في العام 1927 اصبحت "العروة الوثقى" بعهدة لجنة تحرير مؤلّفة من: أكرم رفعت، إميل بارودي، ضاهر الفتياني، ممدوح ذكي، والفنان رأفت بحيري. وكانت مهمة بحيري في "العروة الوثقى" شبيهة بالمهمة التي كان يقوم بها جبران خليل جبران بالنسبة لمجلة "الفنون" او للعدد الممتاز لجريدة "السائح" النيويوركية. فكلاهما اهتم بتصميم الغلاف واخراج الابواب الداخيلة مع تزيينها بالرسوم. بل ان البحيري، كجبران، لم يحصر نفسه في الاخراج والرسوم، لذلك تراه احياناً يساهم في تحرير المجلة. ولا عجب. فهو ابن محمد كامل البحيري الذي اصدر اول جريدة في طرابلس في مطلع التسعينات من القرن التاسع عشر، بعنوان "طرابلس الشام"، والتي استمرت بالصدور حوالى عشر سنوات. ولكن رأفت، بعد تخرجه من الجامعة، انصرف الى العمل الصحافي الفني حيث ترك بصماته في الكثير من الدوريات التي صدرت في بيروت في العشرينات والثلاثينات، ومنها جريدة "النهضة" التي اصدرها انطون سعاده في العام 1937. وتجلّى حضور رأفت في القصائد التي كانت تحتضنها "العروة الوثقى" بدليل الرسوم الثلاثة التي وزّعها بين ابيات قصيدة الشاعر الناشئ الطالب ابراهيم طوقان. كان عنوان القصيدة "بين الحب والوطن". لذلك رسم بحيري "القدس" الى جانب رسمين منفصلين لفتاتين جميلتين. اما الشاعر طوقان فقد قال في سياق قصيدته التي احتلت كامل الصفحة 20، حيث يعاد نشر معظم ابياتها لاوّل مرة: يا حياة الهوى عليك سلام حسنات الوفاء اضحت ذنوبا امل غرني، وقد خاب مسعاي فأوشكت حسرة ان يذوبا فدعيني اصرف فؤادي لقوم وبلاد تلقى البلاء الرهيبا وطني مرهق واهلي نيام واستحال الراعي فأصبح ذيبا لهف نفسي وهم سكارى غرور كيف يبدي مخالباً ونيوبا لهف نفس وقد دنا يتقرى مقتلاً يستشف منه القلوبا اين ما للشباب من نزوات يصعق الدهر كرّهاً والخطوبا كيف يرضى ان يقطع العمر مطلوبا - وليس الشباب الا طلوبا عهدته الاوطان في الروع يبدي ساعداً ايداً وعوداً صليبا واذا ما الخطوب شد تصدى كيف تغشى الخطوب صدراً رحيبا. وختم طوقان قصيدته التي تظمها قبل عشرين عاماً من ولادة دولة اسرائيل: يا رجال الغد العصيب وانا لملاقوه اين كنا عصيبا سوف لا يدرك النجاح ويحيى غير من كافح الحياة لبيبا وهناء الاوطان يوم تلاقى بين ابنائها الطموح الاريبا وهي لا تستعيد مجداً عريقا قبل ان تخرج الدخيل الغريبا ونشر قلم التحرير في العدد الممتاز نفسه مقالة للطالب احمد الشقيري الذي اصبح في ما بعد قائداً لمنظمة التحرير الفلسطينية. ولكن مقالته التي امتدت على طول صفحتين ونصف الصفحة، قد تمحورت على الام وكانت بعيدة عن شؤون السياسة وشجونها. وقال في سياق المقالة المسبوكة بلغة عربية متينة ان "الام ربة الدار، والدار مملكة يعيش فيها جنودها وحماتها وموظفوها وكلهم ابناء تلك الام. فان ارضعتهم لبان العلم والادب ابان طفولتهم، فسعادةً تخيم فوق تلك الدار، وهناءً