روائي ومثقف معروف ينتمي الى النخبة الادبية التي صنع نتاجها المشهد الروائي منذ السبعينات. ولد سنة 1952 وكتب القصة القصيرة فأصدر منذ العام 1976 ثلاث مجموعات قصصية، وست روايات، وثلاث مجموعات قصصية للأطفال، وله عدد من الدراسات الأدبية، وقد ترجمت بعض قصصه ورواياته إلى الفرنسية والألمانية والصينية والروسية والإنكليزية والإيطالية. وخلاص يعمل في الصحافة والنشر منذ مطلع السبعينات. جلالي خلاص هو ثاني المثقفين الذين التقيتهم ممن أطلق عليهم الرصاص ونجوا من الموت. أول لقاء لي به كان في ضاحية الأبيار وهي إلى جانب منطقة حيدرة وتعتبر من أرقى أحياء الجزائر العاصمة. في لقائي الثاني به أعطاني بعض كتبه، وبينها روايتان، الأولى عنوانها "رائحة الكلب"، أما الثانية، وكانت قد خرجت للتو من المطبعة، فعنوانها "زهور الأزمنة المتوحشة". وفي هذا اللقاء استهل خلاص حديثي معه بكلام عن حياته، فهو كاتب عصامي، وأب لأربعة أطفال، ولا يرى إلا بعين واحدة، ففي سن الثامنة صفعه جندي فرنسي صفعة قوية أطارت له عينه. ويروي لي خلاص تلك الحادثة على النحو التالي: "جاء إلى القرية ثوار جزائريون، ربما ليتزودوا بالماء والخبز. وبعد ذهابهم وصل الفرنسيون، وفتشوا القرية، ولما لم يجدوا أحداً، وكنت آنذاك أرعى الغنم، ووجدوني في طريقهم راجعاً بغنماتي، وكانوا غاضبين. ولما كانت الغنمات قد سدت الطريق فقد نزل أحدهم وضربني كفاً ففقأ بكفه عيني، وترك لي واحدة سليمة، لأرى بها.". حادثة مؤلمة، قلت. فأجاب: المؤلم أكثر هو أن تتلقى الرصاص من مسدس جزائري! هناك شكوى جزائرية تسود أوساط المثقفين مفادها ان الجزائريين متروكون عربياً، في "مجهول" وضعهم. هناك، حقيقة، غموض، خصوصاً في المشرق حول الوضع هنا. وبالتالي فإن المعرفة بكم يسيرة إلى درجة الإنكار. لماذا يستمر مثل هذا الوضع بين الجزائر والمشرق العربي" وهل تحمل المشرق العربي ومثقفيه السبب كله، في ذلك؟ - هناك في العالم العربي تمزق وانقسام. هذا كان محسوساً من قبل، لكنه لم يكن مفضوحاً كما هو اليوم. إثر حرب الخليج انكسر كل شيء وظهرت الفضائح العميقة للتمزق العربي، وانكشفت السلطة في العالم العربي، وكل بلد على حدة، بطبيعة الحال، الشعوب العربية اكتشفت ذلك للمرة الأولى بصورة بالغة الوضوح. هذا التمزق نتج عنه تشدد السلطة في كل بلد عربي، وتشدد السلطة نتج عنه تقوقع كل بلد على نفسه، بسبب ان كل سلطة شددت الرقابة على شعبها لينزوي وينضبط في وضعه الداخلي. العدوى الجزائرية ما هي رؤيتك الخاصة إلى استمرار تعطل العلاقة بين الجزائر والمشرق العربي على المستوى الثقافي، على الأقل، قبل الأزمة؟ - الحقيقة ان تعطل العلاقات الثقافية بين المشرق والمغرب عموماً هو ظاهرة قديمة جداً، وفيها جوانب عدة وطروحات، لكن لنتكلم عن الجزائر والمشرق في وقت الأزمة. الجزائر دخلت عملياً في أزمة عميقة جداً، ومتشابكة حتى العرب لم يفهموها في البداية. وهذه الأزمة جعلت السلطات العربية مشرقاً ومغرباً تتجنب الجزائر وتخافها. والخوف كان من انتقال هذه الأزمة السياسية والاجتماعية الى بلدانها عن طريق العدوى، بما كان يمكن ان يهزّ تلك السلطات ويهددها، لا سيما بلدان المغرب