حفل مهرجان "كان" هذا العام، على عادة معظم دوراته السابقة، بأفلام يابانية تنضح بالمميز سينمائياً وجمالياً، وتعبر عن حب رائع لفن يتجدد شبابه هذه الأيام تلقائياً بفضل جيلين أو ثلاثة من سينمائيي الشرق الآسيوي، موزعين بين الصين وتايلاند وكوريا الجنوبيةواليابان على وجه التحديد. "يوريكا" من المخرج الجديد شنجي أيوواما هو الأفضل بين ثلاثة أفلام يابانية شاهدناها في دورة "كان" الأخيرة. الاثنان الآخران هما "تابو" لناغيزا أوشيما، أشهر الثلاثة العائد الى السينما بعد غياب أربعة عشر عاماً، "وفيلم نوار" لماساهيرو وكوباياتشي الذي قدم في إطار "نصف شهر المخرجين". "فيلم نوار" تشويق جنائي بطله ريو ايشيباشي، رجل عاطل من العمل منذ مدة لكنه يدعي أمام زوجته نيني اوتزوكا عكس ذلك. كل يوم ينطلق بسيارته موهماً إياها بأنه ذاهب الى المكتب، لكنه يتوجه الى البلدة القريبة حيث يدخل مركزاً لألعاب التسلية، يقامر طوال الوقت. ومرة في الشهر يحول من حسابه السري ما يعادل الراتب الذي كان يتقاضاه. لا علم لنا كيف لم تكتشف زوجته حقيقته باتصال هاتفي عادي الى مكتبه، لكن الرجل متأزم بصمت وإن كان لا يسعى الى حل أو الى إطلاع زوجته في الحقيقة. وسط ثلوج المدينةاليابانية الشمالية التي تقع فيها الأحداث، يتقدم منه ذات يوم رجل من دون اسم كن أوغاتا يعرض عليه فك ضائقته بتحويله قاتلاً مأجوراً. في البداية يمتنع بطلنا، لكنه يقبل على مضض وتنفيذ المهمة الأولى كان مثيراً، فيقبل الثانية وينطلق في ذلك الدرب الذي نعرف أن عاقبته ستكون وخيمة. لا شيء في "فيلم نوار" يستحق التسجيل على الصعيد الدرامي، لأن لا شيء حقيقياً يقع حول هذا التلخيص أو انطلاقاً منه. أوباياشي يرمي السينما الفرنسية بتحية عبر تسميته فيلمه ب"فيلم نوار" وتحديداً المخرج جان - بيار ملفيل، عندما نرى بين أفلام الفيديو التي يملكها الزوج/القاتل فيلم ملفيل "جيش الظلام". لكن أوباياشي يعمد الى تجريد الفيلم من أي عنصر غير أساسي ثلاثة ممثلين ناطقين وإخلاء الأماكن من أي إضافة أو حشو أو حتى حياة أخرى غير تلك التي تتنفس أمامنا ببطء جديد. جدل "تابو" فيلم ناغيزا أوشيما "تابو" يثير الجدل لا بسبب ما يعرضه، بل أكثر بما لا يعرضه، خصوصاً أن كثراً من نقاد الغرب انتظروا فيلماً أجرأ تناولاً لموضوع الشذوذ الجنسي في عالم محاربي الساموراي منتصف القرن التاسع عشر. لكنه خيبة الأمل ليست في أن فيلم أوشيما الأول مذ قدم "ميري كريسماس، مستر لورنس" عام 1983، يذكر ولا يتعمق في تقديم هذا الموضوع، بل في أنه يأتي أقل أهمية، في مسيرة أوشيما أو في مسيرة سينما اليوم اليابانية، مما توقع البعض. قصة تلميذ ساموراي شاب اسمه كانو روهاي ماتسودا يجد نفسه في صراع بين أكثر من ساموراي تلامذة ومعلمين يحاولون الفوز به، بينهم الملتحق حديثاً به تاشيرو تادانوبو أسانو الذي يغويه منذ البداية ويعتبره