يرتع بين ظهراني الامة. وان ارضعتهم خليطاً من الخرافات والسخافات، فشقاء وتفرقة تسود في ذلك البيت ودماراً وهلاكاً يكون حليف الشعب". ومن الخرافات التي حذّر منها الكاتب ما تردده الام الجاهلة لابنها بان الخسوف ناجم عن الحوت الذي "يغطي باجنحته القمر". وخطورة مثل هذه الاقوال انها "ترسخ في عقل ابنها ولا تمحوه غير الدهر". "دمشق سلاماً" كان عنوان القصيدة الطويلة التي نظمها رئيف خوري ونشرت في "العروة" في العام 1929 متوّجة بصورة للجامع الاموي الكبير. كان الاديب الطالب يافعاً. لذلك امتزجت السياسة في قصيدته بالحب. ولم يكن قد اعتنق الماركسية، بدليل ان نهجه السياسي في قصدته كان شبيهاً بالنهج الذي اتبعه وطنيو بلاد الشام آنذاك، حيث القومية الرومانسية والعفوية الوطنية. دمشق أيا جنة الشرق ردّي سلام جوٍ بذراك سُحرْ رآكِ فدبّ إليه الغرام فهاج فزاد الجوى فاستعر رأى برداك فخال المياهَ رضابَ حبيبته ينفجر وانتقل من الحب الى السياسة ملمّحاً الى ازمة ما كانت تعصف في عاصمة الامويين: دمشق وُجدتِ بأرض اسىً حلا عيشها مدة ثم مرّ وجدتِ بشرقٍ لدانت له م الأرض لو لم يكن جدّه قد عثرْ فلا تضجري وادأبي للمعالي طويلاً وإن لم يُعنْكِ القدرْ فكل جلودٍ ينال المنى ويهون لديه زمان جبرْ إن طول باع رئيف خوري في نظم الشعر السياسي في العشرينات، يكشف سرّ إلقائه قصيدة في رثاء السياسي الشهير اميل لحود عم رئيس الجمهورية اللبنانية الحالي، وهو المشهور بصياغة المقالات والأبحاث الادبية. من كان رئيساً لجمعية "العروة الوثقى" ولتحرير مجلتها التي احتضنت قصيدة "رئيف نجم الخوري"؟ كان السياسي العراقي الشهرير فاضل الجمالي الذي قرأنا في الحلقة الماضية شيئاً من كتاباته السياسية. واذا كان خوضه في السياسة آنذاك متميّزاً بالحذر، فإن البحث الذي نشره في "العروة الوثقى" عام 1929، اتسم بالمثالية والرحرحة. فقد كان التعليم المشترك حديث العهد في الجامعة الاميركية. وكانت العادات والتقاليد في المشرق العربي وخصوصاً العراق، ترفض اية علاقة بين الشاب والفتاة، قبل الزواج. من هنا سرّ تحديد الجمالي في سياق المقال للحب بأنه "اشرف ما وصلت إليه العاطفة الانسانية من نكران الذات والغيرة التي يحملها الانسان نحو وطنه او قومه او المرأة التي يجدها اهلاً لان تصبح شريكة حياته. وان حباً كهذا، هو الذي تُبنى على اساسه الممالك العظيمة والعائلات السعيدة والحياة الوافرة". واستدرك الكاتب ليبدي اسفه باعتبار ان "هذا النوع من الحب هو نادر بين شباننا وشاباتنا". يبقى ان مجلة "العروة الوثقى" الخطية، المحررة باللغة العربية، والمحفوظة في مكتبة الجامعة الاميركية في بيروت، تؤكّد على ان عشرات كبار السياسيين والصحافيين والادباء في العالم العربي، كانت الجامعة الثانية التي تخرّجوا منها، واسوة بتخرجهم من الجامعة الاولى التي كانت الجمعية والمجلة تنشطان في كنفها.