يُعد كتاب "جامع التواريخ" لرشيد الدين الهمذاني من أهم وأكمل كتب التاريخ العام في الأدب الفارسي، وهو في رأي معظم المستشرقين والباحثين خير ممثل للاتجاه الى التأليف العالمي الذي ساد العصر المغولي، وتعدد فيه المكثرون من درس المواضيع التاريخية المختلفة حتى ليصح أن يطلق عليه بحق عصر الموسوعات. وتبدو عبقرية الهمذاني في ما كتبه عن تاريخ المغول على نحو دقيق ومفصل وغير مسبوق، وفي ما اضفى المغول والترك للمرة الأولى في التاريخ بنسبتهم الى مدينة أصيلة تجمعهم وأفسح لهم مجالاً خاصاً بهم. لقي الكتاب وبخاصة القسم المشتمل على تاريخ الايلخانيين سلاطين المغول في ايران، اهتماماً كبيراً من المستشرقين فعكفوا على تحقيقه ونشره وترجمته الى مختلف اللغات الأوروبية، وكان أولهم المستشرق الفرنسي كاترمير الذي حقق وترجم النص المتعلق بتاريخ هولاكو ونشره في باريس العام 1836. وقام الدكتور فؤاد الصياد بمشاركة كل من محمد صادق نشأت والدكتور محمد موسى هنداوي بترجمة هذا النص الى العربية ونشر في القاهرة العام 1960. وأعقب ذلك نشر النص المتعلق بتاريخ ابناء هولاكو من آباقا خان، الى كيخا توخان، الذي سبق أن نشره بالفارسية المستشرق كارل يان في براغ 1941. ثم قام الدكتور الصياد بتحقيق قسم آخر من الكتاب يتضمن تاريخ خلفاء جنكيز خان من "أوكتاي قا آن" إلى "تيمور قا آن" بيروت 1983، وذلك عن الطبعة التي نشرها بالفارسية المستشرق الفرنسي بلوشيه في ليدن 1911 ضمن سلسلة جب التذكارية، وتم صدور هذه الأجزاء الثلاثة بإشراف الدكتور يحيى الخشاب ومراجعته. وعلى هذا لم يتبق من تاريخ الايلخانيين سوى القسم الخاص بتاريخ غازان خان، وهو الذي قام بترجمته الى العربية حديثاً الدكتور الصياد قبل وفاته وصدر عن الدار الثقافية للنشر في القاهرة، وهو أهم أقسام "جامع التواريخ" لأنه يتضمن الإصلاحات الكثيرة التي قام بها غازان خان، وتناولت كل الحياة الإدارية والاقتصادية والقضائية والعمرانية، التي قُدّر لها البقاء طويلاً في الممالك الإسلامية في وسط آسيا. واعتمد الدكتور الصياد في ترجمته لهذا القسم على تحقيق المستشرق كارل بان الذي قام بنشره تحت عنوان "كتاب تأريخ ميارك غازاني: داستان غازان خان" هرتفورد - إنكلترا - 1940، وتصدرت هذه الطبعة مقدمة كتبها بالألمانية، كما اعتمد على تحقيق عبدالكريم علي أوغلي زاده الصادر ضمن منشورات معهد التاريخ باكو 1957. وقبل أن نتناول هذا القسم من الكتاب الصادر حديثاً، ينبغي أولاً أن نقدم لمحة عامة عن كتاب "جامع التواريخ"، الذي نهج فيه مؤلفه منهجاً خاصاً ومميزاً، إذ لم يتبع النهج التقليدي الذي سار عليه مؤرخو الإسلام السابقون، الذين كانوا يركزون على تاريخ الأمم الاسلامية، بل ذهب مؤرخنا الى أن التاريخ العام يجب أن يشمل وقائع حياة كل أمم وشعوب العالم المعروفة انذاك، ابتداء من الفرنج في المغرب وحتى الصين في المشرق. وهو كما يقول كراتشوفسكي في كتابه "تاريخ الأدب الجغرافي العربي": عالج "تاريخ العرب والفرس باعتباره جدولاً من الجداول الكثيرة