عقدت هذه الندوة في فندق سيرتا في ولاية قسنطينة في الشرق الجزائري، وهو نزل قديم الطابع يقع في وسط مدينة عبدالحميد بن باديس، رجل العلم والشخصية الوطنية الكبيرة. وضمت الندوة عدداً من كتاب الولاية وشعرائها واساتذتها الجامعيين المعنيين بالأزمة التي تعصف بالجزائر. وطرحت في الندوة موضوعات تشغل الجزائريين اليوم، وأخرى مسكوت عنها، تحيط كلها بقضية التعريب، بصفتها القضية الأساسية لهذه الندوة، كونها تعتبر، اليوم، القضية رقم واحد في الجزائر، لا سيما مع صدور قانون التعريب الذي يراد منه أن يحسم الإزدواجية اللغوية، وينهي جانباً من الصراع بين الفرنكوفونية والعروبة، وبين المتطرفين من العروبيين والمتطرفين الأمازيغ في الجزائر. وتطرح الندوة قضية التعريب على خلفية القرار الذي أصدرته الحكومة الجزائرية بتطبيق التعريب الشامل استناداً إلى "قانون استعمال اللغة العربية" الذي صدر أول مرة في 16 كانون الثاني يناير 1991 ووقعه الرئيس الشاذلي بن جديد، ويتألف من 6 فصول و41 مادة، تقول المادة 36 من القانون ان أحكامه تطبق فور صدوره في الجريدة الرسمية، على أن تنتهي العملية بكاملها في مدة أقصاها 5 تموز يوليو 1992. لكن الحرب انفجرت في الجزائر أولاً بين أطراف متناقضة ومتصارعة داخل الحكم نفسه يمثلها المعربون من جهة، والفرنكوفون من جهة ثانية، ومن ثم بين الإسلاميين والحكم، الذي استعمل قانون التعريب، كما يرى البعض، لالهاء الناس عن حربه ضد التيار الإسلامي، وتكريسه العودة عن المسار الديموقراطي التعددي غداة الإنتخابات التي اكتسحها الإسلاميون. كان قانون التعريب الذي أحد صواعق تفجير الأزمة الدامية في البلاد. فالناطق باسم "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" قال "كأنكم تسألونني عن موقفي من الوحدة.. فالقانون تأخر عن موعده والرافضون للتعريب منتحرون سياسياً وثقافياً وحضارياً". وإثر التصويت على القانون في البرلمان الجزائري وصدوره في الجريدة الرسمية جرت تظاهرات ضده، وحشودات سياسية من جانب النخب المضادة للتعريب من فرنكوفون وبعض دعاة الأمازيغية. وفي النتيجة تمكن أعداء التعريب من وقف تنفيذ القانون، وإبقائه، بالتالي، حبراً على ورق سنوات وسنوات، على رغم الترحيب الواسع به من قبل الحياة السياسية والثقافية في البلاد، فقد اعتبرته "الجمعية الشعبية للوحدة والعمل" "مكسباً عظيماً لا يقل أهمية وقداسة عن مكسب استعادة الإستقلال في 1962"، ونعرف من خلال بيان ل "التجمع الجزائري البومديني الإسلامي" أن أهمية هذا القانون أنه الأول الذي يصدر ليلغي القانون الذي اصدره الفرنسيون سنة 1871 وحرم بموجبه على الجزائريين تحريماً قاطعاً استعمال اللغة العربية، وقد ظل هذا القانون سارياً سياسياً إلى أن أبطله قانون التعريب. واعتبر التجمع أن موقف النواب الذين وقعوا على القانون "لا يماثله إلا موقف الرئيس الراحل هواري بومدين في ما يخص قرارات التأمين". أما "اتحاد القوى الديموقراطية"، فرأى أن "القانون جاء بعد 28 سنة من الإستقلال، وهذا يعتبر تقصيراً في حق أحد ثوابت الأمة االجزائرية، وقد يكون من الأسباب الرئيسية التي تولدت عنها أزمة المجتمع الجزائري". ولا غرابة في ذلك مادامت اللغة هي مفتاح الهوية لشعب من