صبيه. لكن عاشقاً جديداً ومن مرتبة المعلمين اسمه يوزاوا توموروو تغوشي يرمي بنفسه في الدلو معجباً بجمال الشاب ليلقى حتفه بعد حين ما يدفع بالقيادة الى فتح تحقيق يديره توشيزو بيت تاكيشي الذي كان أدرك سريعاً، كنه العلاقة بين كانو وتاشيرو، وإن لم يشأ إدانتها. في تطور الأحداث تطوراً بسيطاً، ما بين بداية الفيلم ونهايته، تبسيط لموضوع كان في حاجة الى تعميق والاكتفاء بقشور قضية تتعلق بكبرياء تراث الساموراي الياباني. لكن أوشيما يفعل ذلك ويبدو في أحيان كثيرة خلال العرض، كما لو كان يتسلى ويسلي بالموضوع الذي بين يديه. وإذ يستوحي فيلمه من عملين كتبهما المؤلف الياباني الراحل رايوتارو شيبا، يبتعد عن شحنه بأي علامة عاطفية من لدنه. صحيح أن لديه مشهداً ساخناً واحداً، لكنه لم يمتنع عن استعراض الحياة الجنسية كاملة وعلى غرار فيلمه الأشهر "امبراطورية الحواس". كذلك نراه ممتنعاً عن استغلال الفيلم في در مشاهد قتال ربما ينتظرها - حتى منه - هواة أفلام الساموراي. هذا الامتناع جيد، لكنه ليس بديلاً من التسطيح الذي يسيطر على مناحي الفيلم حين يصل الأمر الى تقديم شخصيات أهم وأعمق من الماثلة على الشاشة. تصوير متقن من تويوميشي كوريتا وتمثيل جيد من الجميع خصوصاً من بيت تاكيشي، الذي هو أكثر شهرة تحت اسم تاكيشي كيتانو، مخرجاً وممثلاً لعدد من أفلامه الخاصة. ما يضفيه تاكيشي على الفيلم نظرة فاحصة وساخرة يستخدمها لإلقاء ظلالات الشك على رجولة من كنا نعتبرهم رجال التاريخ الياباني. بطء التمعن "يوريكا" ثالث الأفلام اليابانية، مختلف تماماً عن الفيلمين الآخرين. إنه أثرى وأجمل وأبطأ منهما معاً. لكنه بطء من ذلك الذي يستخدمه ألكسندر زوخوروف وثيو انجيلوبولوس وكان من ملكيات أوزو الياباني وتاركوفسكي الروسي. البطء الحامل في طياته دعوات الى التمعن في كل شيء معروض من السحابة العابرة الى الحركة الماثلة، الى الجماد والأشياء المختلفة التي يرصفها المخرج، ومدير تصويره ماساكي تامرا بعناية. المخرج شنجي أيووياما ناقد سينمائي يكتب في النسخة اليابانية من "دفاتر السينما"، وينتج ويكتب ويخرج أفلامه على نحو مستقل. هذا الفيلم، غير التجاري في اليابان أو سواها أيضاً، هو خامس أعماله مذ قدم أول أفلامه "بلا عون" عام 1995، وهو كتب سيناريو الفيلم وتولى توليفه وكتابة موسيقاه مندفعاً بفكرة تبحث في متسربات حادث مأسوي في نفوس ثلاث شخصيات يقاد لها أن تلتقي بعد عامين على ذاك الحادث. في جنوب شرقي اليابان صبي وشقيقته الصغيرة يقفان عند موقف حافلة في طريقهما الى المدرسة. الأم من بعيد تلوح بيدها كما لو كانت سراباً وستصبح كذلك. الحافلة تصل يصعد الشقيقان إليها ويجلسان في المقعد الخلفي وتنطلق الحافلة على الطريق الريفية. في محطة تالية يصعد رجل لا نعرفه ولن نعرف دوافعه ويشهر مسدسه على السائق المرتعد. قطعٌ ليد على الأرض مضرجة بدم صاحبها، ونعلم