} بقي معظم الجدل حول رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر مصرياً. هنا موقف عالم دين من سورية، لا يشير بالاسم الى الرواية او كاتبها. قضت محكمة بريطانية قبل شهر تقريباً بمصادرة كتاب للكاتب البريطاني ديفد ارفنغ وفرض غرامة مالية كبيرة عليه لانه حاول ادخال بعض الريبة في حجم المحرقة النازية من خلال بعض الاحداث التي ساقها في كتابه. لم اشك عندما قرأت وسمعت نبأ هذا الحكم، ان طائفاً من الرعب بدأ يساور سلمان رشدي صاحب رواية "آيات شيطانية" الذي يقيم في بريطانيا، وانه اخذ يهيئ حقائبه وامتعته ويعد العدة للخروج من بريطانيا الى اي بلد آخر اكثر حماية للحرية. لكنه وقد عدل عن الرحيل وعاد يتفيأ ظلال الطمأنينة، لا بد ان جمعاً من القضاة وخبراء القانون طمأنوه عندما ذكّروه من نسيان انه انما تطاول بالسباب والشتائم على الاسلام وعلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لا على اي شخص آخر او مؤسسة اخرى. ولذا فان له ان يعود الى طمأنينة النفس والبال وإنه يلقى الامن والحماية في وطنه الاول او الثاني... بريطانيا. تذكرت قضاء هذه المحكمة وانا اصغي الى نقيض قرارها ونقيض منطلقها ونظرتها الصادر من وزارة الثقافة المصرية والى القرار المحير العجيب الصادر من "اللجنة الادبية" المشكلة، لتواجه به هياج الجماهير المتنوعة التي فاضت بها شوارع القاهرة وساحاتها...! باسم "الحرية الشخصية" تكلمت وزارة الثقافة واستنطقت لجنتها، وباسم "الحرية العامة" التي تحمي الكرامة وعقائد الامة تكلمت الجماهير الهادرة!!.. فأين هو المعين الضائع للحرية بين هذين الفريقين؟! اعرف تماماً انني عندما بدأت اصغي الى قرار اللجنة المذكورة التي اشادت بالرواية التي اعجب بها وزير الثقافة وأوعز بطبع ونشر آلاف النسخ الشعبية منها، اعرف تماماً انني عندما بدأت اصغي السمع الى قرار هذه اللجنة، كنت مستقر الفكر ثابت التوازن العقلي. حتى اذا انتهيت الى قرار اللجنة وحيثياته رأيتني من الدنيا التي حولي امام مشاهد وصور لا استقرار لها. وتذكرت "الدوامة" التي كانت ملهاتي المفضلة اذ كنت طفلاً ايام الاعياد. كانت اذا دارت بي تخيلت ان كل شيء من حولي قد خرج من استقراره المألوف واخذ يتحرك ويدور حتى اذا انتهت الدقائق المرصودة وانزلني صاحب الدوامة الى الارض تبينت من الدوار الذي في رأسي اني انا الذي كنت ادور! اصدقكم ايها الناس انني لم اعد افهم معنى ثابتاً ل"الحرية"!.. انني، وانا واحد ممن يدعو اليها ويقدسها، لم اعد اراها من خلال هذه القرارات والاقضية المتناقضة الا كما كنت ارى الدنيا من خلال الدوامة التي كانت تدور بي! تقول اللجنة ان الرواية "عمل ادبي مقبول وينبغي ان يلقى الأدب مجاله الرحب من الحماية والحرية". حسناً اذاً فهذه النماذج التالية - وهي قليل من كثير كثير - ادب يتحرك في ساحة الحرية المقدسة ومن ثم يجب عدم الدنو منه وعدم التطاول عليه: - "في عصر الذرة والفضاء والعقل المتفجر، يحكموننا بقوانين آلهة البدو، وتعاليم القرآن ..." - "ان رب هذه الارض كان يزحف وهو ينسل من عصور الرمل والشمس ببطء السلحفاة" - "عقيل اخو .... ...". - "رسولنا المعظم كان مثالنا جميعاً ونحن على سنته، لقد تزوج اكثر من عشرين امرأة بين شرعية وخليلة". - "الحياة الآخرة، وأنهارك العسيلة وينابيع الكوثر، في ...... هذه حياتي الاولى والاخيرة، وما تبقى خذه، سامحتك فيه، اعطه لعبادك الصالحين". ومعذرة لقلم التحرير في هذه الجريدة ان هي تحرجت واستشنعت تنضيد هذه الكلمات، وليشفع لها ان وزير الثقافة المصري قد اعجب بها! اقول للجنة المحترمة التي ينتشي رجالها طرباً لهذه الالفاظ الادبية السامية: ما لنا نهدر اذاً حقوق كبار الادباء من الرعاع والسوقة وارباب البذاءة اللسانية، وما اكثرهم في كثير من الحواري والأزقة والمنعرجات المظلمة، وما لنا نبخسهم حقهم في الشهرة ونيل درجاتهم المستحقة في عالم الادب والنقد؟ ألأن حظوظهم قصرت بهم فلم تتح لهم دار ينشرون فيها ادبهم الرفيع؟! ترى ماذا سيكون موقف السيد وزير الثقافة أو أي من اعضاء اللجنة لو ان هذا الكاتب توجه اليه هو، لا الى الله والقرآن والاسلام بسبابه الادبي الرفيع؟ اذاً لتحركت الدعاوى وسيق هذا الاديب اللامع باسم القانون الى المحكمة، وأوقف تحت سلطان القضاء لينال ما يستحق من العقاب تجاه ايذاء الآخرين وتجريحهم. وكم في ملفات القضاء المصري وغير المصري انباء عن فنانين وفنانات ومواطنين ومواطنات اوذوا بأقل من هذه الكلمات السوقية الساقطة على صفحات الجرائد او في بطون الكتب، فسيق الكاتبون باسم القانون الى القضاء، ثم عوقبوا بالسجن او بالغرامات المالية المتفاوتة. لعل في أعضاء اللجنة من يقول: "ان الرجل يكتب رواية...انه يتخيل ولا بد ان يستنطق ابطال روايته كلاً بحسب الدور المنوط به. انكم لا تعرفون قراءة الروايات!". واقول : لقد كنت ولا ازال اديباً قبل ان اصبح عالماً من علماء الشريعة وفلسفتها، ولقد درست فن القصة وكتبت الروايات الطويلة والقصص القصيرة، ومن ثم فإني اعرف كيف انفذ بافكاري ونفسيتي وضغائني واغراضي عموماً، عبر قناة قصة اكتبها او رواية استنطق ابطالها الذين هم ليسوا اكثر من اطياف لنفسيتي، بالكلام الذي اشفي به غلتي وألطخ به خصومي. وكم من روائيين يقبعون اليوم في اعماق سجون لانهم نالوا من خلال سيناريوهاتها من مسؤولين او رجال مرموقين. ومع الاسف لم يتح لهم آنذاك محامون على مستوى اعضاء هذه اللجنة ليبرئوا اولئك الادباء من التهمة التي الصقت بهم وليقولوا للقضاة: "انها مجرد رواية ويبدو أنكم لا تعرفون كيف تقرأ الرواية!". اذاً من اين جاء هذا التناقض في الاحكام، بل هذا اللعب البهلواني بالمكاييل؟ مصدر التناقض ان كل انسان هو الحارس لحقوقه وكرامته، لا سيما عندما يكون هذا الانسان ذا طول او مركز مرموق. فما ايسر ان يستنطق القوانين ويحرك القضاء لرد اي أذية عنه. اما الاسلام وربّه، فرحم الله عهداً كانت اولى مهام القادة وأولي الامر في العالم العربي والاسلامي حراسة الاسلام ان لا يعبث به عابث وان لا يسخر منه ولا من إله الكون وخالقه ساخر... لقد مضى ذلك العهد وكأنه آل على نفسه ألا يعود! هل اقول: ان الاسلام قد تيتم اليوم بين من كانوا اهلاً وسدنة وحماة له بالأمس؟! ومن ثم جرأ الماكرون والعابثون والمستأجرون على امطاره بكل ما يعرفه قاموس السوقة والرعاع من السباب والشتائم والكلمات البذيئة التي قرأتم الآن نموذجاً بسيطاً منها؟ لماذا تختفي الحرية وقدسيتها وتتجلى في مكانها على الساحة القوانين الناطقة بحماية الكرامة والحقوق الانسانية عندما يتجه لسان او قلم ما بالاذية الجارحة الى مواطن اياً كان شأنه ومستواه؟! ولماذا تختفي القوانين ويستعاض في مكانها بالحرية وقدسيتها عندما تتجه سهام الأذية والشتم الى الله ودينه؟! أأقول مرة اخرى لأن الاسلام يتيم؟ لا الفم الناطق ولا القلم الكاتب يطاوعني اي منهما على الجزم بهذا القرار المرير الذي دونه في الالم الخانق موت هذه الامة بكاملها!! غير ان عزائي امام هذا الالم المذيب ان العالم الغربي يفيض اليوم بمن كانوا الى الامس القريب غرباء عن الاسلام فاذا هم اليوم يركنون اليه ويأنسون به ويدافعون عنه، وصدق الله القائل "وان تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا امثالكم". بين الحين والآخر تقبل اليّ في دمشق مجموعات من السياح الغربيين يسألونني في لهفة عجيبة لا عهد لي بها عن حقائق الاسلام واحكامه وآدابه. وفي لقاء مع آخر مجموعة منهم وكانوا زهاء ثلاثين سائحاً ما بين رجل وامرأة، توجه احدهم إلي بالسؤال التالي: "ما موقف العالم العربي والاسلامي من هذا التشويه ذي الاساليب المتلاحقة للاسلام؟". قلت له:"ان سؤالك هذا يحمل في طيه البشارة الكبرى التي لم اكن اتوقعها! ان هذه السلسلة من التشويهات لا تنطلي عليكم