يختار علي المزعنّي، بحكم اختصاصه وتدريسه مادة القانون في الجامعة التونسية، عنواناً تتعذّر ترجمته الحرفية بسبب تلاعبه بمفردات قانونية. ويمكن ان نفهم من هذه الترجمة الحرفية للعنوان "امكنة مجالات الهوية وعدم سماع الدعوى" انها تشير الى "الهوية بين الوجود واللاوجود". صدر الكتاب دار الجنوب - تونس باللغة الفرنسية، محققاً بذلك تعالياً مزعجاً على اللغة العربية، لا من حيث هذا الاختيار فقط، بل من خلال انتقاد اللغة العربية ايضاً في قواعدها ومحمولاتها الثقافية والحضارية. ومع انّ هذا الكتاب وضع لاشعال حرائق من النقاش والجدل، فقد حدّدت لغته الفرنسية اهماله نسبيّاً، اذ تبدو افكاره معتادة في كتب المستشرقين ومنتقدي "العقل العربي". وهذه قائمة بإحالات المؤلف تعطي فكرة عن جرأته في هذه المقاربة التي لا تخلو من مبالغات ناجمة، في اعتقادنا، عن مصادرات متسرّعة وتعميمات تأتي حيث لا ينبغي التعميم: قراءة العرب، والعقل العربي، قراءة انتروبولوجية تراوح كثيراً عند كلود ليفي شتراوس وتحليله للمجتمعات البدائية، ولا تفارقه كثيراً الى احدث الدراسات الانتروبولوجية الا للاستشهاد بآراء شبنغلر وفولتير وغرونباوم وهنتنغتن وهابرماس وبروديل وجاك بيرك وفوكو وفوكوياما ولوغوف الخ، ومن عندنا: ابن خلدون ولسان العرب والمعري وابن رشد والغزالي والطبري والطهطاوي وطه حسين واحمد امين وحسن حنيفي وادوارد سعيد والعروي والجابري وهشام جعيط. يبحث المؤلف عن الهوية "العربية" فيلجأ الى تحفّظين: يتحفظ بدءاً على اللغة العربية كما سنرى، ويؤكد ان الكاتب، اي كاتب "لا يفقد روحه ولا هويته اذا كتب في غير لغته". ويبدو الكاتب مدركاً قوة "الصدمة" التي قد يحدثها كتابه، لذلك يصدّره بفقرة من الكاتب الفرنسي ديدرو: "اراهن على القليل من القراء ولا اطمح الا الى قليل من الرضى. ان لم ترق هذه الافكار لاحد، فمن الممكن ان تكون سيئة، لكنني اعتبرها مقيتة اذا راقت للجميع". يتدرّج علي المزغنّي في نزع "القداسة" عن مكونات الهوية منادياً بضرورة عدم الخوف من "الآخر" من اجل معرفة الذات. ذلك ان العرب، منذ اعادوا اكتشاف الغرب في القرن التاسع عشر، لجأوا الى استخدام الهوية متراساً او سوراً في مواجهة مصائبهم الخاصة لان تلك المصائب ناجمة عن الآخر. خطاب الهوية يهيمن على سلوك المحكومين ويقولبه، ويحدّد كذلك مواقف الحاكمين. وهو خطاب يؤدي الى طريق مسدود: فلا هو فرض الخاص ولا هو لبّى الطموحات. هذا التناقض هو تناقض الشعوب العربية نفسها. وحدة العرب ثقافية محض، متصوّرة فقط. في حين ان واقعهم متعدد قانونياً. تتشكّل الهوية من الانتماء الى دول قومية في حين يستبعد خطاب الهوية هذا النوع من الانتماء بسبب الرغبة في الوحدة، فيظل متعلّقاً بالثقافة الواحدة واللغة والدين. وهي عناصر مشتركة بمقدار ما هي "ثابتة". اما القانون فهو متحرّك. ويكفي ان يُخضع القانون ليتحوّل الى عنصر من العناصر الثقافية. وبذلك تتم المحافظة على القاعدة القديمة: تخليد نموذج الاسلاف المقدس. فلا يتم التعرف إلى الهوية الا ضمن قانون ذائب في الثقافة، هي تركة الماضي. وهذا هو القانون الوحيد الذي يسمح بالتميز عن الآخر. وهكذا تصير العلاقة بالآخر علاقة بالذات. ومن تناقضات خطاب الهوية، كما يضيف المؤلف، ان الحداثة تفهم بمعنى قوة الدولة التي تعقلن فتقمع. واذا بخطاب الهوية يتسلح باسلحة الآخر ويستوردها. فيغدو ذلك مبرّراً لاستبعاد الديموقراطية والحريات الفردية وجعل حقوق الانسان نسبية. وفي المجتمعات العربية تحتل السياسة المجال كلّه على حساب اي تحليل للوقائع او بناء للفكر. التقنية تعوّض العلم، والسياسة تقصي الفلسفة. دائماً هناك عودة إلى العصر الذهبي، على اساسه يبنى المستقبل ويحاكم الحاضر. في مجال الثقافة يستدعي الفكر الذاكرة لا العقل، ويسكت عن الجديد: العلمانية مثلاً. وخطاب الهوية يفضل التغريب اللاواعي على التحديث الارادي. وعند الحديث عن "الامة" يكون ثمة حنين الى امة اسطورية تفضَّل على الدولة القطرية القائمة. فهل يمكن انكار الواقع الراهن للدول القائمة باسم قراءة ذاتية للماضي؟ والوحدة، في نظر المؤلف، تعرقل التحديث لانها تعود بالضرورة الى منابع ايديولوجية ثقافية ماضوية توحيد اليمن باجهاض الاصلاحات، احتلال الكويت باسم الوحدة. ما اهمية الامة من دون دولة؟ من نتائج غياب الدولة الاحداث التي عاشها كلّ من لبنان، بورندي، رواندا والصومال. وعندما ينتقل المؤلف الى اللغة العربية لا يعتبرها لغة تواصل بل لغة هوية. ذلك ان الانتماء الى امة فوق - قومية توافقه لغة تتعالى على الاختلاف وتلغي التنوّع. ويزعم المؤلف ان اللغة الفصحى تستخدم لانكار الاقليات اللغوية في الداخل، وكذلك لانكار ثقافتها وحقها في الوجود. وكأن المسألة ليست سياسية! وعبر الفصحى يفرض الماضي هيمنته وكأنّ اللهجات غير معبأة بمعتقدات الماضي ومقدّماته!. واذا اضيف الى اللغة العربية والامة العربية، الخطاب السياسي الرسمي، فالنتيجة: شعب بعيد عن دولته، ودولة بلا لغة. لذلك يتساءل المؤلف: هل يمكن امة ان تنبني على لغة لا يتكلمها احد من افراد شعبها، في الحياة اليومية؟ ويجيب: ان الشرط الاول للديموقراطية هو لغة الشعب. والفصحى اليوم تعبّر عن الانفصام. هي لغة رسمية. ليست لغة الام. نشأت وتطورت نهائياً قبل قرون في / ومن اجل مجتمع اول. فهل تستطيع التعبير عن الحداثة من دون ان تتغير في قواعدها؟ وهكذا ينتقد المؤلف وجود اربعة عشر ضميراً لتصريف الفعل. وبداية الجمع انطلاقاً من ثلاثة اشخاص، التمييز بين المذكّر والمؤنث في المخاطب والامر! وحتى اللغة العربية الكلاسيكية / الحديثة تحولت الى لغة صحافة، لكنها عربية مبسطة في مفرداتها وليس في قواعدها. ويتابع في مؤاخذة اللغة - والذنب ذنب أهلها! - في مجال التعريب تحديداً. فالمؤلف يذكر تعريب الفلسفة في تونس، في السبعينات والثمانينات، وهو الامر الذي ادى الى "القضاء على الفلسفة وانصراف مدرسيها الى تحسين لغتهم العربية والعودة الى التراث الفلسفي الاسلامي" ولم يكن هذا الاختيار ناجماً عن استخدام اللغة العربية بل كان اختياراً سياسياً املته ظروف محاصرة المدّ اليساري في تونس! وتكفي الاشارة الى ان الفلسفة في كل اتجاهاتها المادية والمثالية تدرّس في الجامعات اللبنانية والسورية وباللغة العربية ايضاً، من دون ان تكون اللغة عنصراً او وعاءً يشد الى الوراء! ويشنّ المؤلف حملة على التقنيين والمتخصصين في العلوم والذين يجهلون اسس العلم وتاريخه الحقيقي. لا شيء تأسس في هذه اللغة، لا تجديد، لا اكتشافات علمية، لا فلسفة والقليل من الادب. انه انحطاط كلّ شيء تقريباً. فهل المشكلة في اللغة؟ وهل اعطى مستخدمو اللغة الفرنسية الا قليلاً من الادب؟ ويقول ان المنجزات القليلة في المغرب العربي وبالاخصّ في تونس الاحوال الشخصية، الغاء القبلية، المحاولات العلمانية يتم التراجع عنها، بل ان المغرب العربي يزداد "استشراقاً" بسبب المسلسلات المصرية! وباتت الازدواجية اللغوية والثقافية مستبعدة لمصلحة لغة واحدة وثقافة واحدة والتعريب هو السبب! ولا ندري اين يجري هذا التعريب؟ وتحت عنوان "تخليد النظام الموروث" يرى المؤلف ان العرب لم يأخذوا كلمة "استوريا" اليونانية الدالة على التاريخ وفضلوها ل"الاسطورة" ثم ابتدعوا كلمة تاريخ كمعرفة مؤسسة، ومراقبة للاحداث الماضية والحاضرة. وهكذا استقرّ الموروث في الازل كي لا يتم تسجيل المسافة التي تفصل بين الحاضر والمستقبل. وسوف ينتقد الغرب في هذا المجال لكنّ شهادته الايجابية عنّا، مرحّب بها! يبدو المؤلف متحمّساً في المطالبة، غير المباشرة، بتبنّي كل المنجزات التي حققتها الثورات التاريخية والمعرفية في الغرب. فالنموذج الياباني لم يقتصر على عناصر داخلية بل استورد تقنيات الغرب وعلومه، والقانون المدني الفرنسي، والفلسفة التي لم يعرفها المجتمع الياباني، وكذلك الموسيقى الكلاسيكية. فالحداثة، يقول المؤلف، هي امتلاك لتجارب الانسانية، وليست مجرّد الاقتصار على طلب تكنولوجيا الآخر. لم يتم تمثل القطيعة الكوبرنيكية، ولم ينجح الفصل بين المقدس والدنيوي. وما من حداثة في اللاشعور ولا في المخيّلة الشعبية. ويظلّ خطاب الهوية يبحث دائماً عن كبش المحرقة: الكولونيالية، الامبريالية، والغزو الثقافي، اليوم! هكذا تكتمل الصورة المظلمة. وآخر معاقل النضال ضدّ الظلامية: المرأة. اما اللغة العربية، فتبقى للتواصل ايضاً: وهذا ما افعله معكم، الآن.