المقال النفيس الذي كتبه عاطف مظهر في عدد 18/4/2000 من "الحياة" عن رشيد الدين فضل الله الهمذاني وكتابه جامع التواريخ يستحق الكثير من العناية. ويجب أن يفتح الباب أمام المؤرخين والباحثين للولوج إلى تاريخ ما بعد الفتح المغولي لبغداد بنظرة واقعية جديدة تختلف كل الاختلاف عما كان مألوفاً من الاعتقاد بأن سقوط بغداد كان مفتاح السقوط العام المستمر للعالم الإسلامي ومفتاح تدهور رافق العرب والمسلمين ما شاء الدهر أن يرافقهم. وفي هذا ما فيه من حجود لجهود الرجال الكبار الذين واجهوا المحنة بعزائم لا تهي، وصبروا وصابروا حتى حولوا الهزيمة الى نصر والانخذال إلى فتح والنكبة الى فتح، وطووا من التاريخ قاعدته الراسخة من تأثر المغلوبين بالغالبين وسير المقهورين على سنن القاهرين، فإذا بالمغول الوثنيين يتحولون الى مسلمين. ولا نقول أكثر من هذا... ولقد ألمّ الكاتب بعض الإلمام بهذه الناحية فقال في ما قال عن العصر المغولي وهو يتحدث عن الهمذاني: "... وهو في رأي معظم المستشرقين والباحثين خير ممثل للاتجاه الى التأليف العالمي الذي ساد العصر المغولي، وتعدد فيه المكثرون من درس المواضيع التاريخية المختلفة حتى ليصح أن يطلق عليه بحق عصر "الموسوعات". والحقيقة أن الأمر هو أعظم من هذا وأعم وأوسع" ولم يقتصر الحال على التأليف وحده، بل تعداه الى كل شيء" وعاد الأمر أمر نهضة شاملة عمت الوجود الإسلامي والعربي لاسيما في العراق وما إليه من ربوع. حتى إن الشاعر شمس الدين الكوفي الهاشمي الواعظ الذي رثى بغداد عند سقوطها بيد هولاكو بمثل قوله: لسائل الدمع عن بغداد أخبار فما وقوفك والأحباب قد ساروا عاد بعد ذلك ليقول في عماد الدين عمر بن محمد القزويني، أحد الحكام الذين تعاقبوا على حكم بغداد في ذلك العهد: يا ذا العلى يا عماد الدين يا ملكاً بعدل سيرته يسمو على السير وعندما نريد أن ننصف الرجال الذين كانوا أبطال تلك الفترة وعملوا بصمت فإن علينا أن نعترف بأن على رأسهم كان نصير الدين الطوسي. وقصة هذا الرجل من أعجب القصص" فقد كان بين الأسرى الذين وقعوا في يد هولاكو في استيلائه على قلاع الاسماعيليين. فقتل هولاكو الأسرى واستبقى منهم ثلاثة كان بينهم نصير الدين الطوسي. وهو استبقاهم لأنه كان بحاجة إليهم. فقد كان اثنان منهم طبيبين، وكان يعوزه الأطباء. وكان الثالث وهو نصير الدين مشهوراً - في ما هو مشهور به - بأنه من علماء الفلك. وكان في نية هولاكو بناء مرصد كبير. فوجد في نصير الدين الطوسي ضالته. واستعان بالطبيبين على معالجة جرحاه، وأرجأ الاستفادة من الفلكي الى حين استقراره. وقد استطاع الطوسي بعقله الكبير وحكمته الواسعة أن يستغل الأمر أحسن استغلال، وأن يسخر حاجة هولاكو إليه في تحقيق أهدافه البعيدة. وخير ما يوصف به وضع الطوسي من هولاكو هو ما وصفه به مؤرخان هما مدرسي الزنجاني وخير الدين الزركلي. فقد قال الأول: استطاع الطوسي بتأثيره على مزاج هولاكو أن يستحوذ تدريجاً على عقله وأن يروض شارب الدماء". وقال الثاني: "علت منزلته عند هولاكو فكان يطيعه في ما يشير به عليه، وكان يمده بالأموال". بهذا الوضع الذي صار إليه الطوسي مع هولاكو استطاع الوصول الى غايته الكبرى. فاقتنع هولاكو بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية والتصرف بمواردها بما يراه، فوافق هولاكو. وتطلع نصير الدين فرأى أن المسلمين كانوا قد وصلوا من الانحلال الفكري إلى حد أصبح العلم