الترجمة بالنسبة الى الباحث المغربي عادل حدجامي سؤال خطير، لا يتعلق بالنصوص المترجمة وحدها إنما يخص مصير اللغة عموماً، باعتبار أن اللغة جوهر كل حضارة ومستودع تجربتها الوجودية فكراً ووجداناً. واللحظات الفارقة التي عرفها التاريخ وفق حدجامي هي لحظات الترجمة. ويؤكد أنها أهم شيء ينبغي التفكير فيه اليوم، والتأسيس له في الثقافة العربية المعاصرة، «فلا فكر إلا بالترجمة، بل أكاد أقول إن التأليف «في فعل» اليوم هو الذي يتخذ صورة ترجمات، ولهذا يجب أن نطرح بإلحاح هذه القضية، ليس في الفكر الفلسفي وحده بل في الأدب والسياسة والعلم والتقنيات والفن وغيرها». يرفض الباحث المغربي، المهتم بفلسفة الأخلاق والجمال، الفوضى في الترجمة، التي تجعل أبناء اللغة الواحدة لا يفهم بعضهم بعضاً عند استعمال المفاهيم نفسها في المجال الواحد. ويرى أن مجهود بعض المؤسسات التي تعنى بالتعريب غير كاف، كما أن اجتهاداتها تظل غير مفعّلة، «ينبغي أن يرتقي هذا الأمر ليصير اختياراً «سياسياً» في الثقافة، فاللغة العربية هي مكون استراتيجي عميق لهذه المنطقة من العالم، وهي موضوع رهان لهذه الشعوب من جهة انها تشكل عنصر وحدة». لكن اللغة تعاني اليوم هجمة شرسة من الإعلام، كما يذكر، الذي صار يتوسّل شيئاً فشيئاً باللغات الدارجة وباللغات الأجنبية. يعتقد حدجامي، الذي يؤكد أهمية التأسيس للترجمة ليس فقط من جهة الإنتاج إنما من ناحية النشر والاستعمال والتداول، أن الرجّات الكبرى التي أحدثتها فلسفة الاختلاف في تاريخ الفكر، هي من العمق والقوة، تلزم الباحثين بالاهتمام بها، من هنا كان اشتغاله على المفكر الفرنسي جيل دلوز، فأصدر كتاب «فلسفة جيل دولوز في الوجود والاختلاف» (دار توبقال للنشر في المغرب) وفاز بجائزة الشيخ زايد عن فرع المؤلف الشاب، وفيه يتأمل ويتقصى فكر هذا المفكر الفرنسي الإشكالي وفلسفته. كتاب يمكن اعتباره تحدياً مع الذات، «فقد كنت وجدت في فهمه حينها صعوبة، خصوصاً أنني ابتدأت قراءته بأحد كتبه الأكثر صعوبة «أوديب المضاد»، ومن حينها وأنا في هذا الرهان الذي أخذ مني كل هذه السنوات، وهي سنوات كانت متعبة وشاقة صحيح، لكنها كانت أيضاً غاية في الإمتاع». عرف دولوز بصفته من أكثر المفكرين الغربيين اقتناعاً بعدالة القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وكتب في هذا الشأن نصوصاً واتخذ مواقف شجاعة جعلته متهماً بمعاداة السامية، ومع ذلك فحضوره في الثقافة العربية جاء متأخراً، أو على الأقل لم يكن في مستوى الاهتمام نفسه، الذي لقيه ميشيل فوكو وجاك دريدا، ودائماً ما يحضر اسمه مقروناً بهما، وذلك بسبب طبيعة كتاباته وأسلوبه، «فدولوز ليس مثقفاً عمومياً، بل هو فيلسوف عميق ذو أسلوب خاص وقراءته تستدعي ثقافة فلسفية عالية، لأن في خطابه مطويات وتضمينات تجعل من هذه القراءة مسألة صعبة حتى بالنسبة الى أبناء لغته وثقافته. لهذا فمن الطبيعي أن تأتي محاولة فهمه مبدئياً هكذا، أي بإدخاله في إطار تيار عام مثل البنيوية وما بعد الحداثة وغيرها، وهذه كلها تصنيفات لا قيمة لها في الحقيقة». لم يكن دولوز بنيوياً، كما يقول حدجامي، ولم يستعمل يوماً مصطلح ما بعد الحداثة، «ولكن هذه عادات في التصنيف والقراءة يتوسل بها الناس لتقريب الفهم وتيسيره، وقد تعرض لهذا الأمر مفكرون كبار قبل دولوز عندنا من مثل هايدغر، الذي كان في الستينات يعرض باعتباره أحد أقطاب الوجودية، وهذا فهم خاطئ في طبيعة الحال». في الأعوام القليلة الماضية، صدر عدد من الكتب عن دولوز، في أكثر من عاصمة عربية، وبدأ المثقفون العرب يهتمون به، وكأنهم للتو اكتشفوا مفكراً استثنائياً، غير أن عادل حدجامي، الذي له مآخذه على ترجمة