الشعوب. وفي الماضي الجزائري مرارات كثيرة تتعلق باللغة، والهوية. فأحد الموظفين الإستعماريين الفرنسيين الكبار في الجزائر هو أوجين فورميسترو كتب في سنة 1880 معترفاً "لقد فرطنا في تعليم الأهالي حتى نزل مستوى التعليم إلى ما هو أدنى بكثير مما كان عليه قبل الإحتلال". وبدوره كتب الباحث الفرنسي مارسيل إيمريت سنة 1960 "كان العربي في 1830 يعرف القراءة والكتابة، لكنه أصبح يتخبط في ظلمات الجهل عندما مضى نصف قرن فقط على الإحتلال". وبالعودة إلى المواقف المحدثة من االتعريب، فهي لم تصدر فقط في الجزائر، خصوصاً المضاد منها للقانون، وإنما في باريس عاصمة المشكلة اللغوية للجزائريين، وها هي "لوموند" أكثر الصحف الفرنسية شهرة تكتب في صفحتها الأولى غداة صدور القانون مقالاً تحت عنوان "مخاطر التعريب في الجزائر"، ومما جاء فيه "إن الجزائر باختيارها التعريب الشامل تكون قد تبنت الكارثة، وباتت مقبلة على مستقبل مظلم"، و"سوف يهجر الجزائر كل القادرين على الهجرة هروباً بأبنائهم إلى فرنسا."، واعتبر كاتب المقال جورج ماريون أن إقرار قانون التعريب جاء بضغط من جبهة الإنقاذ الإسلامية، في ظل سباق مواقف بينها وبين النخبة الحاكمة. لقد صدقت نبوءة ماريون في 1991، فالجزائر لم تلبث أن دخلت في نفق مظلم، وعرفت الدماء والدموع، وأوقف قانون التعريب، مراراً، وآخر من نحاه من الطريق كان الرئيس الراحل محمد بوضياف إلى أن أعلن، حديثاً، رئيس الحكومة السيد أو يحيى على أعضاء مجلس الأمة أن آخر موعد لتنفيذ القانون سيكون يوم 5 تموز يوليو الجاري، أي مرة أخرى، متزامناً مع عيد تحرير الجزائر، ولهذا، بطبيعة الحال، دلالته التي جعلت اللوبي الفرنسي يفصح، مجدداً، عن ردة فعل غاضبة، بلغت في بعض الحالات حد افتعال المعركة، أو الإعلان عن أن في الأفق موقعة كبيرة، وأن الدولة تستعمل مسألة التعريب لتفتح صراعاً جانبياًَ تهمش بواسطته معارك أخرى أكثر أساسية، في وقت رأت فيه بعض الأوساط الأكاديمية والثقافية الجزائرية أن التعريب في صيغه القديمة فشل فشلاً ذريعاً، وأنه فضلاً عن أنه كان متضمناً جوهراً رجعياً، ومتخلفاً، فهو لم يطبق بتناسب مع حاجات الإدارة الجزائرية، والنتيجة أن المعاهد والجامعات العربية في البلاد أخرجت جيشاً من العاطلين عن العمل الذين لم يجدوا لهم موطئ قدم في الإدارة التي هيمن عليها المفرنسون بصورة ساحقة، ولم تعرب أصلاً. والمفارقة أنه بعد مرور 36 سنة على تحرير الجزائر من الفرنسيين فإن لغة المستعمر تعززت مواقعها مع دولة الإستقلال، واستحكمت بالناس أكثر مما كانت الحال عليه في عصر الإستعمار. في هذه الندوة مناقشة واسعة لمسألة ازدواجية اللغة، ولقضية التعريب، والقضايا المحيطة بهاتين القضيتين والمتفرعة عنهما، وذلك من خلال وجهات نظر متباينة ومختلفة، بينها من يرى أن التعريب قائم، ومسألة سيادة العربية مسألة وقت، وبينها من يرى أن العلم تخلف بسبب التعريب، وأن التعريب نفسه فشل بدءاً من المدرسة الابتدائية وأن سبب فشله انه صدر بقرارات رئاسية وتعليمات وزارية، ويرى هؤلاء اكبر خطر على اللغة العربية في الجزائر هو قرار كالذي صدر حول التعريب الشامل ويتساءل هؤلاء ساخرين: عندما لا يحسن حتى رؤساء الجزائر المتعاقبون التعبير بالعربية فكيف نطلب ذلك من رجل الشارع؟! على أن بعضهم يرى أنه لو لم يفرض قانون تعريب الإدارة فرضاً لما أخذ طريقه إلى التطبيق، خصوصاً أن هناك في البلاد اليوم، من يطرح السؤال التالي: هل الجزائر بلد عربي....؟ أما المشكلة اللغوية في الجزائر فإن أكثر ما يعبر عن مزاج الجزائريين اليوم بصدد مسألة اللغة، فهي جملة قالها الناقد وأستاذ علم الإجتماع أحمد الملياني: "نحن سجناء الماضي يقصد الإستعمار ولغته والمستقبل يقصد التطلع العربي أما الحاضر يقصد الجزائري فهو غائب! المشاركون في الندورة: رشيد فيلاني شاعر، مالك بو ديبه شاعر، سليم بو فنداسة قاص واستاذ علم نفس، جمال الدين طالب قاص وإذاعي، باديس بو شامة شاعر واستاذ علم الاجتماع، أحمد الملياني أستاذ علم الاجتماع. "الحياة": تمر الجزائر في فترة تحول تاريخية، وتشهد انتقالتها من وضعية رأسمالية الدولة إلى نظام السوق، أحداثاً ووقائع مأسوية لم تكن في بال الجزائريين، وتعتبر في بعض فصولها على درجة كبيرة من الغرابة، وبالتالي هناك مدعاة كبيرة للتأمل في مجرياتها. كيف تنظرون، عمليا، كمثقفين وكتاب إلى علاقات الكتابة والواقع، وإلى الخطابات الأدبية والفكرية الجزائرية، لا سيما في قدرتها على الاستكشاف والتأمل، والمساهمة، بطريقة خاصة، في لحظة التحول في الجزائر، وكيف تتأسس العلاقة مع اللغة في ظل وضعية لغوية خاصة بالغة التعقيد؟ أحمد الملياني: يخيل إليّ أن إحدى العقد في العلاقة مع اللغة، أنها كانت، مؤدلجة منذ عهد الاستعمار الفرنسي، وهو الذي أدخل أول قطيعة بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة. والمتصفح لبعض الأشعار، بما في ذلك "الشعر الملحون" السابق على مرحلة الاستعمار يجد أنها كانت قريبة من تشكيلها اللغوي من اللغة العربية، وكان التواصل الموجود بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة قائما، والاستعمار الفرنسي عندما أدخل اللغة الفرنسية كلغة تعامل ولغة علم أحدث القطيعة الأولى بين اللغات المنطوقة واللغة المكتوبة، الأمر الذي احدث فجوة وتباعداً كبيرين بين لغة النطق ولغة الكتابة. وبعد الاستقلال، فإن هذه الأزدواجية اللغوية تعمقت، وعمقت الهوة بينهما بسبب المنظور الايديولوجي الذي تعامل مع موضوع اللغة، وذلك بالنسبة إلى الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية، أو الذين يكتبون بالعربية. ويبقى ان الكاتب بالعربية يواجه تحدياً مزدوجاً على حدّ تعبير واسيني الأعرج، الأول هو انه يكتب باللغة التي لم تحرر بعد، وبالتالي فهو يؤسس ويكتب معاً، مقابل كاتب بالفرنسية يكتب في لغة محررة. رشيد فيلالي: مسألة اللغة هي في الصميم. وأنا في تعاملي مع اللغة، أراها كزوج حنون وبخيلة. وأحياناً عندما اريد ان اكتب قصيدة، أبحث عن مفردات تتلبس الحالة الشعرية وتتجسد بأدواتها هذه الحالة الشعرية، أو التجربة الشعرية التي أعيشها. قلت انني في تعاملي مع اللغة أجد صعوبة بالغة نتيجة عوامل كثيرة، منها انني أحاول تكسير الكليشهات السابقة الصنع الموجودة والمكرسة في كتابات الأجيال التي سبقت. وما أراه ان الجيل الأدبي الجديد يحاول ان يؤسس للغة، هي في الشعر، مثلاً، لها زخم جمالي يساهم في تأسيس أدوات حديثة على سبيل تقديم رؤية جديدة في هذه