التي تصب في بحر التاريخ العالمي". ومن جهة أخرى عدل الهمذاني عن التأريخ بحسب نظام الحوليات، وتجنب حشد جملة من الأحداث توضع تحت كل سنة وتفصل بدول وشخصيات لا تجمعها رابطة ولا تقوم بينها صلة، فأرخ بدلاً من ذلك بحسب المواضيع وتناول كل دولة وفقاً لترتيبها التاريخي. وفي الكتاب إشارات جغرافية مهمة عن مناطق كثيرة لم تكن معروفة، وهي الرقعة الممتدة من بحر قزوين حتى الأطراف الشرقية، وتحتل وسط آسيا وتذهب حتى حدود الصين. وكانت تلك الاقاليم جزءاً من الامبراطورية المغولية وصفها الهمذاني وصفاً دقيقاً، وأضاف ملاحظاته الشخصية على ما استطاع أن يجمعه عن مواقع المدن وطبيعة الجو وحاصلات الأرض والعادات والتقاليد الخاصة بالسكان. ووفق الهمذاني في إعطائنا معلومات مفيدة في بعض الأقسام التي يحتويها المجلد الثاني المتعلق بالتاريخ العام قد لا نجدها في غيره من المصادر. فقد أفاض الحديث عن طائفة الاسماعيلية، وذكر خلاصة وافيه للكتاب "سركزشت سيدنا" الذي يشتمل على معلومات قيمة عن تاريخ الحسن بن الصباح مؤسس الجماعة، فكانت هذه الخلاصة الى جانب الخلاصة التي كتبها عطا ملك الجويني في كتابه "تاريخ جهانكشاي" في غاية الأهمية والقيمة. كذلك أمكننا أن نعرف من "جامع التواريخ" معلومات مفيدة عن اقليم التيبت واعتناق أهله البوذية وارتفاع شأن هذا الاقليم عند المغول، لأنه كان مصدر انتشار البوذية بينهم. ويقرر الهمذاني أن كهنة التيبت كانوا أعظم كهان البوذية مكانة، خصوصاًَ في عهد قوبيلاي. ولم تقتصر قيمة "جامع التواريخ" على الناحية التاريخية والجغرافية فحسب، بل صارت له قيمة فنية كبيرة، حتى أن ازدهار فن التصوير في هذا الوقت يرجع الى حد كبير الى هذا المؤرخ، بل إن أكثر صور المدرسة المغولية توجد ممثلة في مخطوطات الكتاب، وكان مؤرخو العرب والفرس قبل الهمذاني يعولون في تعريف أبطال التاريخ على الأوصاف المجردة، ويندر أن يشيروا الى وصف المظاهر الطبيعية أو الابنية وغيرها من المرئيات. وكان لاهتمام الهذامني بالفنون عموماً والتصوير خصوصاً أنه أنشأ بالقرب من تبريز ضاحية جديدة اسماها "الربع الرشيدي" أقام فيها واستقدم اليها رجال الفن وأرباب الصناعات، وجمع فيها مكتبة ضمت 60 ألف مجلد من الكتب العلمية والفنية، وعهد الى مهرة الخطاطين والمصورين بنسخ عدد من المؤلفات المختلفة وتصويرها، ويذكر أنه أنفق أكثر من 60 ألف دينار في النسخ والتحرير والزخرفة والتصوير. كان الهمذاني مؤرخاً موسوعياً يجمع بين سعة المعارف وحاسة النقد المستنيرة، ويستعيض عن الأخبار الأسطورية التي كانت ثمرة الجهل والسذاجة بأخبار صادقة وموضوعية، اذ عايش الأحداث التي يؤرخ لها بنفسه، وعاصر دولة المغول في أبهى فتراتها، وشاهد بعينه حصار بغداد وسقوطها على يد هولاكو، والتحق بخدمة أعظم سلاطين الايلخانيين، وبلغ أسمى المراتب في عهد غازان خان وأولغامنو وفترة من حكم أبي سعيد بهادرخان، ولعب دوراً مهماً في سياسة دولة المغول وإداراتها. ومكنّه غازان خان من الاطلاع على الوثائق والسجلات للإفادة منها