يقيم الفنان بشار العيسى معرضين متزامنين، وفي صالتين متباعدتين جداً، الأول في صالة البناء المركزي لبنك "سوسييتيه جنرال" قرب أوبرا باريس، والثاني في البحرين، في صالة "دار البارح". قدّم في الصالة الأولى ما يزيد على ثلاثين لوحة ورسماً، أشاعت روحاً إنسانية في أروقة المال والمعلوماتية والبيروقراطية المصرفية، وفي البحرين أربعاً وأربعين لوحة، معظمها منجزة حديثاً مع عدا اثنتين، والعدد الأكبر خمس وعشرون منجز بالألوان الزيتية. أما البقية فمن الكرتون وألوان الغواش المائية. رحبت الذائقة البحرينية بأعماله، خصوصاً أنها تعرفت في أكثر من مناسبة على "نوستالجيا" التعبيرية السورية، من خلال عروض الكثير من فنانينها سابقاً، ابتداء من فاتح المدرّس وانتهاء بأحمد معلاّ مروراً بعبدلكي ودرويش وسواهم. إنها التعبيرية التي تبحث بعناد عن ملامح خصائصها الثقافية و"المعاناتية"، في عصر شاعت العولمة التشكيلية. ويقف بشار في الخط المعارض للحذلقة التغريبية التي يجترها بعض من مراهقي باريس. تتفوق بعض لوحات بشار الورقية - المائية على لوحاته الزيتية الكبيرة. ويرجع ذلك الى سبب بسيط أنها أشدّ التصاقاً بتلقائية مكنونات ذاكرته وتبدو كأنها رسم خاطف يقبض على الريح والضوء. وإذا كان معين الذاكرة البصرية مصدراً لاستلهام الكثير من المصورين فهو بالنسبة الى بشار، الإحالة التشكيلية الوحيدة، وتخصصت لوحته بالتجوال في مراتع الطفولة ومساحات دهشتها الأولى، حافظة سجلاً أميناً عن خرائط هذه الحبوات، وبالتحديد سراب قرية ولادته الغنامية عام 1950، والتي تقع في منطقة الجزيرة في شمال سورية. وسراب الانسان الذي يسعى لتأمين لقمة عيشه الوعرة كل يوم، تسعى لوحة بشار مثل قدره بين السماء والأرض، تمتد الفيافي والحقول والمراعي بين الخطين، مفترشة السلاسل الجبلية على الحدود التركية، وعبر امتداد لا نهائي. كثيراً ما ينتبذ خط الأفق أقصى موقع في سقف اللوحة، وقد يخرج من الإطار، فيبدو الفراغ كأنه مرصود من عين طائر مارق، يحلق في "طوبوغرافية" داخلية ملتهبة. وعلى رغم سكنى فناننا بصورة مستديمة في المدن الحضرية ذات التدافع البشري والمعماري، فإن تصويره يتمسك بأهداف الفناءات الرحبة المفتوحة. حيثما تتعانق ألوان الهواء الطلق وسعير الأحمر والأسود المتوهج. يرجع السبب ببساطة الى خصوبة ذاكرته الطفولية، فهو لم يفارق بيته في "باب السلام" إلا بعد العاشرة من العمر، و"باب السلام" هذا لم يكن يتشكّل إلا من بيتين يشرفان على وهاد متباعدة تفصلها عن قرية الغنامية المذكورة، كان يطالع من مشارفه سلسلة جبال طوروس التي تفصل سورية عن تركيا. وعندما قسم قطار الشرق السريع الضيعة الى قسمين واحد ينتسب الى تركيا والثاني الى سورية، فكان اتصاله به، أول عهد بالتواصل الحضري، والسفر خارج مساحة الطفولة. ما ان وصلت مغامرته قرية الدرباسية طالباً في مدرستها الاعدادية حتى ابتدأت جذور هذا المرتع تنكمش في وجدانه. فيها تعرّف على المئذنة لأول مرة، ثم أقام خلال سنوات في مدينة أكبر هي الحسكة، وذلك ابتداء من عام 1966 ودرس في دار المعلمين مادة الرسم وسواها ليتأهل معلماً في الاعداديات. وتعرّف أثناءها على فنانين محترفين مثل ممتاز البحرة وممدوح نابلسي. ظلت صورة الخواء المفتوح حاضرة في خياله، وفي تدريباته الأولى على الرسم والتلوين. وكانت مدينة الحسكة نفسها مشرفة على البادية. كان عليه أن ينتظر فترة الخدمة الإلزامية حتى يحتك بشكل عميق بعالم دمشق الحضري، وقد التحق في حينها أوائل السبعينات بادارة التوجيه المعنوي ليمارس الرسم الطباعي والإخراج، وليتعرف على تجارب التعبيرية المحلية، من خلال نقابة الفنون، والمشاركة في معارضها العامة، ثم انتقل الى بيروت ليقيم فيها ثلاث سنوات حتى 1983 قبل أن يستقر ويعمل في باريس منذ ذلك الحين. تعيش اللوحة نبضات التجربة الفراغية البكر والمزروعة بسكان المنطقة. وتتعايش فيها ذاكرة الثقافة الكردية مع السريانية الآشورية وسواهما، ذاكرة رعوية زراعية تغرف من مشاهد الهجير والحصاد والزرع وحاملات القش، وأهازيج الربيع والصيف. يعيش في عذابات طفولته الذاتية مرارة أطفال العالم، ويسحب شبح والدته على المرأة المكابرة الراسخة مثل جذوع الأشجار. يصوّر هامات الأشخاص بعكس الضوء، تماماً كما حفظتهم حقائب سفره، في ذهابهم وإيابهم، عند الشروق وعند المغيب. تحضر هذه المناخات في ضميره المهاجر وتسكن وجدانه المغترب، وهو ما يوشح تصاويره بأوجاع الحنين، ولوعات الألوان الملتهبة بالشوق. تثير خلاءات بشار مثل جماهيره الإحساس بالوحدة ونوعاً من الانتماء الى وحشة أو غربة الجماعة، وقدرها المحكوم بالتشرد والنفي. ولكن انتماء لوحته الى التعبيرية السورية يبدو أشد من أي انتماء آخر، بل انه يمثّل داخل هذه التعبيرية نكهة حساسية الجزيرة في الشمال، فاحتفاءاته البشرية لا تنفصل عن سلوك فرشاته تحوك الفراغ بمنطق السجاجيد المحلية، ونظام الحراثة منذ آلاف السنين وبما يقترب من إيقاع الأشجار، وهامات الجبال. وعلى رغم ما تمتلكه توابل ألوانه من نكهة وخصوصية، فهي تخرج - بالنتيجة - من المطبخ التعبيري السوري، وهو المحترف الذي نضج على نار هادئة منذ ستينات فاتح المدرّس وكيالي وسبعينات جماعة العشرة زيات ونبعه والزعبي الى آخر الحلقة. لكن تجربة بشار تقوم بطريقة مخضرمة برزخيّة بين هؤلاء والجيل التعبيري المحدث. وقد لا يوافقني البعض على هذه الملاحظة. وقد يخالفني بشار نفسه، ولكن الحكم البعيد هو الشاهد الأشد مصداقية.