الكتابة. من اليمين إلى اليسار مالك بو ديبه: علاقتي باللغة هي في البدء علاقة انتماء وميلاد وجدل وهي علاقة فيها شيء أمومي. فاختيار الكتابة من اليمين إلى اليسار، هو التزام. وفي الجزائر يكفي ان تكتب من اليمين إلى اليسار لتعلن انتماءك. وهو رهان على مشروع لم ينجز بعد، أنا لا أدري إذا كان من الممكن ان يبدأ الشاعر في عملية حصاد اللغة في حقول أخرى خارج انتمائه. وإذا كان محمود درويش يقول ان الخبز مرّ في بلاد الآخرين، فأنا اقول ان الكتابة مرّة في لغات الآخرين، من دون شوفينية، ومن دون اي خلفيات أخرى. ومن هنا فإن اللغة هي التي تحدد منطلق الكتابة وهدفها وفي العملية الإبداعية تتحول اللغة إلى فرس جموح. هناك ما يشبه مطاردة في الحقول، وهناك كثير من الرضى والتمتع، شيء من المشاكسة، وشيء من غزل العصافير بين الأشجار حتى قبل ان يؤسس النص وقبل ان تؤسس اعشاش اللغة. شيء آخر، اشير إلى صعوبة العملية الإبداعية لمن لا يمتلك اكبر قدر ممكن من الخلفية الثقافية واللغوية، ولكي تتوازن العملية الإبداعية مع حياة اللغة وامكاناتها، ينبغي ان يحصل الكاتب ثقافية مرجعية واطلاعاً واسعاً على اللغة التي يكتب بها. باديس بو شامةغيلان: علاقتي باللغة، كعلاقة بامرأة تتمنع. وأحياناً لا تحبني، ربما كان هذا تعريف مستهلك لعلاقة الشاعر باللغة، لكنه مغر، وقريب من أرض الشعور. ان اللغة التي تبنى على تراكمات معرفية وثقافية هي لغة شهية تنتج نصاً مشوّشاً، نصاً تغيب عنه تفاصيل مهمة. ان اللغة التي لا تتجاوز ما هو كائن وما هو معقول هي لغة ميتة تنتج نصاً ميتاً. واللغة عندي هي اللغة الصادمة، التي تغري، ويمكن ان تتجاوز الممكنات كلها. وعلاقة الشاعر باللغة، ربما كانت تفاضلية وتجاوزية لو صح التعبير. جمال الدين طالب: قبل ان نطرح مسألة اللغة. لا بد من القول ان الكتابة إضافة. وان تكتب فالمفروض ان الذي يخرج بكل ما يصادفه الكاتب في الكتابة، يجب ان يضيف، وإلاّ فلا فضل آن نكتب. ان يكتب الكاتب على منوال سائد، جاهز، فهذا لا يضيف. أظن ان التجربة الجزائرية، تشكل استثناء أصيلاً في الكتابة العربية عموماً. لأن الجزائري يقيم مع اللغة العربية علاقة فيها الكثير من اللبس، علاقة يمكن القول فيها ان علاقة تأسيس الجزائري واللغة العربية على مستوى بعض المبدعين الجدد، تجعلنا نرى انها تتجاوز، أحياناً، تجارب عربية سائدة لها مكانة أساسية في خارطة الإبداع. بينما هي تنطلق من "ريح" فهي يتيمة، بلا سند، ولم تكن مؤسساً لها، أتت، ربما، من أوجاع، وتصادم، وتجاذب شرس مع واقع هو بكل مرجعياته وترسباته، يعتبر واقعاً معزولاً شيئاً ما ثقافياً عن الجسد الثقافي العربي العام. النص الجزائري الحديث يكاد يتوالد من عدم وفي حالات كثيرة هناك نصوص جزائرية باهرة. لكن، للأسف، لا يهتم بها مشرقياً، لأنها ببساطة بعيدة وغير مكتشفة، خصوصاً بالنسبة إلى مراكز انتاج الثقافة العربية، حتى لا نقول مراكز الهيمنة على الثقافة. النص الجزائري يؤسس في الجانب، ويضيف إلى الموروث العربي عموماً كما اضاف في السابق، إذا اخذنا في الاعتبار التجربة الأندلسية، والتجربة الفكرية المغاربية. انه يضيف. ولكن من الهامش. بينما المركز الثقافي العربي ما زال، بنوع من النرجسية الاقصائية، يعتقد