ماتت جدتي. مررتُ أمام حجرتها في ذلك المساء فأحسست سكوناً غريباً. كانت أنفاسها توقفت، خمد تماماً الهواء الذي كان يتحرك داخل تلك الحجرة. وتوجس الهواء المقبل من الممر من أن يطأها. جاوزتُ عتبة غرفتي التي اصبحت منذ تلك اللحظة معلقة في الفراغ. كان السكون يخنقني، يلف وشاحاً جنائزياً من الوحدة حول عنقي. تسمرتُ خلف العتبة. لم يكن للموت رائحة، ولا أية إمارات مدهشة ، ولم يختلف شكل جدتي وهي مستلقية هناك، فقط تحولت الحجرة بكاملها الى مشهد أم لا يربطه بالبيت إلا خيوط واهية. تسمرتُ واستمررتُ على الارضية تتهاوى من تحت قدمي فأروح معها الى حيث تكون، حاولت أن أتشبث ببقاياها في الذاكرة عساني اتسلقها فأمسك بروحها، لكن خيالي عجز تماماً عن التذكر، تجمد الدم في جسدي ولم أعد أدرك ما اذا كنت أتنفس. قبضت عليّ رغبة في الهروب والتخلص من جلدي، وفي خطوة واحدة كنت خارج الغرفة، ومن جديد لاح جسدها المسجى على الفراش العملاق. كان إطار الباب، ينسج شبكة بلاستيكية تحول دون انتهاك قدسية المكان. شدّت ذراعيّ إلى الخلف بحبال عاتية اسمها الخوف. تسمرتُ من جديد، وفي لحظة ما بين خيوط الذاكرة الواهية والرغبة في الارتماء في حضن الموت الجديد، وجدتُ نفسي الى جانب فراشها. دخلتُ في المشهد الأصم حيث لا سبيل لأية حواس. وكانت جدتي هناك، مستلقية في وداعة مثلما كان الحال طوال العامين السابقين. وكان كل شيء على عهده غير ان شيئاً ما قد نزع منه، وهذا الشيء هو الذي كان يعطي الحجرة وجوداً واقعياً. شدت ذراعيّ مرة اخرى حتى خُلعتا تماماً من جسدي فانهرت على صفحة الموت الرائقة التي انطبعت عليها ملامحها ورسمت قبلة على شفتيها. توقف قلبي عن النبض وأنا أغوص في صدرها وألف رأسي تحت إبطها. لم تتململ جدتي ولم تتخل عن وداعتها، بل احتوتني حجرتها المقذوفة الى خارج الكون وجعلتني عنصراً متحركاً حركة لا تكاد تُرى في ذلك التكوين الأصم. لم أبك وأنا أغادر فراشها العتيق الذي كان صمته العملاق يتسع لإخماد ضوضاء العالم بأسره، لكني عندما خرجت الى الشارع طالعتني كائنات وهي تتسلل في جماعات متكاتفة وتنفذ من داخلي فتغطي وجهي بصفحات مالحة يعكرها الألم. رتبتها على وجهي بأطراف أصابعي في محاولة لاكتساب ملامحها، في محاولة لتقمص وداعتها وتصفية كائناتها من أي شر. ابتعدتُ عن البيت، وظلت روحي معلقة بتلك الغرفة المعلقة بدورها بحياة العائلة من خلال ذكريات متناثرة هنا وهناك تظهر وتتلاشى وفقاً لأفعال الذاكرة الخؤون. لم اندم قط لأن علاقتي بالعائلة لم تقو او تنتظم. فقد منحتُ نفسي لفراش جدتي - الأم الأخير في العائلة - وقررتُ أن أدع خيالي يتمرغ في رحابته آملة أن اجد مكاناً يقبلني ويدعني أنتمي اليه. تبدى لقائي الأول بالموت غاية في الروعة. فقد عرفت للمرة الاولى كيف تكون سكينة النفس، وأنا أعانق جدتي. وكففت سريعاً عن التبرم من الوحدة التي هيئ لي انني سوف اختنق بها في ما بعد، فوشاحها الأسود لم يكن سوى نسيج قوي وضروري يقلني الى فضاء البياض والمحبة الذي يسمونه الموت. بموتها راحت احقاد كثيرة صغيرة كانت تقف بيني وبينها وتحول دون إدراكي التشابه الحتمي بيننا. وعندما ملت على بشرتها الباردة هذه المرة لم اكن أشعر بالنفور المعتاد من ملامستها، قبلتُ جدتي الميتة بكل الحنين الذي يجوز به ان نستأنف علاقة أمومية بُترت منذ أمد بعيد، ورحت أغمض عيني كي أتمكن فعلياً من رسم ملامحنا الجدية على خلفية لا يضاهي بياضها إلا فراش ذلك اليوم. *** أفسحت أمي طريق الممر لي وهي تقول لي إن الأمر انتهى. كانت تبدو وكأنها بصدد عملية إدارية كبرى. بالطبع كانت مضطربة بعض الشيء لكنها لم تبد أية حاجة إلى المساعدة، كانت عيناها زائغتين أما ملامحها فلم ينتبها أي تغيير. أخذتُ طريق الممر المُشار إليّ به، ولم يحدث أكثر من ذلك. وضعتُ نفسي في أول تاكسي متجهة الى بيت صديقتي. لم أكن أدري إن كان معي نقود، ولم أكن على ثقة مما أرتديه. قطعت السيارة المسافة بسرعة تخطف الروح وتزعج حبات الماء الجنينية التي تعلقت بزجاج النافذة المجاور. لم ينطق السائق بكلمة. ولم تكن بي قدرة على الكلام. فتحت الصديقة الباب وتساءلت، فرحت اضحك. ضحكت بدورها وتساءلت مرة ثانية. تلعثمت كثيراً بين الضحك ومحاولة الاجابة، اختنقت رئتاي وأنا أفتش عن سبيل لتجميع الحروف، وفي ضحكة هائلة قادرة على ابتلاع كل شيء خرجت حروف التاء والياء والثاء والهاء متعثرة، كررتها على أمل توضيح أكثر فأخفقت من جديد، وبينما ظهرت الأم في خلفية الصورة قلقة ومتسائلة بدورها نطقتُ بأنها ماتت. رددتها الصديقة مرتين، مرة للتأكد ومرة للاندهاش، ثم جذبتني الى صدرها، وأطبقت عليّ بقوة. قضيت حوالى أسبوع عند صديقتي، وقبل أن ينقضي نصفه اتصلت أمي بأمها وأبلغتها بأن اجراءات الدفن تمت في القرية وانهم قد عادوا من هناك لتوهم. فضلتُ المكوث هناك بضعة أيام أخرى، كنت قلقة وحائرة بشأن الوضع الجديد ولم تكن لدي أية فكرة عما ستكون عليه علاقتي بالبيت وسكانه في ما بعد. وبما أن لأي تأجيل نهاية فقد حانت عودتي قبل أن أربك نظام الاسرة المضيفة أكثر من ذلك.