عندهم قشور الألباب فيها، وأنهم حصروا العلم في الفقه والحديث وحدهما. وانصرفوا عن العلوم العملية انصرافاً تاماً. فأعلن افتتاح مدارس لكل من الفقه والحديث والطب والفلسفة، وأنه سيتولى الإنفاق على طلاب هذه المدارس. ولكنه سيجعل لكل واحد من دارسي الفلسفة ثلاثة دراهم في كل يوم، ولكل واحد من دراسي الطب درهمين، ولكل واحد من دارسي الفقه درهماً واحداً، ولكل واحد من دارسي الحديث نصف درهم. فأقبل الناس على مدارس الفلسفة والطب ومن الطبيعي أن دراسة الفلسفة ودراسة الطب تقتضيان دراسة علوم أخرى ترتبط بها كل الارتباط. وأحرز نصير الدين النصر الأول في معارك الإسلام مع المغول، فالعلم لن ينقطع بعد اليوم ولن يجمد المسلمون عن طلبه. ثم انصرف يخطط للمعركة الكبرى الكاسحة. فإذا كان إنشاء المدارس المتفرقة لن يلفت هولاكو إليها، ولن يدرك أهميتها، فإن إنشاء الجامعة الكبرى وحشد العلماء فيها، وحشر الكتب في خزائنها، سيكون حتماً منبهاً لهولاكو. فكيف العمل؟ هنا تبدو براعة الطوسي. فهولاكو استبقاه لغاية معينة، فراح يقنع هولاكو بأنه من أجل استمراره في عمله والاستفادة من مواهبه في إنشاء المرصد لا بد له من الاستعانة بغيره من العلماء، وأنه وحده أعجز من أن يرفع حجراً فوق حجر في ذاك البناء الشامخ، وأنه لا بد له من مساعدين أكفياء يستند إليهم في مهمته الشاقة، وأنه لا مناص من أجل ذلك من أن يجمع عدداً من الناس المختارين، سواء في البلاد المحتلة أو في خارجها. فوافق هولاكو على ذلك. وهنا هب نصير الدين الى اختيار رسول حكيم، هو فخرالدين لقمان بن عبدالله المراغي، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلامية، وتأمين العلماء النازحين، ودعوتهم للعودة الى بلادهم، ثم دعوة كل من يراه كفياً في عمله وعلمه وعقله من غير النازحين. ومضى فخرالدين يؤدي مهمته على أحسن الوجوه وقصد الى اربد والموصل والجزيرة والشام، فعاد الهاربون ولبى الدعوة غيرهم. فجاؤوا من كل مكان، حتى من قزوين وتفليس وغيرها. وتحلقوا حول نصير الدين يعدون العدة لإنشاء أكبر معهد علمي عرفه العالم الإسلامي، ساترين هدفهم بالمرصد، مغلفين طريقهم بالأفلاك والنجوم. جاء حتى المغاربة الذين كان منهم يحيى بن أبي الشكر الذي كان أحد الستة الذين اختارهم نصير الدين ليكونوا اللجنة العليا المشرفة على العمل. وكان في طليعة الوافدين على مدينة مراعة التي اتخذت مقراً للعمل، العالم الدمشقي مؤيد الدين العرضي الذي ترك لنا رسالة في وصف مرصد مراغة وإدارته، تحدث في مقدمتها عن نصير الدين الطوسي فكان مما قاله: "وذلك كله بإشارة مولانا المعظم والإمام الأعظم العالم الفاضل المحقق الكامل قدوة العلماء وسيد الحكماء". ثم يقول: "فجمع العلماء إليه وضم شملهم بوافر عطائه، وكان لهم أرأف من الوالد على ولده. فكنا في ظله آمنين وبرؤيته فرحين. وهو المولى نصير الملة والدين محمد بن محمد الطوسي أدام الله أيامه". مضى العمل منظماً دقيقاً. وانصرف العلماء بإشراف الطوسي منفذين مخططاً مدروساً. فلم يمض وقت طويل حتى كانت المكتبات تغص بالكتب، وحتى كانت مكتبة مراغة بالذات تضم مجموعة قل أن اجتمع مثلها في مكتبة أخرى، وحتى كانت المدارس تقام في كل مكان، وحتى كانت الثقافة الإسلامية تعود حية سوية، وحتى كانت النفوس مشبعة بالأمل والقلوب مليئة بالرجاء، وحتى كان الدعاة ينطلقون في كل صوب والهداة ينتشرون على كل وجهة. *باحث في التاريخ الإسلامي.