في البدء، أعطت الصور القليلة وأسطر الأخبار المبتسرة الواردة من أوغندا أواخر آذار مارس المنصرم، انطباعاً أن الحريق الذي أتى على جمع معتصم في كنيسة "كانو نجو" أقرب الى الحادث العرضي أو الاتصال بالتوترات الطائفية والقبلية المستعرة في افريقيا. وقبل أيام قليلة من حريق أوغندا، وقفت وزيرة العدل الأميركية جانيت رينو لتذيع النتائج الأولية لتقرير "أف بي آي" عما يعتبر إحدى أبرز نقاط التوتر في أميركا العولمة وما بعد الحداثة أي "حريق واكو". وما فتئ حادث الاحتراق الجماعي في 19 نيسان ابريل 1993، لتلك العصبة التي أطلقت على نفسها اسم "الفرع الداودي" في المجمع الكرملي وكنيسته في مدينة "واكو" ولاية تكساس، حاضراً بقوة في الشأن العام الأميركي. ويتصل حادث "واكو" بظاهرة الميليشيات المسلحة وتناقضها مع الدولة، ولربما أمكن تأويلها ونسبتها إلى عصب آخر. وتتهم عقلية "المؤامرة" الرائجة في جمع الميلشيات الأميركية، الأجهزة الأمنية بأنها قتلت مجموعة "الفرع الداودي" في "واكو" لأنها ترفض الانصياع لسلطة الدولة. والحال أن الانفجار المروع الذي حطم مجمعاً للأبنية الحكومية في ولاية أوكلاهوما، إنما تم في ذكرى حريق "واكو". وفي وقت قاد تيموثي ماكفاي شاحنته المعبأة بمتفجرات بدائية من صنع محلي، إلى المجمع، كانت ثلة من "الميلشيا الدستورية لتكساس الشمالية" تضع نصب غرانيت في مكان حريق "واكو". بدت رينو كأنها تُوتِّر عصباً حساساً بإعلانها أن التقرير الأولي يدعم "براءة" رجال الأمن من افتعال الحريق التكساسي. ويتضمن قولها إشارة لا تخفى، الى تأويل حادث "واكو" على أنه انتحار جماعي دعا إليه وقاده ذلك الشخص الكاريزمي ديفيد كوروش زعيم "الفرع الداودي" ومُدبّره. هل كان كوروش داعية الى عصبة للفناء الذاتي؟ وهل كان ذلك المتضلع في شؤون التوراة والإنجيل، عازماً على تجميع عصبته والدفع بها الى اختيار الموت الجماعي وسيلة للخلاص الأبدي؟ "بوابة السماء" و"معبد الشمس" يتوزع تأويل حادث "واكو"، وفيه الكثير مما يغري بإقامة المقارنة مع حريق "كانونجو"، بين رؤية الميليشيا وكونه انتحاراً جماعياً، ولكثرة ما يتردد ذكر "واكو" في أدبيات ميليشيات الولاياتالمتحدة، بات مألوفاً إدخاله في العنف الداخلي وانقسام النسيج الاجتماعي بعضه على بعض ودخوله في باب الاحتراب. والحال أن كوروش جمع أنصاره من دول عدة، مثل بريطانياوكندا وأستراليا، يربطها بالولاياتالمتحدة تقدم المجتمع ما بعد الصناعي وشدة التعقيد في مستوياته والضغوط المهوّلة على الحياة الفردية وغيرها. وذاك باب لنقاش عريض، ليس المقام لمقاله. وفي رؤية حادث "واكو" على هيئة الانتحار الجماعي Mass Suicide تنداح دائرة أسئلة مقلقة عن بواعث الحريق ودلالاته. ولعل الأقرب هو القياس على الشواهد ومحاولة تلمس الخيط الذي يصل بينها، فالهزيع الأخير من القرن العشرين شهد جمعاً من حوادث يجمع بينها قيام جماعات، قوام عصبيتها ومجمع متفرقها، الإنذار بقرب نهاية العالم ونشدان الخلاص عبر الموت اختياراً؟؟. فعام 1994، تناقلت الصحف صور الموت الجماعي لجماعة "هيكل الشمس" حين تجمع نحو 74 شخصاً منها في مجمع سكني أنيق في ضاحية مترفة