"إنه ليوم مهيب ومؤثر... لم أكن أتوقعه". هذه العبارة الحمالة الأوجه أطلقها بوريس يلتسن في لحظة تنصيب فلاديمير بوتين خلفاً له على عرش الكرملين. ربما كانت تلك صياغة مسيئة من كتّاب الخطابات الذين لم يعودوا يكترثون كثيراً بما ينبغي ان يقوله الرئيس السابق، أو ان يلتسن نفسه لم يحفظ الدرس وعجز عن متابعة الملقّن الالكتروني لوَهََن في عينه. لكن العبارة أعادت إلى الاذهان الأجواء الغامضة التي أحاطت باستقالة يلتسن المفاجئة في آخر يوم من عام 1999 وتكليف بوتين، رئيس الحكومة آنذاك، القيام بمهام رئيس الدولة لحين اجراء الانتخابات المبكرة في 26 آذار مارس، أي قبل موعدها الدستوري بشهرين فقط. هل كانت تلك خطوة قام بها يلتسن بمحض ارادته أم أنه اكره عليها؟ لم يقدم أحد جواباً عن هذا السؤال، لكن من الواضح ان تعيين "الخليفة" كان ثمرة صراعات عنيفة بين مراكز القوى التي لم تتفق على أي من المرشحين الأوفر حظاً للخلافة فاختارت رجلاً من الصف الثاني لم يكن الكثيرون يذكرون اسمه أصلاً قبل أن تسند إليه رئاسة الوزارة في آب اغسطس. وعقدت ألوية النصر في ذلك الصراع لمجموعة عرفت باسم "العائلة" وضمت مدير الديوان الرئاسي الكسندر فولوشين وابنة يلتسن الصغرى تاتيانا دياتشينكو والبلويونيرين برويس بيريزوفسكي ورومان ابراموفيتش ونظيرهما الأقل شهرة الكسندر ماموت. ولكن لماذا تقرر عزل "عراب العائلة" أو اقناعه بالاستقالة؟ الأرجح ان المجموعة الحاكمة قدرت ان استمرار يلتسن في الحكم حتى صيف 2000 سيؤدي إلى استفحال المشاكل الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تعزيز مواقع خصوم "العائلة" ليس على الجناح اليساري فقط، بل، وهذا هو الأهم، في وسط العقد السياسي وتحديداً في "جوهرته" آنذاك يفغيني بريماكوف رئيس حكومة الاجماع الذي بدا انه سيكتسح كل منافسيه على عرش الكرملين. وفوز بريماكوف كان سيعني ضمن ما يعنيه تنفيذ تهديداته باطلاق سراح ستة ألف سجين عادي "لكي تشغر أماكن لمن سيُحبسون" من المرتشين والمتلاعبين بأموال الدولة. أي ان الرجل حمل قماشة حمراء هيّجت الثور الذي هاجمه بقرني رئيس الدولة وأزاحه عن المنصب، ثم شُنت ضده حملة عاتية اثناء الانتخابات البرلمانية لمنع كتلة "الوطن كل روسيا" التي قادها بريماكوف من الهيمنة على البرلمان. وكانت ازاحة المنافسين خطوة أولى، أعقبها اختيار شخص ترى "العائلة" أنه يمكن الاطمئنان إليه، واعتقدت في حينه ان طموحاته محدودة، ولذا فإن قياده سهل. ونُظمت حملة علاقات عامة واسعة النطاق استثمر خلالها إلى اقصى حد غزو مجموعات شيشانية لأراضي داغستان وما أعقب ذلك من إعلان الحرب القوقازية الثانية. ولم يمارس بوتين عملياً مهام رئيس الوزراء، بل كرس كل جهوده لإدارة "عملية مكافحة الارهاب" التي صارت أساساً جرت فوقه أكبر عملية "صنع رئيس". وارتفعت شعبية بوتين من الصفر تقريباً 2.2 في المئة إلى أكثر من 60 في المئة خلال أشهر. وعلى رغم ان الحاكم الجديد لم يبخل بالقنابل والقذائف على الشيشان البعيدة، فإنه لم يطلق خرطوشة واحدة على المرتشين والفاسدين الموجودين إلى جواره، وهو لو فعل لكان "قطع بيده الغصن الذي يجلس عليه" كما يقول المثل الروسي. وقدم الكرملين برهاناً آخر على أن نفوذ "العائلة" ما برح قوياً بتعيين ممثلها ميخائيل كاسيانوف رئيساً للوزراء، على رغم ان الخبثاء في كواليس السلطة يسمونه "مستر اثنين في المئة"، زاعمين أنه يحصل على نسبة من الصفقات التي يباركها. بيد أن الصراع لم يحسم تماماً لصالح "العائلة"، إذ أن فروعاً أخرى ذات صلة وثيقة بشجرة السلطة أخذت تطالب بحصتها من الكعكة. وثمة مؤشرات على أن بوتين يميل إلى تلبية جزء من رغبات تلك