لا يبالغ بعض الذين يحتجون على غموض الشعر الحديث وعلى صعوبة القصائد الجديدة التي تطالعهم في الكتب أو في الصحف والمجلات. فمن حقهم كقراء أن يفهموا ما يقرأون بل أن يتمتعوا بما يقرأون من شعر وقصائد. لكنّ الاحتجاج الذي عدنا نسمعه في الآونة الأخيرة لا يكفي وحده ليجترح حلاً لهذه المسألة القديمة: غموض الشعر. فالقارئ الذي يحتجّ يُفترض به ألا يسأل الشاعر عن غموضه فقط، بل أن يسأل نفسه لماذا يصف الشعر الذي لا يفهمه ب"الغموض" أو أن يسأل نفسه كيف يقرأ القصيدة "الغامضة"! هذا الاحتجاج الذي قد يحق لبعض القرّاء أن يلجأوا إليه، ليس جديداً ولا طارئاً ولا هو من "قضايا" الشعر الحديث الشائكة. فالشعر القديم واجه ما يماثله حتى في أشد مراحله أصالة ومحافظة. ويكفي أن نتذكّر أبا تمّام في تراثنا العربي وكيف أثار حفيظة المحافظين الذين وجدوا في شعريته غموضاً وإبهاماً ناهيك بالمتنبي وأبي العلاء وسواهما من الشعراء الذين لا يمنحون القارئ "مفاتيح" شعريّتهم بسهولة. أما في الغرب فإن تهمة الغموض لاحقت بعض الشعراء منذ زمن الإغريق حتى الزمن الحديث: كان هوميروس غامضاً في نظر البعض ومشكوكاً به في أحيان وكذلك بندار وأوفيد وفيرجيل وسواهم. وتفاقمت قضية الغموض في القرن التاسع عشر حتى راح يتصدّى لها في فرنسا شاعر في حجم بودلير كان يرى أن الجمال الحقيقي هو ذاك الذي يكتنفه بعض الغموض. ولعلّ احتجاجاً مماثلاً على مسألة الغموض الشعري في المرحلة الراهنة يذكي نار السجال الذي نشب في مرحلة الستينات عندما انبرى شعراء مجلة "شعر" يدافعون عن "الغموض" الذي اتهموا به حينذاك، مميزين بين الغموض الحيّ والغموض المصطنع أي بين الغموض والابهام، بين السرّ والافتعال. والسجال نفسه كان أثاره مثلاً في فرنسا شعراء كبار وفي طليعتهم سان جون بيرس الذي بدا في "خطاب" جائزة نوبل كأنّه يردّ على الذين أخذوا عليه غموض شعره. وخلال الاحتفال في ستوكهولم قال بيرس: "الغموض الذي يؤخذ على الشعر لا يرجع الى طبيعته الخاصة التي تهدف الى أن تضيء. يرجع ذلك الغموض أوّلاً الى الليل العميق الكثيف الذي يتحرّك الشعر فيه باحثاً بل منقباً عن الحقيقة". وفي خلاصة "مديح" بيرس غموض الشعر أن غاية هذا الغموض هي إضاءة "ليل النفس". ولعلّ هذا الغموض المضيء هو نفسه "الضياء الغامض" الذي تحدث عنه شاعر الكلاسيكية الفرنسية بيار كورناي قائلاً عنه إنه "يقع من النجوم". لو عاد بعض الذين يحتجون اليوم على غموض الشعر الى دفاع أدونيس مثلاً عن الغموض في الستينات لوجدوا ما يشبه الأجوبة الشافية عن تساؤلاتهم الاحتجاجية. فما قيل بالأمس يمكن أن يقال اليوم، تماماً كالاحتجاج الذي يحصل اليوم وكأنه هو نفسه الذي حصل بالأمس. ولعل هذا ما يؤكد أن مسألة الغموض ستظل مثارة مرحلة تلو مرحلة وربما عصراً بعد عصر ومن غير أن تلقى حلاً أو نهاية ما. بل هي ستظل على التباسها ما دام القارئ يتهم الشاعر بالغموض متذرّعاً بأن من حقه أن يفهم ما يقرأ، وما دام الشاعر الغامض أيضاً يلقي على القارئ تبعة "التقصير" وربما "الجهل" أو "عدم الفهم" وسواها من التعابير التي تزيد من الشقاق بينهما. وإن كان من حق القارئ أن يحتجّ على غموض الشعر فمن حق الشاعر أيضاً أن يحتج على كيفية قراءة شعره وعلى ثقافة القارئ و"رفاهيته" في القراءة. فالشاعر لا يستطيع أن يحسب حساب القرّاء حين يكتب ولا أن يتخلّى عن أسرار لعبته الشعرية نزولاً عند رغبة أولئك القرّاء. أما القارئ فينبغي له أن يمتلك أناة الشاعر وصبره الطويل وجهده أو مثابرته وأن يسعى الى قراءة الشعر قراءة تختلف عن القراءات السائرة. فالقصيدة ليست مقالة والشعر ليس بياناً والصنيع الشعري عماده الخلق الجمالي والتأمل والحدس والكشف والرؤيا... غير أنّ الغموض الحيّ والحقيقي أو ما يُسمى الغموض "المضيء" يختلف كلّ الاختلاف عن الغموض المفتعل أو المصطنع والمزيّف الذي يحفل به الكثير من الشعر الراهن. وعلى القارئ أن يميّز بين هذين الضربين من الغموض تماماً مثلما على الشاعر أيضاً أن يميّز بينهما. فالغموض لا يعني الإبهام المجاني ولا قتل المعنى أو افتعال الصورة والرمز. الغموض الحقيقي هو "ليل الروح" الذي تنبثق منه المعاني والمجازات نقية وبارقة كشهب السماء.