في كتابه، وعلى رأسها "التون وتبر" الكتاب الذهبي الذي يشتمل على التاريخ الرسمي للمغول، وهي ميزة لم تتوافر لغيره ممن كتبوا عن تاريخ المغول من السابقين أو المعاصرين له. وعلى رغم أنه كان من مؤرخي البلاط، إلا أنه التزم الحياد بقدر المستطاع، فهو معجب بسلاطين المغول ويشيد بأعمالهم، ولكنه في الوقت نفسه كان يذكر قسوتهم وإسرافهم في القتل، ويقول عن ذلك "لم تكن البلاد أكثر خراباً مما كانت عليه خلال هذه السنوات، خصوصاً في المواضع التي وصلت اليها جيوش المغول، إذ أنه منذ ابتداء ظهور آدم حتى قيام جنيكز خان وذريته، لم يتيسر لأي ملك مثل هذه المملكة الفسيحة التي سخروها وجعلوها تحت تصرفهم، ولم يقتل أحد في العالم من الخلق مثلما قتل هؤلاء المغول". وعلى رغم ذلك ترى الهمذاني يدافع عن غازان خان ويجرده من كل عيب، ويذكر أنه لم يقتل أحداً مطلقاً من دون جريرة، بالضد مما اشتهر به غازان خان وغيره من ملوك المغول بالقسوة في توقيع العقوبة، حتى أن عقابهم كان يتعدى الشخص المعاقب الى الأبرياء من اسرته واتباعه ومعارفه. كان طبيعياً أن يحتل الجزء الخاص بتاريخ حكم غازان خان المكان الأهم في كتاب "جامع التواريخ"، وذلك لأنه الملك الذي كلف الهمذاني بإنجاز الكتاب، وأطلق يده في شؤون البلاد بعد أن قلده الوزارة. فرأى الهمذاني أن واجبه الأول هو إبراز تلك الشخصية في صورة كاملة من شتى جوانبها، وإذا كانت عبقريته كمؤرخ تجلت في تأريخه لجنكيز خان، فإنها تجلت بصورة أشمل في تأريخه لغازان خان. ويبدو ذلك واضحاً في إحاطته الكاملة بجميع أطراف حياة الرجل منذ ولادته وحتى وفاته، وتتبع ما تم في عهده من اصلاحات، ومهد له منصبه الرسمي أن يكون على علم تام بكل التفصيلات والتنظيمات المعمول بها في حكومة المغول. ولذلك تناول قصة هذه الاصلاحات بحرفية شديدة وبدرجة تفوق المادة الغزيرة التي كتبها في الاجزاء الأخرى من كتابه، وبصورة حية قلما نصادفها في مؤرخي العصور الوسطى. تنقسم المواضيع الرئيسية التي اشتمل عليها "تاريخ غازان خان" الى أقسام ثلاثة: اهتم القسم الأول الخاص بحياة غازان منذ ولادته ونشأته وتربيته تحت إشراف جده آباقا خان وإعداده للمهمة الخطيرة التي تنتظره. ولعل أهم ما اشتمل عليه هذا القسم هو قصة اعتناق غازان خان للإسلام واتخاذه للمرة الأولى ديناً رسمياً لدولة المغول في إيران، ونتيجة لذلك كان لاپبد من تغيير سلوك المغول وقواعدهم ومقرراتهم، إذ لم يعد هناك مفر من العدول عن العمل بقواعد "الياسا" التي وصفها جنكيز خان، وترك عادات المغول وتقاليدهم القديمة، وكان هذا مما دفع غازان الى وضع "ياسا" جديدة عرفت بپ"الياسا الغازانية". وتصدى الهمذاني للرد على الشكوك والاتهامات المثارة عن إسلام غازان خان، وأكد أنه كان صادق الشعور في اعتناقه للاسلام، وأنه أخذ على عاتقه المحافظة على شعائر هذا الدين في حماسة وغيرة طوال عهده، حتى أنه وهو على فراش المرض قبل وفاته، أوصى الحاضرين بالتمسك بأهداب الدين الحنيف، والمحافظة على الاصلاحات التي قام بها، وكانت نتاج