تطالعنا التجارب الجديدة لفاديا حداد مع مطلع الألفية الثالثة من خلال معرضين أُقيما معاً، الأول في صالتها "آسكيو" التي تعرض فيها عادة، والثاني وهو الأبرز في صالة شركة الضمان. وهي كانت عرضت عقداً من أعمالها هذه قبل أسابيع في مهرجان متحف اللوفر الذي تزامن مع "الفياك" وبالتحديد في جناح صالة مغبغب البيروتية. يثير الانتباه في المعرضين عنوانهما المشترك: "منطق الطير"، فهو مستعار من منظومة فريد الدين العطار الشهيرة، وقد تعددت ترجماتها في السنوات الأخيرة حتى أصبحت لا تقل شهرة عن مثنوي الرومي، قد تحمل لوحات فاديا أشواق العطار الذوقية ومدارجه العرفانية والروحية في البحث القلق عن المطلق في مرآة الذات، ثم المعراج الباطني والتحليق في سياحة إبداعية لا تخلو مسالكها من الوعورة والمجاهدة، وقد يلتقي تعبير فاديا مع قلق العطار ولكنه هنا تشكيلي يمزق التجربة الداخلية بالنكوص الطفولي الدؤوب إلى طيور مرآتها المأزوقة. تبحث الطيور المهيضة الجناح عن حالات من الغبطة الخطية واللونية، من أجل أن تلملم شظاياها المبعثرة في فراغ اللوحة، وقد لا يحتمل عالمها المتمايز الكثير من الجدل والتنظير، لأن العبور من نافذة لوحتها يستلزم التلقائية البكر التي أُنجزت بها. وهي تبعثر غريزياً عناصرها في خرائط فلكية متناثرة، ولعلها المواصفات التي تجعلها ملتحقة نقدياً خصوصاً في توجهها المجازي أو الدلالي بالإشارات السحرية المحدثة، والتي أعادت استثمارها تيارات "التعبيرية المحدثة"، وهي التيارات التي تحاول الغور أكثر في مساحة الحدس والتعبير الوثني، المستقبل من رقابة العقل والمحسنات البديعية والحذاقات الثقافية. فاللوحة مشيمة رحمية مطبوعة بذاكرة طفولية رهيفة، تجري أحداثها بين التوقيعات القلقة للخط الأسود وهي غالباً ما تشير الى نتف من ريش طائرها الوجداني المتشرذم على مساحة الفضاء والخواء، وبين درجات اللون الأزرق الطوباوية المغتبطة، ولعلّها الذاكرة اللازوردية لضفاف البحر الأبيض المتوسط التي تحترق في رمال بيروت. أما تقنيتها فتستجيب إلى التلقائية القصوى في التعبير، تصوّر بألوان الأكريليك المائية أو التقنيات الحرة على الورق المسجى على الأرض، ثم تلصقها بعد إتمامها على القماش المشدود على إطار خشبي. وهكذا فهي ترسم مذكراتها الطفولية الحميمة بحرية بريئة. ثم تعرض هذا الرسم بكياسة اللوحة الزيتية وخبرتها المتراكمة. كذلك تهيئ مادة الإكريليك المائية رصفاً للمساحات، ذات الألوان الصمّاء - الخرساء، وبتنوعات صباغية رحبة سواء بواسطة الفرشاة أم السكين، تتبدّى ذائقتها الحداثية من خلال اختزالها للألوان، وإخماد صباغتها بدرجات هادئة تئن من دون عويل وتتوجع من دون أن تندّ عنها أدنى صرخة. يبدو اللون مكتوم الصوت، ولكنه يتنفس بحرقة ظاهرة. تخرجها هذه اللغة الرفيعة من تطريبات وتزويقات التجريد الغنائي الذي أتخمت نمطيته عروض بيروت. لعلّ الهاجس التسويقي هو آخر ما تحسب حسابه فاديا وخصوصاً أنها تتجه الى عاشق الحقيقة في التصوير أكثر من عشاق الجدار والديكور. وهذا ما يفسر عدم تثبيت قدميها في بيروت بعد، فما زالت محكومة بغربة طيورها في رمادية باريس، تتحرك أجنحتها بين المدينتين. ولدت فاديا مع فجيعة الحرب الأهلية، ونمت لوحتها في مساحة الانكسار الطفولي اليتيم. لذلك فأشكالها تتهاوى في فراغ كابوسي مشحون بالوحشة. لا تعرف طيورها سوى التحليق العبثي من دون أدنى أمل بأن تحط في مكان آمن. إن قدر الترحال وشدة السياحة ما هما إلا الوجه الآخر من تجربة الحرب اللبنانية. وعلى رغم أنها لم تعانِ مباشرة من هذه الحرب لوجودها في باريس، ولكنها تمثل النموذج الإبداعي المقطوع الرحم مع برزخ الوطن، وإذا كان انتماؤها للبلد يمثله هذا الجدار الاستنادي المعنوي أو الروحي، فقد تزلزلت اللوحة مع اهتزازه. وقد امتصت حساسية فاديا تدميرية الحرب من دون أن تتخلى عن شهادة الزمان والمكان. ألا تعطي هذه الشهادة بالنتيجة المصداقية الوجودية في الفن؟ وكيف نفسّر مرور بعض أساليب الفنانين بأمان وتجلّد ومكابرة أمام تجربة الحرب وكأن شيئاً لم يكن؟ إذا تأجّلت صدمة الحرب بالنسبة للفنانين، فقد بدأنا نعثر منذ سنوات على منعكساتها الإبداعية في تجارب متباعدة وخاصة الشابة منها، والمشتتة بين الداخل والمغترب، ابتداء من أمل سعادة وسام حرفوش في باريس، وانتهاء بديمة حجار والتجربة الأخيرة لفاطمة الحاج في لبنان، لقد تمّ تحول فاطمة بهدوء متجنبة في عروضها أن تصدم من يعشقون فراديسها الغنّاء المستلهمة من بلدتها الرميلة في الشوف، وظهرت بالتدريج في لوحاتها جماهير المهجّرين في الجنوب، متخلية عن مساحة النسيان، مستسلمة الى فضائح الذاكرة. لقد رأينا ذلك من قبل في تجربة سمير خداج التعبيرية الحادة، إذ حملته ملاجئ القصف الى اعتماد المواد والملصقات السادية المتهافتة. ومهما يكن من أمر فإن تجربة حداد تمثل نموذجاً للفلسفة الجديدة في اللوحة اللبنانية في ما بعد الحرب، اللوحة التي لا تخجل من صدوع الذاكرة وخدوش الطفولة. وهذا ما يفسّر هجرتها عن رقابة العقل إلى مواطن الحدس والحلم.