من اللقطة التالية أننا في موقف سيارات خال من السيارات! والشرطة تحيط بالمكان. السائق والقاتل يهبطان من الحافلة. الأول رهينة ويرتجف خوفاً ثم يقع أرضاً. تفتح الشرطة النار، يسعى المجرم الى الصعود الى الحافلة محاولاً قتل الطفلين، لكن رئيس القوة الأمنية يعاجله بطلقتين ويرديه. لا يتحول الفيلم دراما بوليسية، على رغم أن هناك، بعد عامين من وقوع الحادث، سلسلة من جرائم قتل النساء لا أحد قادراً على كشف فاعلها. الحادث نفسه، يترك السائق ماكوتو كوجي ياكوشو إنساناً مضطرباً وغامضاً. إنه قليل الإفصاح يحارب عدواً في داخله وقد يكون القاتل الذي يبحث عن الشرطة وزوجته تركته على حين غرة. الطفلان - اللذان لم نسمعهما يتكلمان قبل الحادث - يبقيان على صمتهما التام. والدهما يموت، وأمهما تتركهما وترحل لقطة بعيدة لها وهي تسير مبتعدة ويبقيان في بيت كبير وينقطعان عن المدرسة. لكن ماكوتو يزورهما ويطلب منهما استقباله في بيتهما فيفعلان. في مقابل ذلك ينظف البيت ويرتبه ويجعله مجدداً مكاناً لائقاً للسكن. وبعد حين يصل أيضاً ابن عمهما الشاب اكيهوكو يوهيشيرو سايتو ليمضي إجازته، وهو يضيف الى العائلة المكونة حديثاً ثقافته العملية من ناحية وأنانيته الخاصة من ناحية ثانية. إذ تزداد الشبهة على ماكوتو ويقبض عليه عقب جريمة قتل ذهبت ضحيتها امرأة كان أوصلها الى البيت يقرر أن يشتري حافلة صغيرة قديمة ويحولها الى سكن وينطلق وباقي أفراد هذه العائلة في رحلة طويلة. هذه الرحلة هي التي ستكون بمثابة إدراك الذات للأخرى والإجابة عن الأسئلة الكثيرة الواردة في صلب الموضوع وحوله. سنعرف من هو القاتل ولن يكون ماكوتو، وسنتابع مصير الفتاة وشقيقها ونسمعهما يتكلمان للمرة الأولى. الأهم، سنهبط الى درك الواقع المحبط الذي تعيشه شخصيات الفيلم في دورانها حول الذات، ونصعد الى قمة اكتشاف الواحد حقيقته وذاته بعد طول مخاض. صُوّر الفيلم بالألوان، ثم غيبت ألوانه وقت الطبع عن قصد، ما جعله يبدو أقرب الى أن يكون أبيض وبنياً فاتحاً ورمادياً خفيف أكثر منه أبيض وأسود كما ذهب البعض في وصفه. وهذا ما مكن المخرج من استبعاد النظرة اللونية المحددة بالأبيض والأسود وتأثيراتهما الجمالية من دون الاضطرار الى تصوير الفيلم بالألوان الا في مشهد نهائي تماماً تبتسم فيه الحياة للمرة الأولى في الفيلم. كذلك هو في ثلاث ساعات و37 دقيقة طويلة ورتيبة، وقد تدفع بالمشاهد الى الجنون، لكن الكثير من القيمة الدرامية ينتج هنا عن الإمعان المطلوب والمعايشة الكاملة لحياة لا يمكن استعجالها ولا يود المخرج خيانتها بسرد موتور. وثمة ملاحظة مهمة أن قدرة أيووياما على توفير المشهد القوي فنياً والثري في محتوياته، بصرف النظر عن المعروض فيه. لا تبارى بين الأفلام التي شاهدناها هنا. وهو مقتصد من حيث إلغاؤه أي حشد لغوي في أسلوبه وسرده، وإبقاء العمل بسيطاً وقوياً في آن.