ان لا وجود لأحد آخر غيره، إلاّ كهوامش. علاقتي باللغة والكتابة هي علاقة هروب نحوهما، في بعض الحالات تأخذ اشكالاً كثيفة جداً" وتبلغ مستوى الحالة الدينية، أو التصوفية. سليم بوفنداسة: عندما نتحدث عن اللغة لا بد من الحديث على مستويين: الأول اننا لم نأخذ اللغة العربية مع الحليب الأول، حليب الامهات، لأن انتقالنا إلى تعلم اللغة كان انتقالاً من عالم إلى عالم جديد. من هنا، بدأ تعاملنا مع هذه اللغة يرتدي طابع المباهاة كوننا نظرنا إليها بصفتها مفاتيح عالم جديد، ونتباهى في مدى تمكننا من هذا العالم. فهناك نوع من النرجسية لدينا لأننا بتنا نفتخر بامتلاكنا هذه المفاتيح. وعندما نستطيع ان نبدع بهذه اللغة التي لا تفهمها الامهات، أمي مثلاً لا تفهم اللغة الفصحى عندما نمتلك ميكانزمات وآليات هذه اللغة، ففي هذا شيء من المكسب النرجسي. ومشكلتنا المركبة اننا نعيش شبه شيزوفرينيا لكوننا نتعامل مع لغة يومية محكية، وعندما نقرأ، او نكتب، نسدل الستار على لغة العيش هذه، وننتقل إلى عالم آخر، ربما هناك شيء من الحوار، على مستوى المعايير، بين لغتي العالم اليومي وعالم الكتابة، لكن المشكلة ان لغة الكتابة في العربية هي دائما في حالة تسام وتعال، وعندما ننتقل إلى مستوى آخر من اللغة، ففي الفصحى يواجه الكاتب موروثاً لغوياً شعرياً قصصياً، يمتد إلى مئات وآلاف السنين. لكن من هو الشاعر، ومن هو المبدع؟ لعله الشخص الذي يستطيع داخل اللغات كلها اختراع لغته الخاصة، أي الشفرات الدالة عليه من داخل اللغة. انه ذاك الذي استطاع ان ينحت ملامحه وظلّه داخل لغته. وهذا لن يتأتى، بطبيعة الحال، إلاّ لقلة قليلة من المبدعين الذين يتميزون بأصالة إبداعية، هم أولئك الذي استطاعوا نحت ملامحهم الخاصة في طوفان اللغة العامة. أحمد الملياني: شيء من المشاكسة. مسألة اللغة معقدة جداً. هناك موروث، وهناك واقع. من قبل كنا نتكلم عن الادلجة. لكن هل يمكن للكاتب باللغة الفصحى ان يتجاهل واقعاً لغوياً معيناً معقداً؟ هل يمكن ذلك حتى في العملية الإبداعية في اللغة العربية الفصحى؟ نحن بالقراءة سجناء الماضي، وسجناء المستقبل المنمذج، أما الحاضر فهو غائب، بينما عملية البناء تفترض ان يحضر هذا الواقع، وان يحضر بقوة. نحن نعرف ان الابداعات الأدبية والفنية في كل زمان ومكان، في كل اللغات، تنطوي على عمليتي الهدم والبناء، ويتم فيها انتاج انسانية جديدة، وتصورات جديدة. من هذا المنظور، بالنسبة لي، وأنا اكتب باللغتين، وكلما كتبت بإحدى اللغتين دفعتني هذه الى الغوص في الأخرى. الواقع الثقافي القادر على ان يشكل مصدر ثراء، هو ذاك الذي يستطيع ان يجمع حلقات التواصل. والعملية الإبداعية في هذا السياق هي تلك التي تتم انطلاقاً من الذات، من دون ان يعني ذلك أنها يجب ان تكون ضد الآخر، أي آخر. ربما في بعض الأحيان هي عملية حوار مع الآخر. وفي كل التجارب الحضارية، كما نعرف، هناك ظاهرة الاحتكاك. الحياة: في خطابكم، رغبة في التعامل مع مفردات "التجاوز" و"الهدم" و"التفكيك" و "التحطيم" ومن الكتابة واللغة، وهذا النزوع يأتي على خلفية وضعية ثقافية جزائرية تقوم على تنوع لغوي هائل: لغات شعبية كثيرة، من قبائلية إلى عاميات عربية، إلى لهجات جهوية تتداخل فيها قواميس