اعتناقه الاسلام وتمسكه بشريعته. تضمن القسم الثاني من الكتاب التاريخ السياسي لفترة حكم غازان خان، وشرحاً للحروب التي خاضها والفتوحات التي تيسرت له. وتعرض فيه لنكبة "نوروز" نائب غازان خان وأكبر شخصية في عهده، الذي ذهب ضحية لوشاية كاذبة قتل بسببها هو وجميع أفراد أسرته واتباعه. وتدل أحداث هذا القسم إن غازان خان استخدم لفرض سلطانه القسوة على ذوي قرباه وعلى أمراء المغول، حتى أنه لم يكن يدع سبيلاً لأي امير أو وزير كي يعترض ويتحدث في شأن من الشؤون. ويبرر الهمذاني هذا التصرف فيقول: "لم يشق ذلك في الحقيقة على أي شخص معهم، لأنهم جميعاً شاهدوا أن نفسه هي الأكمل ورأيه هو الأصوب من كل الوجوه، وكذلك حركاته وسكناته مرتبة الى أقصى حد، فلا جرم أن رأوا أنفسهم لا شيء بالقياس الى كفاءته". اتهم المستشرق الفرنسي غروسيه الهمذاني بالتحيز لغازان الى أقصى حد، وزعم أنه كان مجبوراً على إخفاء عيوب هذا الايلخان. ويرد الدكتور الصياد على ذلك بأننا لا نستطيع أن نأخذ على المؤرخ ما كتبه عن غازان بتلك الصورة التي لا تخلو من المبالغة، وذلك لأن المؤرخين المعاصرين واللاحقين أجمعوا على تمجيد غازان خان والاشادة بما قام به من إصلاحات، أمثال الوصّاف، والبناكت، وحمد الله المستوفي القزوين، ومحمد بن علي الشبانكاري، ومحمد بن هندوشاه النخجواني، ومير اخوانه، وخوان مير. وتعرض القسم الثاني للحملات الثلاث التي شنها غازان على بلاد الشام وانتهت بهزيمة قواته على يد المماليك في عهد الناصر محمد بن قلاوون وجلاء خطر المغول عن سورية بعد موقعة "مرج الصفر" في رمضان 702 ه. وتحدث القسم الثالث والأخير بالتفصيل عن إصلاحات غازان خان التي اشتملت جوانب الحياة المختلفة، وهي النواحي التي تحظى بعناية الباحثين والدارسين، خصوصاً من يدرس العصر المغولي الذي ذاع عنه أنه عصر تخريب وتدمير للحضارة والمدنية. فبعد إعلان الاسلام ديناً رسمياً للدولة وقضي على الهوة التي كانت تفصل بين الحكام والمحكومين بسبب اختلاف الدين، وازيلت الحواجز الجنسية والطبقية التي كانت تفصل بينهم مما ساعد على إندماج المغول في المجتمع الإسلامي، واشتد تأثرهم بالبيئة الحضارية الاسلامية. وهيأ حكم غازان للمغول فترة هدوء كفوا فيها أيديهم الى حد كبير عن القتل والاغارة، وعادوا الى الحال الطبيعية فزاد تأثرهم بحضارة المغولبين، ووجدوا في اصلاح ما أحدثه اسلافهم من تخريب وتدمير، وصاروا أكثر استعداداً للمساهمة في انهاض الحضارة الاسلامية من كبوتها. كان هدف غازان هو استقرار الامور السياسية الداخلية، ووضع علاج حاسم للجراح الدامية التي وجدت قبله، فكان لاپبد من القيام بسلسلة اصلاحات واسعة تهدف الى رفع المظالم عن طبقات الشعب ومحاربة ضروب الفساد طبقاً لما تنص عليه الشريعة الاسلامية، فاستعان بالعلماء ارباب القلم ورجال السياسة من أجل تنفيذ برنامجه الاصلاحي الشامل، فنصب الهمذاني الذي كان طبيباً ومن ابرز أهل القلم، وزيراً للمملكة فعمل مع من شاركه منصب الوزراة على تنفيذ كل الاصلاحات التي تمت في هذا العهد.