قبل خمسة عشر عاماً، ذات يوم من ربيع 1976، اندلعت واحدة من أعنف الحروب التي عرفها الشرق الأدنى وأكثرها شناعة وسفك دماء. فجأة، اشتعل لبنان ليظل طوال خمسة عشر عاماً مسرحاً لحرب متغيرة الاتجاهات يسر تعذر تفسيرها اليوم أكثر من واحد من الفرقاء المتورطين فيها. وهذا ينطبق بوجه الخصوص على "أمراء الحرب" الذين كانوا عديدين بدرجة تدعو الى الدهشة! مع الذكرى الخامسة والعشرين لاندلاع هذه الحرب، وهي ذكرى تحمل دلالة رمزية لا تقل أهمية عن دلالة الحرب ذاتها، كان من الطبيعي أن نبحث عن ردود فعل هنا وهناك. لكن مسعانا تكلل بالخيبة، مع استثناءات أقل من قليلة كانت ضئيلة المغزى. على أي حال، اكتفت، مثلاً، احدى الصحف اليومية اللبنانية التي ولدت مع الحرب وترعرعت في ظلها وكانت مدينة لها حتى بوجودها، بسؤال نخبة من المثقفين اللبنانيين: "كيف أمضيتم اليوم الأول من الحرب؟". ويا له من سؤال! أكيد ان كل واحد منهم كان في ذلك اليوم منشغلاً بشؤونه المعتادة، وهو بالتالي عاجز عن تقديم أكثر من انطباع مشوَّش موسوم بعنصر المباغتة. اللهم إلا ذا كان عرّافاً! أليس من حقنا أن نتوقع، عوضاً عن هذه الذكريات السطحية، قراءة تحليلات وتقييمات معمقة؟! لا شك في أن كرم الأخلاق يفرض علينا أن نكون متسامحين مع نخبة مثقفة عانت الكثير من الحرب. لكننا نبقى مندهشين من صمت المثقفين العرب الآخرين الذين طالما مجّد العديد منهم عاصمة لبنان وتغنوا بمزاياها، مثلما نعموا غالباً بمواسم سخائها. هذا الصمت العتيد شبه المطبق ذاته سبق له أن تجلى حين توقيع "اتفاق أوسلو" بين الفلسطينيين والاسرائيليين. انه صمت "حرس المعبد" الذين يعرفون أن بعض الكلام يضر بمصالحهم... في شمالي المتوسط قبل، وبالأخص بعد، سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، لم تتوقف يوماً مساءلة الماضي ومحاولة تحديد مسؤولية الأفراد. ففي فرنسا مثلاً، وعلى الرغم من انقضاء أكثر من خمسين عاماً على اندلاع حرب الجزائر، يتواصل التحقيق حول مواقف النُخب والمواطنين، قناعةً راسخة من فرنسا بأن النسيان يتهدد روح المواطنية ويضر بتماسك الأمة ووحدتها. هكذا نرى أن "صدمة" الجزائر المدفونة في أعماق الذاكرة الفرنسية تخرج الى النور يوماً بعد يوم، فارضة على الفرنسيين أن يمتحنوا ضميرهم، باعتبار مثل هذا الامتحان الوسيلة الوحيدة للشفاء. وهو شفاء سيكون مفيداً في المدى الطويل، لأنه يتم عبر نقاش عام موضوعه ومادته محددان بمطلق الوضوح. ثمة موقفان اعتاد البشر المفارقة بينهما: موقف يمكن تسميته "الذاكرة الانتقامية" وآخر يمثل نوعاً من "النسيان المعتدل" المتسم بشيء من السخاء. وحده هذا الأخير ينفتح على المستقبل ويمهد لوضع حد ل"حرب الأشقاء". لكن لهذا الموقف عيبا يتمثل بتجاهل حقيقة كون النسيان نوعاً من الكبت الذي يولِّد، على قول فرويد، "صدمات" مؤذية في أغلب الأحوال ولا شفاء منها إلا بإظهارها. وهذا مما يفرض علينا المطالبة بحرية التعبير وبحوار حقيقي لا يترك شيئاً في الظل. أي انه يستدعي، بصريح العبارة، إعادة النظر بايديولوجيات محمية بقداسة مفروضة لم تفلح في خداع أحد. لعل الوقت قد حان لمطالبة المثقفين في ضفة المتوسط الثانية بأن يتكلموا لغة الحقيقة. * افتتاحية العدد الجديد من مجلة "قنطرة" الصادرة عن "معهد العالم العربي" - باريس.