الصحراء، والجبل، والساحل، والسهل، في بلاد هي قارة. ترى هل ان فكرة التجاوز اللغوي التي تطرحونها يمكن ان تكون عدمية ما لم يجري إثراؤها عبر هذا التنوع اللغوي. وهل تتناقض هذه الحالة مع رغبة المبدع في ان يكون يتيماً. وهل ان فكرة اليتم هي، أيضاً، رد فعل على هذه التركة الثقيلة في "لغات" الجزائريين الثلاث العربية، والفرنسية، والامازيغية لتجاوز هذا الإرث الثقيل على سبيل "الاغتسال" من كل هذا وصولاً إلى "اللغة الشخصية" للكاتب؟ رشيد فيلالي: سؤال ضروري، ومركب، أولاً إن مسألة التجاوز كما نطرحها لا تقول بتجاوز عدمي، وإنها تجاوز مؤسس. كيف؟ أولاً بالنسبة إلينا جيلي من الكتاب نسعى نحو رؤية للإبداع "الحقيقي". فالابداع بالنسبة إلنا لا يرتهن باللغة، او بالايديولوجيا فقط. نحن نحاول ان نقدم نصاً فردانياً وليس يتيماً. إن اجمل النصوص العالمية هي تلك التي تطغى عليها ذات المبدع، أكانت سيرة ذاتية او قصيدة، وحتى الرواية الذاتية. هنا نلاحظ ان الذات المبدعة طاغية على النص. فالمبدع يحاول تحقيق فردانيته التي تتعاطى مع فردانيات أخرى في المحيط الذي يعيش فيه. وهذا المحيط، كما هو الحال في الجزائر، حيث العديد من اللهجات، التي يمكن ان تخدمنا بطريقة، أو بأخرى بفعل ثرائها وغناها. أما تَمَكُّن الكاتب الجزائري من اللغة الفرنسية، فهو يفتح النافذة انطلاقاً من فرنسا على العالم ككل، بكل ثقافاته المترجمة إلى الفرنسية. أما اللغة العربية فهي لغتنا التي تجعلنا قادرين على التواصل مع المشرق العربي بكل محمولاته الثقافية. مالك بوديبة: ربما يحيل مصطلح "اليتم" على وجود نوع من العقدة اللغوية بين العربية التي نكتبها، وبين لهجات أمهاتنا وآبائنا، واللغة الفرنسية الموروثة كإرث حضاري وليس استعماري، لأنه لا وجود لأي عقدة لغوية أكانت "شاوية" أو غيرها من اللهجات المحلية، وحتى الأمازيغية، وبين هذا التنوع. تبقى العقدة الأكبر ممثلة بالفرنسية، فهي مدار صراع وتوجهات ومشاكسات طويلة تدور حول اللغة. وأظنها مشاكسات ناتجة عن اتجاهات ايديولوجية أكثر مما هي نتيجة اتجاهات فكرية، أو ابداعية بحتة. نحن هنا في هذه الندوة كل واحد منا ينتمي إلى جهة من جهات وطننا الحبيب الجزائر، لكننا في الأخير نتفق على لغة واحدة، ولا نحس بأي نوع من اليتم اللغوي، وإنما بكثير من الافتخار فنحن نجد لغتنا الحقيقية، ثم لغتنا الأخرى الخاصة بنا كمبدعين. فمشكلتنا الفعلية كمبدعين تكمن في بحثنا داخل النص عن خصوصياتنا اللغوية ككتاب، كيما نتفرد بينما نحن نكتب ذواتنا ونكتب تواصل هذه الذوات مع غيرها. باديس بو شامة غيلان: هذا سؤال مركزي في نقاشنا، وجوهري بالنسبة إلى وضعنا في الجزائر. ومما لا شك فيه ان في الجزائر ثراء لغوياً، وهذا، ربما، ما يفتقر إليه كثير من دول المشرق. أما مشكلة اللهجات فهي مشكلة جديدة، علينا، نسبياً، وهي وليدة تجربة التعددية. المشكلة الحقيقية لدينا هي مشكلة اللغة الفرنسية، وليس اللغة وحدها، وإنما مشكلاتنا، أيضاً، مع ثقافة هذه اللغة التي تتجسد في سلوكياتنا، وفي معاملاتنا، وفي ديكور منازلنا، في طريقة لبسنا، لأن هذه الثقافة متجسدة فينا ومتمكنة منا، وذلك بفعل أكثر من قرن من الاستعمار الذي عمل على استئصال ثقافتنا وإحلال ثقافته محلها