تتألف أسرة الشهيدين إ. ح وح. ح من سبعة صبيان وثلاث بنات، إلى الأم والأب. ونترك هنا لأفراد الأسرة رواية مقتطفات من سيرة الشهيدين الأخوين:
- الأب: منذ صغري اعتدت على الهجرة. قبل زواجي هاجرت الى الكويت عام 1961، وعام 1966، هاجرت الى ليبيا حيث ولد أربعة من أولادي. في حرب السنتين 1975 - 1976 ولد ح.ح ونشأ قبل عودتنا الى لبنان أثناء الحرب العراقية - الإيرانية. أولادي، منذ صغرهم، تربوا على الصلاة والصوم والاسلام، أما أنا فقد خسرت نشأتي الدينية. فالمدارس في الخليج، حيث تعلم أولادي، مدارس إسلامية.
- الإبن البكر شقيق الشهيدين الأخوين: في بداية الثورة الإيرانية جعلنا نشعر بشيء يشدنا الى إيران.
- الأب: بعد عودتنا من الخليج اشتريت أرضاً في الرمل العالي، الى جانب بيوت أقاربي وأبناء بلدتي، وشيدت عليها منزلاً لعائلتي. إبني الشهيد إ.ح ترك التعليم قبل إنهائه المرحلة الثانوية. كنا نعلم بعلاقته ب"حزب الله". ولما ذهب في دورة تدريبية الى البقاع عام 1994، وكان عمره 18 سنة، قصفت اسرائيل المعسكر فاستشهد مع 26 من عناصر الحزب، بينهم الشهيد ح. م ابن اخت الشهيد س.م. وهذا الأخير ابن خالي وعديلي، وكان مهندساً واستشهد عام 1986 في الجنوب. وهو من مؤسسي "حزب الله". ومن شهداء المعسكر ال26، ابن بنت أخ زوجتي.
- الابن البكر:معرفة أخوي الشهيدين بالشهيد س.م وصلتهما بالسماع. فس.م كان النموذج الأول الذي تمثل بالإمام الخميني، معتبراً أن القتال والاستشهاد مقدمة للآخرة والفوز بالجنة. واستشهاد القائد عباس الموسوي جعلنا نؤمن بعدم الفرق بين القائد والعنصر العادي.
- الأب: عندما استشهد ابني إ.ح كان عمر ابني ح.ح 14 سنة، ويتعلم في "مدرسة المهدي". وبعد استشهاد أخيه جعل يتصرف وكأن عمره 30 سنة، وينسجم مع الكبير والصغير، وتطوع في "الهيئة الصحية الاسلامية".
- الابن البكر: أنا وإخوتي الكبار لم ننخرط في العمل الحزبي، ربما لأن ظروفنا كانوا يساعدون والدهم في العمل في المهجر كانت أقسى من ظروف اخوينا الشهيدين.
- الأم: عندما جاؤوا لإبلاغي أن ابني ح.ح الأصغر استشهد، كنت واقفة على السطح. نزلت حين رأيتهم قادمين، ووقفت في باب البيت. وقبل أن يبشروني، قلت لهم: ح. استشهد، فبشروني....
- الابن البكر: شعور الوالدة بالحزن خارجي، سببه الفراق. أما شعورها الحقيقي الداخلي، فهو الفرح. وحين استشهد الشهيد ح. زارنا السيد حسن نصرالله، وبارك لنا، مثلما يزور دائماً بيوت الشهداء.
- الأب: كرامة الشهيد محفوظة لدى الناس كلهم. الجميع يكرّم الشهيد. والناس تلتف حول الشهيد. والقلوب كلها تنفتح للشهيد. والناس جميعاً ينصرونك ويعزونك، إكراماً للشهيد. ولما صار عندي للمرة الأولى شهيد، صار الناس يحترمونني ويقدرونني أكثر من السابق. وبعدما صار عندي شهيدان صرت أخجل من الذين هم أكبر مني كيف يبدون لي الاحترام والإكبار، وكيف صاروا يدعونني المختار.
- الابن البكر: كان أخي ح. يعتبر أن عليه أن يحفظ دم من استشهد قبله بتكفل أسرهم. أثناء عمله في "الهيئة الصحية الاسلامية" التقى فتاة مصابة بشلل، وعلم أن لا معيل لها، فأخذ يستعير سيارتي للخروج معها فيها.