بعض المفاهيم الخاصة بدولوز من بعض المهتمين العرب، يعزو هذا الاهتمام إلى انحسار المد الماركسي، «فالماركسية كانت تلقي بحجاب يجعل التعرف على النصوص النافرة، التي لا تستقيم في أي إطار مدرسي أو مذهبي أمراً عسيراً، لهذا فإن اكتشافه تأخر نسبياً». ومع ذلك يرى الباحث المغربي أن هذا الولع بدولوز حالياً ليس فلسفياً خالصاً، إنما يأتي من جهات أخرى، من الأدب والسينما والتشكيل، «لكن الاهتمام بقلب فلسفة دولوز، أي بالأنطولوجيا، جد محدود، لأن هذا الجانب من فكر الرجل وعر يتطلب ثقافة فلسفية قوية». الانفتاح على فكر الآخر والجرأة عليه ومحاولة التعرف إليه ترجمة وتأليفاً وتعريباً، تعلق الأمر بدولوز أو غيره كما يذكر حدجامي، «هو ضرورة لكي نبقى ونستمر، فالهوية تقوى وتخصب وتتقوى بالانفتاح، والحياة في التلاقح وفي «العلاقات» كما يبين دولوز نفسه، فنحن مثلاً لا نعي أهمية ما تجنيه اللغة العربية من محاولات تعريب وترجمة المفاهيم الأكثر جدة وإنطاقها بلغة الضاد، على الأقل هذا يعطي لثقافتنا آليات تمكنها من متابعة ومسايرة ما يحدث ويستجد». ويرى أن دور المؤلفين الشباب، انطلاقاً من واجبهم تجاه لغتهم، اقتحام الأنحاء المستجدة من الفكر العالمي، ونحت المصطلحات والمفاهيم، «حتى لا تصير لغتنا وثقافتنا متحجرة جامدة أمام عالم يتغير بسرعة رهيبة». الكلام عن دولوز، هو كلام عن فكر جديد حتى في ثقافته الفرنسية، وبالتالي يعتبر حدجامي أن الكتابة في ما هو نظري وفي الفلسفة خصوصاً وفي سياق وجو مثل الذي يعيشه المثقفون، نوع من النضال، «فدينامية زمن الواقع والمعيش واكتساح ثقافة الصورة والإشهار لمجالات الحياة وانحسار نسب القراءة عندنا، تجعلني شخصياً أحترم كل من يكتب، فالكتابة اليوم وفي هذا الإطار هي نوع من المقاومة». عاد عادل حدجامي، الذي يؤكد غياب أطر تدبر وتسير مؤسسياً مسألة الترجمة، إلى مؤلفات دولوز في لغتها الأصلية حصراً، ليس لأنه غير مقتنع بالأعمال العربية حول دولوز، إنما لأنه عندما بدأ الاشتغال كان الاهتمام به عربياً شبه منعدم، باستثناء ما كتبه المفكر عبدالسلام بنعبد العالي. لهذا فهو يدعو المثقفين العرب من أبناء جيله إلى إشاعة ثقافة الاعتراف، «الاعتراف أولاً بالأجيال التي سبقتنا والتي بذلت مجهوداً جباراً، بالنظر الى ما كان متاحاً لها، في تعريب وترجمة وتقريب الفكر الحديث والمعاصر، ثم الاعتراف ببعضنا بأن نفتح قنوات نقد وتقويم موضوعية ومؤسسية، فالكتابة تجربة رفيعة ونظيفة». في الواقع لم تذهب عشر سنوات من الاشتغال الدؤوب والاهتمام الخالص، بفكر وكتابات واحد من أكثر المفكرين صعوبة، هباء ولم تواجه بالتجاهل، إذ وجدت التقدير. لذلك فالباحث المغربي، الذي يرى أن الكتاب العرب مطالبون بالتأسيس لعلاقة موضوعية وجدية مع الفكر الحديث بكل أسمائه وتياراته، يرى أن الجوائز الأدبية في واقع تكتسحه ثقافة الصورة والرداءة الإعلامية، نوع من الاعتراف الذي يضفي المعنى على الجهد، «فالجائزة اعتراف من المؤسسات بمجهود أفراد يشتغلون في صمت وتكتم، وهو صمت يجعل الباحث رهين «مونولوغ» ذاتي قد يشعره أحياناً، أمام انعدام التواصل، بالإحباط، فهناك في وسطنا أسباب إحباط كثيرة تأتي هذه الجوائز لتقلّل من وقعها لأنها تمنح الاعتراف والتشجيع». وأن يحوز حدجامي جائزة «المؤلف الشاب» لا يعني ذلك سوى أن يجتهد أكثر، ليقدم أعمالاً أكبر وأهم، «وهذا أمر عقدت العزم عليه فعلاً، إذ إنني أزمع الدخول في عمل كبير حول الفلسفة والعلم في القرن السابع عشر، لأنني أعتقد شخصياً أن كل ما نحياه في عالم اليوم، في العلم وفي الفكر كما في السياسة والأخلاق، هي نتائج، في نظري، وثمار لبذور زرعت في القرن السابع عشر».