فرد قدميه أمامي، فضغطت على أنبوبة المرهم ووزعته على العروق النافرة وأخذت ادعك حتى سرى الدفء في يدي وتخدرت عيناه. - "علي باقي له اسبوعين مجاش". هززت رأسي وتحسست الشعيرات القليلة المتناثرة على قدميه فتأكدت أن الجلد تشرّب المرهم. أضربُ يده وهي تمتد لتأخذ اصابع الكفتة التي انتهيت من تحميرها، يدور، يرقص في الصالة الواسعة، ومحمود يطبل على غطاء الحلة، فأتذمر وأعلن أنني لن أطبخ ولن أفعل أي شيء. - "هات حماتك تطبخ بدالي". - "أنت عمرك ما هاترضي عنها ابداً". تفرّ الدموع من عيني - "خلاص مش همك أمك". بينما يُقبل هو يدي، ومحمود يتشاجر مع زينب كي تطبخ بدلاً مني. ارفع عيني الى صورة زفاف علي المعلقة على الحائط وأراه يشبه أباه كثيراً. - "عياله بيمتحنوا". أقولها وأنا اسحب الشراب الصوف من تحت المخدة، وادفس قدمه في الشراب. - "طيب... هاتي دوا السكر". اضحك على الولد حسين كلما تزحلق على الترابزين الحديد الطويل للكشك الذي أجلس فيه وهو يقول: "لسه هانزل السلالم دي كلها يا أبو محمود"! القطارات لا تنقطع من محطة الفرز، صفيرها كأنه نذير لا يكف عن العويل، وأنا أجلس بالبدلة الزرقاء والأزرار الصفراء أراقب تحركاتها، وامسك في يدي ورقة المعاش وافكر في زراعة "قراطين" البلد، بينما ينتابني دوار وأنا انظر لتقاطعات قضبان السكة الحديد فأهوى على السلالم تحتضنني يد حسين. يرفع طبيب الهيئة عينيه عن الأوراق ويقول: سكر. أناوله الأقراص من على البوفيه المكدس بالأشياء، يبتلعها وهو يبسمل، اتذكر دواء الضغط، فابتلع الأقراص، وأنا اتمدد على السرير واعطيه قدمي - دورك. اتناول انبوبة المرهم من يدها واضغط عليها، وآخذ في دعك قدميها الهزيلتين. أتأملها في فستانها الأبيض المضموم على جسدها وتاج من الفل الطبيعي يعلو شعرها، اضم يدها في يدي. - "عيشتي صعبة كل يوم في بلد". فتهز رأسها وترخي جفنيها - "تتقضي". - "المهيه اتنين جنيه". فتهز رأسها وترخي جفنيها - "بكرة يبقوا عشرة". فأضمها وأنا أحلّ ضفيرتها الطويلة الحالكة السواد. - "قلبي حاسس أن ليلى ولدت، حلمت أن فيه بيضة في البرج. أقولها واسحب الشراب الصوف من تحت المخدة وادفس قدمها فيه. - "لأ، دي هاتولد في دخول الصيف". اصعد فوق السرير واتمدد بينما تنزل هي تتسند على البوفيه. - "هاتي معاكي كباية ميه". اتعكز على البوفيه والكراسي وآتيه بكوب الماء الذي يرتعش من يد الى يد. زعق علي من جوار الشباك: الحكومة... الحكومة. وجرى بسرعة الى الحجرة الداخلية، ومحمود يدور حول نفسه وفي يده السيجارة، فأشير الى المطبخ وأنا امسك الحمامة الصغيرة واسقيها من فمي، اعرف أنه عندما يدخل سيسأل عن أكل الحمام والذرة العويجة التي اشتراها بالأمس له، يدفع الباب الخشبي ويدخل في بذلته الزرقاء والأزرار الصفراء اللامعة، عنها يكون محمود واقفاً أمام الحوض يشرب حتى يداري رائحة السجائر بعدها يرفع يده ويقول: "تمام يا حكومة بنذاكر والله". يخلع بذلته، اشرق وتشرق معي الحمامة الصغيرة التي اسقيها، بينما تضحك زينب عندما يدغدغ الحمام يدها وهي تنثر له الذرة العويجة على ارضية المنور. ابحث عن اللزقة على البوفيه فتتعثر يدي في خطابات محمود فأفضها، كروت ملونة من بلدان مختلفة وكلمات قليلة متناثرة، صورته مع زوجته الشقراء جالسين على شط نهر صغير، ولأول مرة ألاحظ أنه يشبهني، أخرج اللزقة من العلبة الكرتون، فيرفع جلبابه ويعري ظهره لي، ألصقها في منتصف الظهر أشد جلبابه وأفرد البطانية. تأملتها وهي ترتدي فستان الفرح وشعرها منسدل على كتفيها، ففرت دمعة مسحتها بباطن يدي، وقلت لزينب: "بخّري بنتك". تضحك ليلى وتقول: "بخور إيه يا ستو دا أنا رايحة اميركا". ازعق في البنات من حولي - "خدي ارفعيلها شعرها بالبنس وانتي حطيلها التاج، عيني الشمال بترف ياولاد". لكني في النهاية ابتسم وأنا ألوح لها في المطار. ننزلق تحت البطانية، يخلع نظارته واخلع نظارتي وككل يوم يشبك يده في يدي، واشبك يدي في يده كي يطمئن كل منا لدفء الآخر. * كاتبة مصرية.