يوضح كتاب جديد عن حياة عبدالرحمن عزام، الأمين العام الأول للجامعة العربية، نقاطاً مهمة عن مفهوم "العروبة" لدى النخبة المصرية قبل الحرب العالمية الثانية. مؤلف الكتاب رالف كوري، بروفسور التاريخ في جامعة فيرفيلد في ولاية كونيتيكت الأميركية. ومن ميزات الكتاب انه اعتمد في جزء منه على مقابلات مستفيضة مع عزام باشا ما بين 1969 و1971، كما اتيحت للمؤلف قراءة أقسام من سيرة عزام باشا الذاتية التي لم تنشر. يتضح من الكتاب أن حياة عزام باشا السياسية دارت منذ مرحلة مبكرة الى حد كبير على تركيزه على تاريخ العرب كأمة فريدة. وقرر عندما كان يدرس الطب في لندن في 1913 التطوع مع العثمانيين في حرب البلقان. وبعد سنتين من ذلك عمل لمدة سبع سنوات مستشاراً لليبيين في صراعهم ضد الاحتلال الايطالي ما بين 1915 و1923. التقى عبدالرحمن عزام في المنطقتين عدداً من الشخصيات العربية والمسلمة المناصرة للقضية نفسها - من ضمنها العراقي جعفر العسكري - التي لعبت دوراً مهماً في الصراع بعد الحرب العالمية لانشاء دول عربية مستقلة. كما اتاح له عمله في ليبيا، خصوصاً مساهمته في 1919 في تأسيس صحيفة "اللواء الطرابلسي" وكتابته فيها، فرصة تطوير بعض أفكاره عن التاريخ العربي والقومية العربية. ولم يقل عن ذلك أهمية مراقبته لمرحلة موت الامبراطورية العثمانية وتنامي مراكزقوى عربية بديلة في الشرق الأوسط. يبين الكتاب أيضا أن مصرية عبدالرحمن عزام كانت عنصراً مهماً في تكوينه. ويقول البروفسور كوري ان الذين التقوه لم يعجبوا بلغته العربية الرفيعة فحسب بل أيضاً بأسلوبه في تقديم نفسه كداعية بليغ للتقاليد الحية لحضارة العرب وثقافتهم، التي حافظت عليها القاهرة عبر القرون. ولهذا أهمية خاصة في بلاد مثل ليبيا لم يكن لها تلك الكثافة التاريخية. من هنا لم يصعب عليه ان يستنتج ان لمصر دوراً خاصاً كقائدة للعالم العربي الموشك على الاستقلال. كان من الطبيعي لعزام عندما عاد الى القاهرة في 1923 ان يوفق بين دوره كنائب برلماني من حزب الوفد وزياراته الى بقية العواصم العربية ومحاولاته تطوير شبكة من العلاقات مع الساسة العرب الكثيرين الذين لجأوا الى القاهرة أو زاروها بانتظام طلبا لدعم مصر لهم في صراعهم ضد الكولونيالية. واستمرت العروبة بهذا جزءا حياته، وأضفت عليه الصدقية في توعيته للمصريين عن العالم العربي الأوسع، وعلى دعوته منذ الثلاثينات الى وحدة عربية مركز قيادتها القاهرة. كل هذا معروف الى حد ما. لكن الجديد في بحث كوري هو تركيزه على أن عروبة عزام كانت جزءاً من تيار أوسع لدى النخبة المصرية، الساعية وقتذاك الى تقوية موقعها تجاه البريطانيين من جهة، وأيضاً تجاه القوى السياسية المحلية الأكثر جذرية والأنضج من حيث البرامج الاجتماعية من الجهة الثانية. من هذا المنظور مثّلت العروبة تأكيداً على جانب فعلي من هوية مصر القومية، اضافة الى كونها فرصة لتوسيع مصالح مصر السياسية والثقافية والاقتصادية الى بقية الشرق الأوسط. هذا المنظور مهم في حد ذاته. لكنه يسمح أيضاً لكوري بدحض الآراء التي لا تزال نافذة من الباحث الراحل ايلي كيدوري وغيره في أن التحرك الأول لمصر في اتجاه العروبة لم يبدأ الاّ أواخر الثلاثينات، ولم يزد على ان يكون وسيلة من البلاط لرفع منزلة الملك الشاب فاروق. ما يثير الاهتمام أيضاً الأمثلة التي يقدمها البروفسور كوري على ما يمكن ان نسميته تناقضات فكرة العروبة في مراحلها المبكرة - التناقضات التي لعبت دورا بالغ الأهمية في زمن جمال عبدالناصر، عندما أصبحت القومية العربية الايديولوجية الرسمية. وأظهر الصراع بين أعضاء الوفد المصري الى المؤتمر الاسلامي العام في القدس في 1931 الذي دعا اليه المفتى أن دعم القضايا العربية كان يؤدي في كثير من الأحيان الى شق صف السياسيين المصريين وأيضا تأزيم العلاقات مع قادة الحركات العربية الأخرى الذين يواجهون مشاكل سياسية مختلفة تملي برامج سياسية مختلفة. من هنا كانت العروبة حسب مفهومها المصري ناجحة كشعار عندما يعبر عنها في شكل عموي. لكنها كانت تقود الى مشاكل عند تتضارب مصالح مصر مع مصالح جيرانها العرب. المؤسف، من هذه الزاوية، ان كتاب البروفسور كوري ينتهي عند 1936، عندما كان عبدالرحمن عزام سفير مصر في بغداد، لأنها كانت المرة الأولى التي يواجه فيها مشاكل العلاقات بين الدول، التي لا تقدم فكرة "العروبة" المشتركة حلا كافيا لها. ويبدو ان من الطبيعي أن نفترض انه كان من بين الموافقين على الصيغة التي قدمها ميثاق الاسكندرية 1944، أي تشكيل جامعة من دول عربية مستقلة. رغم ذلك لا يمكن القول ان كوري يجهل هذا الجانب. فهو يبدي تفهما كبيرا للتيارات الفكرية الأخرى وقتها عن هوية مصر ومصالحها الوطنية، تماما مثل عزام باشا في جدالاته الدائمة مع اعضاء الجماعات السياسية الأخرى، مثل الاخوان المسلمين أو مصر الفتاة. ويحرص كوري أيضا على ان يبين ان العروبة السياسية، رغم كونها سمة مهمة من حياة مصر الفكرية في تلك المرحلة، كانت لا تزال ذات أهمية محدودة لغالبية اعضاء النخبة المصرية. * مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة هارفرد