الفروع كي يخفف من ضغط "الاصول". هكذا بدأت ترتسم معالم "مثلت" قاعدته "العائلة" وضلعاه مجموعتان يقود الأولى عراب الخصخصة اناتولي تشوبايس، وتمثل الثانية مصالح كتلة "الفا" المالية الكبرى بقيادة وزير العلاقات الاقتصادية الخارجية السابق بيوتر آفين. ويحاول المحللون وضع ملامح "ايديولوجية" لكل من الكتل الثلاث الأساسية، مشيرين إلى ان الأولى، "العائلية"، تريد مواصلة السياسة المتبعة في عهد يلتسن والتي تقضي بتكامل السلطة والمال وتوسيع قواعدها الاقتصادية بفضل علاقاتها السلطوية. وعلى رغم ان الثانية لا ترفض "استثمار" الحكم، إلا أنها تريد وضع قواعد للعبة شبيهة بالمتبعة في الولاياتالمتحدة مثلاً. وفي هذا السياق تدعو إلى علاقات وثيقة مع الغرب وإلى بيع ما تبقى من ممتلكات الدولة إلى متمولين أجانب. أما الفريق الثالث فقد عبّر آفين عن توجهاته بالدعوة إلى "ديكتاتورية اقتصادية" وحتى سياسية، واعتبر تشيلي في عهد بينوشيه القدوة والمثال. وأياً كانت اليافطات "العقائدية"، فإن الصراع يتمحور حول السلطة والمال، أو بالأحرى حول عتلات الحكم كأدوات للحصول على المال. وبسبب النفوذ السياسي والاقتصادي والاعلامي لهذه الكتل ودورها في "اقناع" يلتسن بتسليم الراية، فإن بوتين ليس قادراً على التخلص منها بسهولة. لذا يبدو ميالاً إلى "معادلتها" بمجموعات أخرى أبرزها كتلة "الأمن" التي تضم عناصر من زملائه السابقين في الأجهزة الخاصة ممن صارت لهم حظوة كبيرة في الكرملين، وهي تعمل بالتعاون مع "فريق سانت بطرسبورغ" الذي تكوّن من ساسة وخبراء عرفهم بوتين حينما درس في جامعة لينينغراد سانت بطرسبورغ حالياً ثم أثناء عمله نائباً لمحافظ المدينة. ولمزيد من التوازن، أقام الرئيس قنوات اتصال سرية مع الشيوعيين الذين خففوا لهجتهم حيال السلطة وصاروا ينتقدون أشخاصاً فيها وليس رأسها، أملاً في تحالف مع بوتين يؤمن لهم عدداً أكبر من الحقائب الوزارية. وطرح سيد الكرملين الجديد فكرة الوفاق الوطني كبديل ونقيض لسياسة المجابهة التي اتبعها يلتسن. وفي هذا الإطار أصبح الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف ضيفاً دائماً في حفلات الكرملين بعد أن كان حُرم من رؤية مكان عمله السابق طيلة عشر سنوات. ولكن ماذا ينوي حاكم روسيا الجديد ان يفعل إذا تسنى له "قطع الغصن" والبقاء فوق الشجرة؟ حتى الآن لم يعلن الرئيس مشاريعه، لكن البرنامج الذي أعدته مجموعة من الخبراء المقربين إليه يوحي بأنه قد يتبع، في المرحلة الأولى على الأقل، سياسة اقتصادية تقتبس الكثير من عناصر "العلاج بالصدمة" وسائر الطروحات الليبرالية الغربية التي بدأت بها الاصلاحات في روسيا، إلا أنه سيطعّمها بأفكار جديدة تخفف من وطأتها على ذوي الدخل المحدود. ويجمع الخبراء على أن بوتين لن يفلح في مضاعفة الناتج الوطني الاجمالي خلال عشر سنوات كما وعد، إلا أن ارتفاع أسعار النفط وفرق صرف العملة وفرّا قاعدة مهمة لنهوض اقتصادي تمكّن، في حال استثمارها، من تجاوز دوامة الأزمات التي استمرت طوال عهد يلتسن. ولتحقيق هذه الأهداف يبدو بوتين عازماً على وقف "التسيّب" واعتماد "ديموقراطية موجهة" تحد من حرية الإعلام وتقلّص استقلالية المحافظات كما تضع خطوطاً حمراء أمام الأحزاب السياسية، المعارض منها والحليف. إلا أن بوتين البراغماتي يدرك حدود المسموح به ولن يلجأ إلى "المناطحة" والانعزال، لكنه سيسعى إلى وقف التراجع أو عرقلته. فاذا ما استقل في قراره، فالأرجح ان يعمل على بناء "ديموقراطية امبراطورية" تكون ليبرالية باعتدال في شقها الاقتصادي، وتكون في جانبها السياسي متشددة ضمن الحدود التي يتيحها الثوب الاقتصادي المهلهل لروسيا المعاصرة.