- الأب: هؤلاء الشهداء الخمسة المعلقة صورهم في صدر البيت: ابناه، ابن بنت أخ زوجته، إبنا خاله اللذين أحدهما عديله أحياء في بيوتنا. كلما أستيقظ صباحاً أدور عليهم. وفي المغرب أتفقدهم.
الحزب مؤسسة استشهادية
تتشابه ثقافة الهداية في الإيمان الرسالي وثقافة الاستشهاد في أن كلتيهما تحتاج الى من يفتح للمهتدي ولطالب الشهادة أفقاً جديداً في حياته. و"حزب الله" في بداياته غير العلنية راح ينشر ثقافة الهداية على إيقاع انتصار الثورة الخمينية الايرانية المدوي بين الشيعة، الجنوبيين خصوصاً، والخارجين من حرب السنتين 1975 - 1977 الدامية والمريرة، والتي اقتلعتهم من ضواحي بيروت الشرقية ونثرتهم في قراهم الجنوبية والبقاعية، وفي الضاحية الجنوبية. ثم ما لبث اجتياح 1978 الاسرائيلي للجنوب أن أخرجهم من قراهم الجنوبية ونثرهم في بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية.
غير أن ثقافة الاستشهاد في بداياتها كانت تحتاج لتتسع قاعدتها وتنتشر الى قدوة وملهمين في نسيج الأهل والقرابة. فالشهداء الأوائل في السير التي صنعتها "العهد" لهم سرعان ما أمسوا قدوة وملهمين لإخوتهم وأقاربهم وجيرانهم في الأحياء. ومع ظهور "حزب الله" الى العلن كانت ثقافة الاستشهاد قد طغت على ما عداها في آلة الحزب التنظيمية والتعبوية، ولم تجد غير طريق القرابة وشبكاتها سبيلاً الى الشيوع والانتشار والفاعلية. فالاستشهاد الذي يقوم على بذل الدم تتسع شبكته في العلاقات الدموية الأخوية، والأسرية والقرابية التي سرعان ما عملت "مؤسسة الشهيد" على الانغراس فيها لتوسيعها ومدها الى أبعد من شبكات القرابة الدموية، من طريق تكفل أسر الشهداء. وقد راحت صناعة الشهداء تتنامى في الأحياء في أحضان القرابة والعلاقات البلدية التي استدخل "حزب الله" آلته التنظيمية والتعبوية فيها، بل طابقها معها. وقد يكون الجديد الذي أتى به الحزب واستدخله في هذه البيئات هو صهره الناس و ثقافاتهم في مرجل واحد، ليعيد صناعتهم وفق نموذج واحد موحد، جعلهم نسخاً متكررة تحيي طقوساً وشعائر واحدة موحدة، وترتدي أزياء متشابهة، وتمتلك لغة واحدة في كلامها في شؤون الحياة الدنيا والآخرة، وصولاً الى ضبط حركات الجسم والتشابه في السحنات والحركات والسكنات والجلوس.
وفي صلب العلاقات القرابية والأهلية أرسى الحزب آلته على ركيزتين اثنتين، متداخلتين: صناعة الشهداء، ومؤسسات الرعاية والتكفل والإعالة: عمل نسائي، عمل كشفي، حضانة أطفال، تعليم، طبابة، تعاونيات استهلاكية، تكفل أيتام وأسر شهداء، تأهيل مهني، حوزات دينية، تشييد مساكن في الرمل العالي... الخ. وقد ربط الحزب الشهادة والاستشهاد بميادين الحياة الاجتماعية، وجعل منهما حاجة اجتماعية. فربط أسراً وعائلات وشبكات قرابية وأهلية بآلته التنظيمية وبمؤسساته الرعائية، وجعل من وجوده واستمراره أمرين حيويين وضروريين لفئات واسعة من المجتمع الأهلي الشيعي. وكلما سقط شهيد ينظم الى "قافلة الوجود"، بحسب الانشاء الحزبي. والشهيد يأتي بشهيد جديد، ويكسب عائلة جديدة. وهكذا يجر الشهيدُ الشهيدَ، وينتشر الحزب في شبكات الاجتماع الأهلي، ويمسك بتلابيبها وخيوطها.
