كررت الصحف الاسرائيلية أمس وأول من أمس، كلمة اساسية في وصف الانسحاب من لبنان هي "اذلال". ولم تكن الصحافة الأجنبية أقل صراحة، فصحيفة "تايمز" اللندنية وصفت جيش اسرائيل الذي لا يقهر بأنه "مقهور". وتحدثت صحف أخرى عن انهيار الجبهة، وفرار القوات الاسرائيلية، وعملائها. وفي حين ان الصحف الأميركية تدافع عن اسرائيل كما لا تفعل الصحف الاسرائيلية نفسها، فقد عدت اليها ووجدت ان الكلمة المشتركة بين الصحف الأميركية الكبرى الثلاث "نيويورك تايمز" و"لوس انجليس تايمز" و"واشنطن بوست" هي "انهيار". وزادت "نيويورك تايمز" الى الانهيار انه حدث "فجأة"، وعادت في اليوم التالي لتقول إن حزب الله "أفسد" خطط اسرائيل للقيام بانسحاب منظم. وبدا كما لو أن مراسلاً واحداً كتب الخبر في هذه الجريدة و"واشنطن بوست" لأن "أفسد" ظهرت ايضاً في خبر الجريدة الثانية. أما "كريستيان ساينس مونيتور" فبدأت خبرها بكلمة "فوضى"، وهي الكلمة التي اختارتها "يو اس اي توداي"، مع زيادة كلمة "رعب". وقالت "واشنطن تايمز" ببساطة ان الاسرائيليين "فروا" من جنوبلبنان. وهكذا، فبعد 24 سنة على سعد حداد، و22 سنة على عملية الليطاني، و18 سنة على عملية "السلام في الجليل"، وخمس سنوات على "ثمار الغضب"، انتهى الاحتلال الاسرائيلي بانهيار الجبهة، وانتشار الرعب بين جنود الاحتلال وعملائهم، فدبت الفوضى وفرّ الغزاة. رئيس الوزراء ايهود باراك جمع بين الوقاحة والمذلة في زعمه ان اسرائيل انسحبت تنفيذاً للقرار 425، وهو بذلك كان يقول إن اسرائيل لم تر القرار الذي صدر في 19 آذار مارس 1978، إلا أمس. وعلى الأقل فباراك وعد بالانسحاب وحافظ على وعده، مع ان الأرجح انه في النهاية تورط بالالتزام هذا، فهو جعل الانسحاب من شعارات حملته الانتخابية، وعندما فاز قال إنه سينفذ ما وعد "لأنني احافظ على كلمتي"، على حد قوله، ثم جعل حكومته كلها توافق على الانسحاب. غير أن خلفية هذا الموقف من البداية، كانت افتراضه ان اسرائيل ستنسحب باتفاق مع سورية ولبنان، وهذا لم يحدث، فكان ان انسحبت القوات الاسرائيلية وسط مظاهر الفوضى والهزيمة، كما انسحب الاميركيون بطائرات الهليكوبتر من على ظهر سفارتهم في سايغون قبل ربع قرن. وأغرب ما في موضوع الانسحاب الاسرائيلي وفرار العملاء ان الحكومة الاسرائيلية بقيت حتى آخر لحظة تأمل بانسحاب "منظم" و"مشرف" في آن. ولا سبب منطقياً لتوقع ذلك، فلبنان لم يجنِ من اسرائيل سوى الدمار والموت والألم، والمقاومة آخر من يريد ان يساعد اسرائيل. ماذا يخبئ المستقبل؟ العرب اساطين في تحويل النصر الى هزيمة، والنصر في جنوبلبنان لن يكتمل الا اذا ساد السلام المنطقة، من دون عمليات عبر الحدود لأي سبب. فقد دفع اهل الجنوب ثمناً غالياً للاحتلال على مدى ثلاثة عقود أو أكثر، ويحق لهم اليوم أن يجنوا ثمار السلام. فإذا كان غيرهم يصر على النضال فهو يستطيع ان يفعل من حيث يريد، خارج جنوبلبنان. اليوم خرجت اسرائيل مهزومة، والحيوان اخطر ما يكون عندما يجرح، لذلك فهي تفتش عن عذر للانتقام، وصاروخ كاتيوشا على مستعمرة اسرائيلية في شمال فلسطين هو عذر كاف لتدمير ما بقي من البنية التحتية للبنان، وربما ضرب أهداف عسكرية لبنانية وسورية في لبنان. وفي حين هدد باراك سورية بشكل غير مباشر، فإن رئيس الأركان شاؤول موفاز هدد صراحة بضرب القوات السورية، اذا تعرض مدنيون اسرائيليون لهجمات من المقاومة. اليوم، يلوم الاسرائيليون سورية على اذلالهم، ويلومون ايرانولبنان والعرب كلهم. بل انهم يلومون الأممالمتحدة، ويقولون انها خذلتهم، فلم توفر لهم الغطاء المناسب للانسحاب "الكريم" الذي حاولوه. والواجب الا يعطوا عذراً للرد، فقد تعلموا درساً قاسياً، أفضل تعبير عنه كان صورة لجندي اسرائيلي امتلأ وجهة بابتسامة عريضة وهو يقول "ماما، لقد خرجنا من لبنان". ونقول بالعامية "روحة بلا رجعة يا رب".