اذاً، وانكم لتعلمون اذاً ان الاسلام بريء مما يصورون ويدجلون". وقلت له: "لا تستغرب ان تتحول الغيرة على الاسلام ومشاعر التوجه اليه والمحبة له من المسلمين التقليديين في بلاد الاسلام الى الشعوب الغريبة عنه في بلاد الغرب! والمأساة، كل المأساة، عندئذ تكمن في الذلّ الذي ينسجه المسلمون التقليديون لانفسهم بعد الشرف الذي توج به الاسلام حياتهم!". اعود الى الحديث عن مأساة الحرية باسم التقديس لها وعن موقف الاسلام من الحرية الحقيقية لا الوهمية الكاذبة والى البحث عن المعين الضائع للحرية بين "الحرية الشخصية" التي تدعو اليها وزارة الثقافة المصرية، و"الحرية العامة" التي تهتف بها وتدعو اليها الجماهير الهادرة. لقد عكفت على دراسة النظم والفلسفات القديمة والحديثة وهي ترسم معالم الحرية وحدودها بين يدي تقنينها والدعوة اليها، ووقفت على ما تعتز به بريطانيا اليوم من الآراء التي دعا اليها ستوارت ميل في كتابه "الحرية"، فلم اجد شرعة تمجد الحرية وتحميها من انواع العبث بها سواء تلك التي تواجهها من خصومها او تلك التي تتسرب اليها باسم الحماية لها والدفاع عنها، كشرعة الاسلام: -عقائد الاسلام لا قيمة لها في ميزان الاسلام الا ان تبنتها العقول في مناخ الحرية. - والشرائع السلوكية للاسلام لا يلزم القضاء الاسلامي الناس بها الا من خلال عقود رضائية التزموا بها بموجب عقائدهم الاسلامية التي اختاروها بمحض قناعاتهم الفكرية. - ومصدر قداسة الحرية في الاسلام يتمثل في الكرامة الانسانية التي رسخها قول الله عز وجل "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلاً". من هنا فان التصرفات التي تنشر اسباب الاذيّة للآخرين بدون حق ممنوعة في شرعة الاسلام لانها تسيء الى كرامتهم وتتربص بحرياتهم. ولا فرق بين الاذى الذي يتجه الى الاجسام والحقوق المادية والذي يتجه الى الكرامات والحقوق المعنوية... ورب انسان يضحي بسلامة جسده في سبيل حماية عرضه. انطلاقاً من هذه الشرعة يحق لكل انسان ان يعبر في ظل المجتمع الانساني عن معتقداته وقناعاته الفكرية سواء وافقت الاسلام ام خالفته، وليس للمسلمين ولا لأحد من اولياء امور المسلمين ان يواجهوهم الا بالحوار والنقاش. وعندما سادت فرق اسلامية شاذة في معتقداتها في اواخر القرن الهجري الاول انما ظهرت وسادت في ظل هذه الحرية الفكرية التامة وعندما ذابت ثم بادت بعد ذلك، انما بادت في ساحة الحوار والنقاشات التي كانت تعقد لها مجالس وحلقات تاريخية مشهودة. وانطلاقاً من هذه الشرعة ذاتها، لا يحق لأحد ان يسكت عقله عن عرض حججه وقناعاته الفكرية، وينطق بدلاً من ذلك لسانه بالسباب والبذاءات الكلامية! ذلك لان العقل اذا تكلم وادلى بمستنداته وحججه ازدادت الحرية العامة قوة ورسوخاً، اما اذا سكت العقل وامتد اللسان بالشتائم وقول السوء، فلا بد ان تنتشر من ذلك اذية كبرى تنال الآخرين في كراماتهم واعراضهم وتخنق مشاعر حرياتهم. وقد علمنا ان الاذى الذي يصيب الناس في اعراضهم وكراماتهم ومعتقداتهم ليس اقل من الاذى الذي يصيبهم في اموالهم واجسادهم. فأعجبُ اذاً ممن يمزق حرية تلك الجماهير الهادرة في العمل على حماية كرامتها واعراضها وقدسية معتقداتها، باسم الحرية الشخصية التي يجب ان يتمتع بها من يسكت عقله عن الحجة والبرهان وينطق لسانه بأقذع الشتائم وأحط البذاءات التي يتسامى عنها السوقة والرعاع! لكن لأقل مرة اخرى: سقى الله عهداً كانت المهمة الاولى فيه لملوك المسلمين وقادتهم، حماية الاسلام وحراسته من المتربصين والعابثين به، ورحم الله عثمان ارطغرل اول خلفاء العثمانيين يوم قال لابنه يوصيه وهو على فراش الموت: "يا بني: لقد كنت كهذه النملة الصغيرة في الضعف، فأعطاني الله كل هذا الذي تراه لخدمة دينه، فانهض بعدي بخدمة هذا الدين وكن حارسه الامين، فانما هي وظيفة الملوك والحكام فوق هذه الارض". * رئيس قسم العقائد والأديان في جامعة دمشق.