من العاصمة السويسرية برن، وقد وُجدوا في تمام شارتهم واكتمال زينتهم، وما حاقت بأجسادهم شدة ولا أذى، قبل تجرعهم السم في كؤوس النبيذ والعصير. وما اقتصر الأمر على "هيكليي" سويسرا، فقد حذت حذوهما، وفي اللحظة نفسها، جماعات صغيرة قضت على نحو مشابه في كندا وفرنسا، يجمعهما الانتماء الى "هيكل الشمس". ولم يعرف الكثير عنهم سوى الولاء ل"قائد" المجموعة، وكان طبيباً ذا ميول خاصة وآراء متطرفة عن نهاية العالم. وينطبق الوصف نفسه تقريباً على الانتحار الجماعي الذي نفذته عصبة "بوابة السماء" ربيع العام 1997 لدى مرور مذنب بوب - هال. وتميّز الهلاك الطوعي لجماعة "بوابة السماء" بكثافة استخدامه الإعلام المعلوماتي، وخصوصاً شبكة الإنترنت التي وضعت عليها أشرطة وتسجيلات ووثائق ضافية تشرح قرب اللحظة التي يسيطر فيها الغرباء الفضائيون على الأرض فتهلك الحضارة البشرية. واستطراداً، فإن معظم أفراد تلك الجماعة كانوا ممن تضلعوا من علوم الكومبيوتر وألفوا استخدام الشبكة الدولية في التعبير عن الرأي وكذلك للاتصال في ما بينهم ومع الآخرين. وعلى رغم تكتم السلطات اليابانية عما كانت تهم به جماعة "شيزي أوم"، فبعض ما رشح يشير الى قولها بقرب نهاية العالم وبضرورة اختيار الموت درباً تؤدي الى "خلاص" غير واضح المعالم. فهل اندرجت مجموعة "شيزي أوم" في سلك عصبية الفناء الذاتي؟ المنظار التطوري ولعل أشهر انتحار جماعي في القرن العشرين، الممتلئ موتاً في حربين كونيتين، وحروباً كثيرة وأسلحة دمار شامل ومجازر جماعية، هو ذاك الذي قاده القس الأنغليكاني جيم جونز في مدينة جونز تاون في غويانا الأميركية. انتحر نحو ألف من ذوي الأصول الافريقية، هكذا ببساطة. وقيل إنهم كانوا في غمرة من رقص وغناء مأخوذين من إرث قبائل افريقيا الممتزج بقداديس خاصة، لأن قائد المجموعة قرر أنها اللحظة الملائمة للموت. وسال حبر كثير في وصف عدم التواؤم الذي طالما شكا منه المنتحرون، وقيل الكثير في وصف التناقض بين التقاليد الافريقية المتوارثة والإيقاع المتوتر للتطور في أميركا. والأرجح أن تلمس الخيط الذي يجمع في ما بين متفرق نشوء الجماعات على الدعوة الى الموت الذاتي لا الى الحرب والقتال والشهادة، وغير ذلك من ضروب التئام الجماعات على "الدم المقدس" ليس إلا أمراً وعراً. وتبدو الشواهد نفسها رجراجة يصعب الاطمئنان الى قسماتها، فكيف بالتأمل في التشابه والفوارق؟ من يملك يقين من مات؟ وهل كان كوروش الذي جاب بلداناً متطورة والتقى أتباعه في محاضرات ألقاها في الجامعات الكبرى، داعية عصيان مسلح، أم واعداً بوهم أنه "مسيح" القرن العشرين؟ أم أنه جمع ورتب لانتحار عميم؟ أشار بعض رجال "اف بي آي" الى أن كوروش عمد الى سد المنافذ قبل الشروع في التمرد أو الانتحار، وإلى أن بعض أتباعه ربما سيق كرهاً؟ فهل "انتحرهم" في قتل جماعي؟ في هذا المعنى يُمّحى الفارق، الهين أصلاً، بين الانتحار المباشر والاجتماع على قول بالفناء. وتثور الأسئلة نفسها في حال "شيزي أوم" و"حركة إحياء الوصايا العشر"، فيما تبدو "بوابة السماء" و"جماعة جيم جونز" و"هيكل الشمس" على هيئة الانتحار الجماعي. والمألوف في أمر الجماعات تأويلها الإشارات الكبرى في الكون والتحولات في الطبيعة، وذلك ما فعلته "جماعة بوابة السماء" و"إحياء الوصايا..." و"شيزي أوم". وفي كل الحالات راجت رؤية ما لنهاية العالم. والجامع بين الجماعات التفافها حول شخص واحد بعينه، لا حول نسق لقيم أو مفاهيم أو ما شابهها. وفي بعض الأحيان برز اضطراب وتشوش في شخصية "الملهم". وشاع أن ديفيد كوروش تزوج، بالتدليس والمخادعة، أكثر من واحدة من أتباعه وأخفى عن كل منهن أمر الأخريات. وراج أن بعض أطفال "واكو" كانوا أولاده، وقال بعض أتباعه السابقين بميله الى التهتك الجنسي. وقاد "حركة إحياء الوصايا..." القس الكاثوليكي السابق جوزيف كيبويتر الذي يملك سجلاً طبياً ثقيلاً في مستشفى بوتابيكا للأمراض النفسية في كامبالا، وفيه وصف لهذاءات العظمة Grandause delusions والهلاوس السمعية والبصرية Visual & Audiatory Hallucination، والتي تتوافق مع تشخيص الأطباء لمعاناته ذهان هوس الكآبة الدوري Manic Depressive Psychosis. ولكن، ما الذي يجر الجموع خلف ذلك الاضطراب السائر على قدمين؟ في أميركا، يمكن الحديث عن الاغتراب والاستلاب والقسوة في العيش اليومي للأفراد في المجتمع ما بعد الصناعي. وذاك ما بدا أن المرحلة المعلوماتية وطدته وزادت مرارة العزلة والاغتراب فيه. إحدى منتحرات "جماعة بوابة السماء" تركت شريطاً إلكترونياً على الإنترنت توضح فيه أنها تحس بأن شيئاً ما لا يربطها مع جميع بلايين البشر الذين يعيشون على الأرض! وذاك مجرد مثال. وفي افريقيا، يبدو الموت الجماعي الأوغندي استمراراً لانتشار الفناء في القارة عبر الفتك الذريع للإيدز ببشرها وأكل الصحراء غاباتها والتهام صراعات القبائل والمجازر المتبادلة الإنسان فيها. وتتفاوت مواقف الجماعات من استخدام التقنية المتطورة، على رغم تقاربها في الميل الى الأخذ ببعض أسبابها كالإنترنت "بوابة السماء" أو الراديو "إحياء الوصايا..." أو الأسلحة الكيمياوية "شيزي أوم". وتميل هذه الجماعات الى تجاوز حدود الدول. فقد جاء أتباع "حركة إحياء..." من رواندا وتانزانيا وكينيا. وأيد كوروش شباب من بريطانياوكندا وأستراليا. وتوزع مؤيدو "هيكل الشمس" على عدد من دول أوروبا الغربية. وفي ذلك المعنى، يصعب قصر تشبيه المقتلة الأوغندية بأحداث فريتاون، إلا ضمن رؤية تستبطن بعض العنصرية ضد أهل القارة الافريقية. وفي كل الحالات، أتى الموت من الداخل وسار إليه الجمع، طوعاً أو كرهاً، ولم يحضر العدو من الخارج ولم يتجسد في "آخر" صريح. فقط بدا العالم كله كأنه في موضع للخلل والفساد، أي أنه الجسد الممتد الى هوية "الآخر". وتوتير العداء مع العالم الى هذا الحد، كان الدرب المفتوح لتماسك الجماعات على خواء قاس يقود فيه كل مقول الى الموت، وتفضي فيه العلاقات الى الفناء الذاتي؟ وفي المنظار التطوري يقتضي الأمر تفكراً. فثمة ندرة في الشواهد على الفناء الذاتي للجماعات، ويميل علماء الباليونتولوجيا الى جعل البقاء وحفظه ورد الموت كسبب أصيل لنشوء الاجتماع الإنساني. فما الذي يدفع الى الانشقاق والضرب على هدي مغاير وقاتل؟ ولماذا تتكاثر تلك الشواهد في التاريخ الراهن والمعاصر؟ أسئلة مفتوحة.