ما بعد الاستشهاد
ما أن يسقط للحزب شهيد حتى تبدأ أجهزته كلها بالعمل، وفق سيناريو نموذجي متكرر، يمكن تتبع فصوله في سير الشهداء التي تنقلها "العهد"، على وجه الآتي:
- مجموعة من إخوة الشهيد رفاقه تتوجه الى منزل أهله لتزف لهم "البشارة". وغالباً ما تتلقى أم الشهيد هذه "البشارة" التي قد تحدسها قبل أن يتفوه بها حاملوها. فالأم في الانشاء الاستشهادي هي مستودع سرّ ابنها الشهيد، وقارئة علامات استشهاده قبل حدوثه.
- ما أن يشيع خبر الاستشهاد في الحي حتى يتوافد الجيران والأهل والأقارب، ليس للعزاء، بل لرفع آيات التبريك، بحسب الانشاء نفسه. الكراسي تُصف في منزل أسرة الشهيد وأمام مدخله على الرصيف، لجلوس المتوافدين. في الأثناء يُنصب على السطح مكبر للصوت يبث الندبات الحسينية والآيات القرآنية، وأهازيج إيرانية أو معربة. أحياناً يصل أمين الحزب لرفع آيات التبريك.
- في اليوم التالي يصل جثمان الشهيد للغسل في بيت أهله أو في الحسينية. وفي الحالين تجري طقوس الغسل وفق مبتكرات "حزب الله": يجتمع حول جثة الشهيد إخوته في الحزب، تحياتهم الى إخوتهم الذين سبقوه في الشهادة. وبعضهم يودعونه أسرارهم وأمنياتهم لينقلها الى عالم الغيب ودنيا الآخرة. ومنهم من يكتب على أوراق رسائل وأدعية تُشَكُ في قماش الكفن ليحملها الى الجنة وعالم الخلود.
- بعد التشييع تبدأ صياغة سيرة الشهيد بصفته مثالاً وقدوة. صحافيو "العهد" يزورون منزل آل الشهيد لتدوين سيرته ونشرها في الصحيفة. ولأهالي الشهداء ليس أمراً عادياً أن تحتل صور أبنائهم وسيرهم صفحات جريدة تهلل لأفعال أبنائهم الخارقة وتذيعها في الناس. وهذا ما يمنح الأهل مكانة معنوية، معطوفة على مساعدات مادية يقدمها الحزب.
- إذا كان الشهيد متزوجاً وأباً لأطفال، سرعان ما تتحرك أجهزة "مؤسسة الشهيد": مندوبة التكفل في المؤسسة تقيم صلة بالزوجة - الأم، وتسعى الى إيجاد متكفل لأبنائه. فعبر "مؤسسة الشهيد" يعمل الحزب على إعالة أسرة الشهيد، وتعليم أولاده في مدارسه، وضم زوجته الى مجتمعه وأمته، أمة "حزب الله".
- أسرة الشهيد يملأ عليها الحزب حياتها. وكثافة العشائر والطقوس والرموز التي تتصل بثقافة الحزب تروح تغزو نوم أهل الشهيد الذين يروح بعضهم يبصره في منامه يرسل الاشارات والعلامات التي تدعو الحالم الى أن يكون في عداد أمة "حزب الله". كأنما الشهيد قد أمسى حبل السرة بين أهله والحزب وأمته.
وأنشئت "مؤسسة الشهيد" عام 1982، بعيد الاجتياح الاسرائيلي للبنان. وتعتبر هذه المؤسسة امتداداً لمثيلتها في إيران. ودورها الأساسي الحفاظ على ثقافة الاستشهاد حية حاضرة في النسيج الأهلي. والمؤسسة جسم كبير يضم نحو 1500 بين عامل وموظف ومتطوع، وتنقسم الى مديريتين اثنتين:
- مديرية العلاقات العامة والأنشطة.