الأقصى وتونس فقد حرست هذه البلدان حدودها بشكل عجيب وتقوقعت داخل شرنقتها. على المستوى الثقافي لا بد من القول ان ما حدث كان مشابهاً. وأنا أقول بصراحة، من موقعي كمثقف، وكذلك من منطلق عملي في النشر، وقد زرت تقريباً كل العالم العربي، وبعض العالم الغربي، وصولاً إلى الصين في الشرق الأقصى، إن العلاقات الثقافية هي علاقات سياسية، في الدرجة الأولى، فالسلطة هي التي تحدد العلاقات في الثقافة. ثم بعد ذلك تأتي أزمة المثقف نفسه. وأقول لك بصراحة ان المثقف العربي في نسبة 90 في المئة هو مثقف تابع للسلطة. ولا يوجد إلاّ نسبة قليلة من المثقفين الذين يستطيعون ان يكونوا مستقلين أو انهم يرفعون أصواتهم قليلاً، ليعبروا عن ارائهم حول مشكل ما. وبما ان السلطات تقوقعت، واصبحت تنظر إلى الأزمة الجزائرية بشكل يخيفها، فإن المثقفين العرب اتبعوا هذه السلطات، والعاملون في الثقافة منهم، كناشرين وموزعي كتب وأفلام وغيرهم أخذوا موقفاً، قد يبدو محايداً، لكنه في الحقيقة، وفي العمق يخاف من الأزمة الجزائرية. يخاف أن ينبش فيها شيئاً قد ينقلب عليه. وبالتالي وقع الحصار العربي على الجزائر، وتقوقعت على نفسها، ولم تجد صوتاً يدعمها في الوطن العربي. وماذا عن مواقف المثقفين العرب؟ - لا توجد مواقف .. وكنت الآن سأقول لك أنه شيء عجيب جداً أنني لم أسمع، مثلاً، صوت جماعة مثقفة عربية تعيش في الوطن العربي، ولا اتحدث عن الخارج، أعني العرب في أوروبا وتصدر تصريحاً، أو بياناً، حول الأزمة الجزائرية. مثقفو سلطة أنتم تحسون، إذن، أنكم متروكون؟ - نعم، نحن متروكون، لقد نسينا العالم العربي، والبيان الوحيد الذي صدر ليتضامن مع الجزائر صدر من باريس مع نهاية العام 1997، وليس من العالم العربي. وبالتالي، عبر جهة مثقفة في فرنسا حركت بعض المثقفين العرب، فأصدروا تصريحات في الصحافة الفرنسية، وليس في الصحافة العربية. لكن إلام ترد هذا التخلي من جانب المثقفين العرب عن الجزائر، وهذا الابتعاد عن الأزمة، والاحجام عن اتخاذ موقف منها؟ - المثقف العربي لا يبدي رأياً لا في أزمته، ولا في أزمة الجزائر. إنه لا يجرؤ. وأنا اقول لك ان 90 في المئة من المثقفين العرب إن لم يكن 99 في المئة هم مثقفو سلطة، وإذا لم يكن مثقفاً داخل السلطة، فعلى الأقل عنده صحيفة، أو جريدة، أو موقع سلطوي يجعله يمارس الضغط على زملائه المثقفين، فيقهرهم. شيء رهيب هل تعتبر المثقف الجزائري جزءاً من الصورة التي تصفها، ام ان هذا يبدو معنياً أكثر بالأزمة التي تعيشها بلاده؟ - وضع المثقف الجزائري يختلف عن وضع المثقف العربي. ألأنّه متورط بالأزمة ومعني بها بالمعنى اليومي؟ - من جهة أخرى، فإن ما يدل على مواقف المثقفين في الجزائر هو الموت. لقد قتل أكثر من مائة صحافي ومثقف جزائري، هذا عدا عن آخرين لا نعرفهم، وربما كانوا مثقفين ما زالوا لم يكرسوا. فلم يتكلم عنهم الإعلام. هناك كتاب كبار اغتيلوا من أمثال الطاهر جاووت، والهادي الفليسي، إلخ.. وهناك من تعرض للاغتيال وتم الاعتداء على حياته، لكنه نجا، من أمثال مرزاق بقطاش والذي اخترقت الرصاصة وجهه وخرجت من قفا رأسه. اغتيال المثقفين دليل على وجود موقف للثقافة. وموت مائة شخصية ثقافية شيء رهيب، وهو حسب معلوماتي لم يقع في اي بلد في العالم. في نظرك، إلام هدفت هذه الحملة المنظمة من الاعتداءات على ارواح المثقفين في الجزائر؟ - ان تقتل مثقفاً فهذا معناه انك تسكت صوت حق. فولتير يقول: قد اختلف معك في الرأي تمام الاختلاف، لكنني مستعد ان ادافع عن رأيك حتى الموت. المثقف، او حتى الشخص لذي له صوت كالصحافي الذي كتب فأبدى رأيه، ثم اغتيل، ان يحدث هذا فهو دليل على ان هناك من يريد اسكات صوت الحق. صوت الرأي، وصوت الاختلاف. وفي اي حرب، أكان صاحب القلم عدواً لك، أم صديقاً، فإن موت هذا الشخص يعني ان صوت الحق قد قتل. لأن الحق لا يحسم إلا بعد نهاية الحرب. فتح الملفات كيف تصنف مواقف المثقفين الجزائريين من الأزمة في بلادهم؟ - التصنيف الغالب على المثقفين الجزائريين اليوم، هو ان ما بين 60 او 70 في المئة منهم هم من المستقلين الذين يقفون موقفاً اساسياً يقول في ان الأزمة يجب ان تحسم وتنتهي. الشيء الثاني ان الجماعات المسلحة تجاوزت الحدود كلها، وذهبت أبعد مما كان يتصوره العقل في اي ميدان. هذا الشيء يجعل الجماعات المسلحة تفقد كل مصداقية لها عند المثقفين، وهي في الحقيقة، أيضاً، فقدت المصداقية بالنسبة إلى الشعب الجزائري. الشيء الثالث ان هناك نقداً لاذعاً، أيضاً، للسلطة. فلا بد للسلطة ان توضح موقفها، وان تحاسب نفسها، مثلاً، ظهرت اخيراً قضية تطرحها كل الصحف الجزائرية، وهي قضية التجاوزات، وضرورة معالجتها، وان توضح السلطة وضع المخطوفين المختفين، وكيف اختفوا؟ هل تظن انه ما يزال باكراً الحديث عن اثر للحالة الدموية في الادب المكتوب اليوم في الجزائر؟ أطرح السؤال، وفي خاطري بعض العلامات والأسماء المتعلقة بنصوص أدبية كتبت من روايات وقصائد وقصص قصيرة فيها تناول للأزمة. في رأيك هل يمكن اعتبار هذا الأدب فناً، ام انه أقرب إلى الانفعال الأدبي في تعامله مع موضوع الموت والقلق؟ - دعني أقول لك ان أغلب ما ينشر الآن في هذه الفترة هو أدب انفعالي، وأنا سميته أدب مناسباتي. هل ينسحب هذا الحكم على الكتابات الصادرة باللغتين: العربية والفرنسية؟ - نعم، حكم ينطبق على الأدب المكتوب في كلتا اللغتين، ونادرة هي الأعمال التي بلغت درجة من الموضوعية، وحققت مستوى أدبياً يقترب من الجمال الحقيقي. أما غالبية ما يكتب فهو أدب الشهادة، وعندما تكتب الشهادة أنا أفضل ان تكتب بطريقة صحفية، أفضل اليوميات لتكون شاهدة على فترة من الزمن، والأحداث. أما ان تكتب رواية وانت تعيش في الحرب، فهذا صعب جداً. العمل الأدبي الكبير لا يمكن ان يكتب قبل نهاية هذه الحرب او، على الأقل، فهو يكتب عندما تكون الحرب قد شارفت على نهايتها. أظن ان الأعمال الأدبية الكبرى ستظهر في عام الفين، أو حتى بعد ذلك، في الألفية الثالثة إذ ذاك يمكن ان تظهر أعمال أدبية حول الجزائر اكثر نضجاً، وفنية، وقوة. الخوف من التورط هل يمكن في المدى الراهن تسمية بعض الأعمال الأدبية التي بلغت مستوى معقولاً، أو جيداً؟ - لا بد من الاعتراف ان أكبر عدد من الروايات كتب في هذه الفترة وضع في اللغة الفرنسية. الأدب الجزائري الذي ينشر في باريس خصوصاً، هو الذي يعالج الأزمة الجزائرية، وقد نشر هذا الأدب على نطاق واسع، وذلك لأسباب عديدة، منها، أولاً، اننا في الجزائر لدينا أزمة نشر خانقة، والناشر الجزائري لا ينشر الأدب، لأن الأدب في نظره سلعة غير رائجة، وغير تجارية. هذا من جهة، من جهة أخرى فإن الناشرين العرب يرفضون نشر الأدب الجزائري المكتوب بالعربية، فهم يحجمون عن التورط في الأزمة الجزائرية. طبعاً انا لا استطيع ان أذكر الناشرين، لكن صديقي الكاتب واسيني الأعرج سبق له ان قدم روايته إلى دار نشر لبنانية معروفة فرفضت الدار نشرها. وكان جواب صاحب الدار، وهو شخصية معروفة، انه لن ينشر العمل أولاً خوفاً على واسيني، وثانياً خوفاً على نفسه من الأذى، كما قال. انا، أيضاً، قدمت رواياتي للنشر في المشرق، ورفضت. الناشرون يرفضون هذه الأعمال لكونهم يعتبرونها جريئة، والموقف الذي تحمله الرواية يخيفهم. وفي تجربتي فإن الناشر العربي في لبنان وفي بلد عربي آخراً يخاف على نفسه، ان يُغتال ويموت. هذه هي القضية. هل يعني كلامك ان الكتاب الجزائريين بذلوا جهداً للوصول إلى الناشر العربي، لكن جهودهم "عموماً" باءت بالفشل؟ - نعم، باءت بالفشل. وانا مطلع على محاولات لبعض الكتاب هنا للنشر في المشرق. وإذا رجعنا إلى الأدب الذي كتب عن الأزمة بالعربية، فهو موجود. فقد صدر لواسيني الأعرج، مثلاً، روايات تعالج الأزمة الحالية في الجزائر، نشر إحداها عن طريق "دار الجمل" في ألمانيا، كذلك نشر مرزاق بقطاش رواية بالعربية تحت عنوان "جزائرنا" وأخرى في الفرنسية. وأخيراً نشر بشير مفتي روايته بالعربية "المراسيم والجنائز"، فضلاً عن ذلك ظهرت بعض المجموعات القصصية، وهذه كلها اعمال تتناول الأزمة في الجزائر. التجارة بالموت هل توافق على ان هناك تشجيعاً للكتابة بالفرنسية على حساب الكتابة بالعربية في الجزائر تقوم به جهات فرنسية، أو حتى جهات متنفذة داخل الدولة؟ - لا، في الجزائر ليس هناك اي تشجيع على الكتابة الأدبية، لا بالفرنسية ولا بالعربية. والناشر الجزائري يرفض نشر الأدب حتى لو كان بالفرنسية، لأنه لا يباع كما يعتقد، وكما يصرح هذا الناشر. أما بالنسبة إلى فرنسا، والأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، فإن التشجيع هناك جزء من المسألة الثقافية الفرنسية. ولماذا التشجيع الآن؟ دعني أقول لك ان دور النشر الفرنسية شجعت حتى الأدب الرديء جداً. المهم بالنسبة إليها انه يتعلق بالجزائر. ودعني أقول لك بصراحة ان 80 في المئة من الأدب الجزائري المنشور بالفرنسية، في فرنسا، هو أدب رديء جداً. 20 في المئة فقط يمكن ان ترتفع إلى مستوى الأدب. والسؤال هو: لماذ تنشر اعمال ردئية؟ لأنها تجارية، وعلى غلافها كلمة الجزائر. إلى درجة ان هذه الكلمة، في ذاتها، باتت تجارة. صحيح انها متاجرة بالموت، لكنها في النهاية تجارة رابحة. فأي شيء عن الجزائر، في كتاب او مانشيت في جريدة، او ما شئت من سلطة ثقافية له صلة بالجزائر فهو مطلوب. فرنسا المجنونة بالجزائر هل تظن ان الفرنسيين يتشاكلون مع الموضوع الجزائري بطريقة بالغة الحساسية لكون الجزائر ما تزال تشكل جرحاً نرجسياً بالنسبة إليهم؟ - نعم، الجزائر ما تزال تشكل هذا الجرح النرجسي، لان الذاكرة الفرنسية ما تزال متعلقة بالجزائر، وانا لدي تفسير خاص لعلاقة الجزائربفرنسا. هي ليست علاقة سياسية، هي علاقة عشق وغرام. عشق جنوني، هذا العشق الجنوني يشبه حب رجل لأمرأة لا تحبه، بل وتقاطعه، لكن تخيل ان تفلت هذه المرأة، نهائياً، من يده، ماذا يحدث له؟ الجنون بالتأكيد. وفرنسا مجنونة بالجزائر. فرنسا مجنونة تاريخياً وسياسياً بالجزائر. تنبأت بأحداث 1988 لو جئنا الآن إلى فحوى الكتابة الادبية في الجزائر. ترى هل استطاعت هذه الكتابة ان تلتقط شيئاً من المتحول في الحياة والوقائع الجزائرية؟ هل استطاعت، مثلاً، ان تستشف الأزمة التي وقعت في المجتمع، ورزحت تحت وطأتها البلاد؟ - بوادر الأزمة الدموية في الجزائر يمكنك ان تجدها في الرواية الجزائرية. في روايات مَنْ مِنْ الكتاب مثلاً؟ - انت لو قرأت روايات مرزاق بقطاش، وحبيب السايح، وأمين الزاوي، وعلاوي وهبي، والطاهر وطار، وعبدالحميد بن هدوقة، ومعذرة إن لم أذكر اسماء أخرى لا تحضرني، فإن هذه الروايات تجد فيها شيئاً غريباً، على الأقل، ثمة ما ينبئك بأن شيئاً فظيعاً سيقع. وان الوضع الذي ساد في الثمانينات لا يمكن ان يستمر على حاله. فالكتابات الروائية التي كتبت بالفرنسية والعربية خلال الثمانينات كانت تهاجم الحزب الواحد، وتطالب، بشكل من الأشكال، بأن ينتهي تسلط هذا الحزب. وهناك في هذه الروايات نقد عنيف جداً لسلطة الحزب الواحد في الجزائر خلال فترة الثمانينات. هناك، أيضاً، قبل أزمة اكتوبر، اي قبل عشر سنوات من الآن، وقعت أزمات وأحداث في الجزائر كانت بمثابة مقدمات للإنفجار. روايتي "رائحة الكلب" تعالج احداثاً وقعت في فترة 1985 والغريب، أن تلك الرواية تنتهي بمظاهرة في الشارع، فنجد الحي القديم في العاصمة الجزائر وقد انتفض وقام بأحداث واضطرابات، ومن غريب الصدف، وكانت الرواية تنشر في حلقات في جريدة "الشعب"، أن صدرت الحلقة الأخيرة من الرواية في 16 نيسان أبريل. وفي تلك الليلة خرجت مظاهرة في حي "القصبة" الشعبي العريق. وفي الليلة نفسها قام تمرد شعبي كبير، ونهار 16 نيسان كان الناس يرمون الشرطة بالحجارة. لكن التنبؤ في الأدب ليس تنبؤاً لأنبياء. وسأعطيك تفسيراً واقعياً جداً له. فالكاتب عندما يكتب يكون لديه مقدمات، ويرى أحداثاً في الشارع، ويملك قدرة على التحليل، وعلى الحدس، بالتالي، التنبوء. من ثم فإن ما يراه في الشارع سوف ينعكس في ذاكرته وعندما يكتب عن طريق الذاكرة فإنه يرى الأشياء في تطوراتها المستقبلية، في صيرورتها، ومن ثم يصور توقعه الخاص لهذه الصيرورة، وما سبقها من مقدمات، وما يمكن ان تفضي إليه من وقائع. هكذا افسر تنبؤي الشخصي بأحداث الجزائر. الخوف من الاغتيال هناك ظاهرة أخرى تبدو مطروحة بقوة في علاقة الأدباء والمثقفين بالصحافة وهي الكتابة بأسماء مستعارة. ففي هذه الصحف نقرأ يومياً موضوعات موقعة على نحو التالي، "ب ابراهيم"، او "م.س."، او "ح. يونس"، او "حسن ن" الخ.. وقلما نقرأ اسماً كاملاً واضحاً، وعندما يكون الأسم كاملاً غالباً ما يكون مستعاراً؟ - معظم الكتاب الجزائريين يرفضون من تلقاء انفسهم ان ينشروا في الصحف لأنهم لا يريدون لأسمائهم ان تظهر في هذه الصحف. خوفاً من ان توضع أسماؤهم على قائمة الاغتيال. وهناك خلال سنوات الأزمة كتاب كثيرون مشهورون، بالعربية والفرنسية، صمتوا، طوال هذه الفترة واختفوا نهائياً من المشهد، وان كنت لن أذكر الأسماء فلئلا احرج احداً. لقد انسحب هؤلاء نهائياً من الساحة ولم يعودوا يريدون لا ان ينشروا كتاباً ولا مقالاً، ولا أي شيء. وهذه الظاهرة في الحقيقة ليست الصحافة مسؤولة عنها، وإنما الكتاب الغائبون انفسهم. هل يبدو لك الوطن الجزائري في طريقه الى الخروج من عنق الزجاجة، ومن الأزمة الدامية التي تضربه منذ سنوات؟ - دعني أقول لك شيئاً.. أنا، في الحقيقة، طالما كنت شخصاً متفائلاً، على رغم الآلام. وباستثناء شخص واحد ممن أعرفهم هو المخرج التلفزيوني عزيز السماطي الذي أطلق عليه الرصاص وأصبح مشلولاً على كرسي، وكذلك وباستثناء أولئك الذين صرعوا، فليس هناك أحد شقي وتعذب مثلما شقيت وتعذبت خلال سنوات الحرب. ففي العام 1993، تعرضت لمحاولة اغتيال بالرصاص، وأصبت على إثرها بجروح خفيفة، ونجوت من الموت. لكن الذي حدث لي بعد ذلك كان أشد وأقسى وأخطر من الرصاص، إذ لم يصدقني أحد من أهل السلطة، التي رفضت أن تمنحني مسكناً أميناً، كما هو الحال بالنسبة إلى كثيرين ممن جرى تهديدهم بالقتل، فوقع لي انهيار عصبي، وعشت طوال فترة 1993 على شفا الجنون. وهذا "الانهيار" ادى بن إلى كوارث عائلية، فتشرد أبنائي وعانيت معاناة كبيرة، وباستثناء زوجتي لم يساعدني أحد. سأكتب هذا، يوماً، في رواية، ولو أنا رويت لك ما جرى لي لما صدقته. ومع ذلك فقد شفيت مما ألمّ بي بفضل مساعدة أطباء أصدقاء. وقد اكتشفت ان المثقفين الحقيقيين الذي ظلّوا واقفين في الجزائر خلال سنوات الدم هم الأطباء وما عداهم، لا أحد. ومن تجربتي، حتى من كنت اعتبرهم اصدقائي من الوسط الثقافي لم يحرك أحد ساكناً، ولم يأتني أحد. لكنني أغفر للجميع. ومع كل ما أصابني فقد استعدت تفاؤلي بالحياة، والناس، والأشياء. لقد كافحت المرض، وتخلصت منه في سنة 1994. ودعني أقول لك أن المريض عندما يكون في المرض، وقبل نيل الدواء والعلاج يشعر انه في عالم سحري. هكذا كنت اشعر، لكن مع تناول الدواء يدخل المريض في حالة جديدة يشعر فيها بالسوداوية والكآبة ويفضل على ذلك الانتحار. في تلك الفترة انتابتني الرغبة في الانتحار مراراً. والذي يفكر في الانتحار هو شخص فاقد الأمل، لكن تخيل أنني ما أن شفيت حتى وجدت نفسي أمسك القلم وأبدأ في كتابة رواية جديدة، هي، الآن، قيد الطبع تحت عنوان "بحر بلا نوارس" وعندما تقرأها تجد تفاؤلاً عجيباً جداً. والتفاؤل هو في نظري ضرب من المقاومة. صحيح أننا لا نستطيع أن نتنبأ بموعد تنتهي معه أزمة الجرائر، لكن ما أظنه أن هذه الأزمة هي، الآن، في طريقها إلى الانتهاء. هل يعني ذلك ان الفصول الأكثر صعوبة في هذه الأزمة قد عبرت وان ما سيأتي سيكون أقل صعوبة؟ - مرّ الصعب جداً بالنسبة إلى الاغتيالات، والمجازر، والحروب بالسلاح، نعم، لقد مرّ الصعب. بقي هناك شيء صعب، أيضاً. نحن مقبلون عليه، وهو الحرب الاقتصادية، وهذه الحرب مع مئات الآلاف من العمال الذي سرّحوا، والمصانع التي أوقفت، والاستثمار المتوقف سوف تجعل حياتنا اليومية قريبة من جهنم. اعني اننا سنذهب إلى مذبحة الخبز وهذا شيء رهيب.