- مديرية التكفل التي تدير أربعة برامج، أهمها برنامج تحفل أبناء الشهداء، وبرنامج التآخي مع زوجاتهم. وهذان البرنامجان وغيرهما من البرامج مصدر تمويلها الأساسي من الموارد التي تصل الى الحزب من إيران. وإذا كان الشهداء هم البذار الذي يبذره الحزب، فإن "مؤسسة الشهيد" هي التي تحتضن ثمار هذا البذار في أطر المجتمع العام، كي يظل يعطي شهداء جدداً، ويتسع الحزب وأنصاره وجمهوره في النسيج الاجتماعي. وهذا عبر البرنامجين الأساسيين: التكفل والتآخي اللذان محورهما أبناء الشهيد وزوجته. ويدير هذين البرنامجين جهاز نسائي له مندوباته اللواتي يتركز نشاطهن على السعي بين نساء المجتمع العام لحملهن على الانخراط في التكفل والتآخي. وعلى زوجة الشهير أن تظل أمينة على إرث زوجها والوفاء له ولحزبه. وإذا كانت الأحزاب الأخرى تنسى الشهيد وعائلته ما بعد استشهاده، وهذا ما يجعل الاستشهاد خسارة، فإن "حزب الله" غيّر هذه الصورة، في أن جعل "قيمة الانسان بعد استشهاده تفوق قيمته قبل هذا الاستشهاد". لذا أنشأت المؤسسة مركزاً متحفاً؟ لحفظ آثار الشهداء، يحوي وصاياهم التي تركوها لعائلاتهم. وتقول المؤسسة للمجاهد قبل استشهاده: أهلك وأسرتك في خير بعد استشهادك. أما للعدو فتقول: إن الجولة التي ربحتها عسكرياً بقتلك مجاهداً، قد ربحناها نحن اجتماعياً. أي إننا ضممنا أهلاً وأطفالاً وامرأة الى مجتمع "حزب الله"، مجتمع الجهاد والاستشهاد.
فشعار "مؤسسة الشهيد" المكتوب على الكراس الذي يعرّف بها هو: "نشر عطر الشهادة وحركة الجهاز في الأمة". وذلك فور سقوط الشهيد وارتفاع روحه الطاهرة الى الملكوت الأعلى... أما في الملكوت الأسفل، أي في الحياة الدنيا، فوظيفة المؤسسة ودورها هما المساعدة في إعداد طلاب مستعجلين في الانتقال الى الملكوت الأعلى، خلاصاً وتطهراً وفراراً من عالم الوجود السفلي واردانه.
في الانشاء الاستشهادي ل"حزب الله"، تحضر المرأة بصفتها حاضنة لمجتمع الشهداء الذي يشكل الرجال عصبه ومادته وصنّاعه عبر آلة الحزب. فبعد أن يضفي الشهيد على المرأة، أمه أو أخته أو خطيبته أو زوجته، هالات من نور قداسته، تمسي هذه المرأة الشخصية الأساسية في الإنشاء الاستشهادي، وفي إبقائه مستمراً. وخروج الشهيد من الحياة الدنيا وغيابه عنها يجعلانه حاضراً حضوراً تاماً وكاملاً في حياة الحزب وتراثه. ولكي يكون الحضور على هذه الصورة يحتاج الحزب الى أهل بيت الشهيد، وفي مقدمهم النساء اللواتي إليهن في الدرجة الأولى يعيد الحزب شهداءه، حين يعمل على إعادتهم الى أهلهم. هكذا يتقاسم الحزب مع الأهل مردود الشهادة، مدركاً أن هذا التقاسم يدخل الأهل، رجالاً ونساء، في آلته الحزبية.
وللمرأة دور آخر، ربما أهم من الشهادة في تعبئة "حزب الله" وإنشائه. وإذا كان الحزب هو المولد الروحي والأخلاقي للشهداء، فإن المرأة هي المولد البيولوجي أو الجسماني لهؤلاء الشهداء. والمنتمي الى حزب الشهداء في قوله للمرأة: "حجابك أختي أغلى من دمي"، إنما يعني أن المرأة إذ ترتدي الحجاب وتنضوي في أمة "حزب الله"، تصير منجبة شهداء وحاضنة شهداء، وأمينة مع الحزب على دماء الشهداء وشرفهم. وهذا يعني أن الحزب يعيد صناعة نسائه، عل ىنحو ما يصنع شهداءه. وكما ان الحسين نموذج ومثال للشهداء، فإن شقيقته زينب هي نموذج ومثال للنساء، ما دامت الرواية الكربلائية هي التي ينسج الحزب على منوالها، منذ استشهاد الحسين حتى يوم الدين، ليبقى نهر الشهداء متدفقاً حتى ظهور المهدي.
فماذا في وسع "حزب الله" أن يفعل حين يُرغم على إيقاف صناعة الشهداء؟
* روائي وصحافي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.