محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    البنك الدولي يعزز تمويلاته المخصصة لتخفيف آثار التغير المناخي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرب مستمرة على المصادر والبيئة . كاتب كندي يعرض لمسألة المياه بين سورية واسرائيل
نشر في الحياة يوم 30 - 04 - 2000

معركة المياه مستمرة بين العرب واسرائيل بكل ما تحمله من مخاطر، ومعالجتها من قبل الكتاب الغربيين لا يقربها من النهاية. بل ويحق التساؤل عما يمكن أن يقدمه كتاب جديد على هذا الصعيد. والحقيقة أنه منذ فشل مؤتمر مدريد في ايجاد صيغة مقبولة لمعالجة ما أصبح يعرف بمشكة المياه صدرت حتى الآن حفنة من الكتب والدراسات الغربية لكن غالبيتها لم يكن له من هدف واضح سوى تبرير السيطرة الاسرائيلية بحجج تراوح بين السذاجة والصفاقة.
وذهب بعض الدراسات إلى أبعد من الصفاقة إذ اقتبس عبارات دقيقة أطلقتها شخصيات عربية ذات شهرة ومكانة عالميتين ثم مزقها وشتتها وأعاد جمعها بصيغ ممسوخة أراد منها إقناع الرأ ي العالمي أن الحل الوحيد للحؤول دون إندلاع حروب جديدة بسبب المياه يكمن في إجهاض الحوامل العربيات وزراعة المحاصيل العربية في الهواء كي تبقى المياه العربية مسخرة لتلبية احتياجات المستوطنين اليهود بدلعهم وإسرافهم الذي يتحدى المنطق ويؤذي كل المشاعر. ويطرح الكاتب الكندي مارك دو فالييه في كتاب ضخم نشره في كندا أخيرا بعنوان "المياه" وجهة نظر غربية قد لا تختلف كثيرا عن سابقاتها - بل هي ليست محايدة على الاطلاق، وهي في الواقع مجحفة ومغلوطة في كثير من طروحاتها - إلا أنها رأي جريء لشاهد عيان يبدي شيئاً من الحرص إزاء السلام، ويزعم في المقابل أنه يقف موقفا صلبا إزاء التعسف والاساءة الى واحدة من أهم الثروات الانسانية على الاطلاق.
يفتتح دوفالييه فصلا عن معركة المياه بين سورية واسرائيل بحوار تبادله مع اسرائيلي على مرتفعات مدينة صفد. يشير الاسرائيلي إلى بحيرة طبريا ويقول: "إنها مصدر ثلثي المياه التي تستهلكها اسرائيل ولولاها لأصبح العيش مستحيلا في تل أبيب ومستحيلا في اسرائيل كلها. لولا الماء لمات كل من في اسرائيل". فيجيب الكاتب قائلاً: "لولا الماء لمات كل البشر".
أردت رؤية الأنابيب التي تسحب مياه النهر إلى قناة الجر الاسرائيلية ولكني منعت من ذلك فالمياه مسألة أمنية في اسرائيل. وتحمل قناة الجر مياه نهر الأردن إلى التجمعات السكنية المنتشرة على امتداد الشريط الساحلي، بينها تل أبيب، ومن هناك إلى الأرض القاحلة في صحراء النقب عبر شبكة معقدة من القنوات الفرعية.
مع حلول منتصف التسعينات كانت اسرائيل تستنزف مصادرها المائية وتسحب من المياه الجوفية بكميات تفوق قدرة الآبار على تجديد مخزونها بنسبة 15 في المئة سحب استنزافي بمعدل 2100 مليون قدم مكعبة سنويا مقابل تجديد بمعدل يراوح بين 1950 مليون قدم سنويا في الأعوام الخيرة و1600 مليون في السنين العجاف. وكانت الحال أشد سوءاً في الاردن حيث بلغت نسبة استنزاف المصادر المائية 20 في المئة، وكذلك في قطاع غزة حيث تتعرض المياه الجوفية الساحلية للسحب بمعدلات تفوق بكثير قدرتها على التجدد وحيث أصبح تسرب المياه المالحة مشكلة خطيرة - وهي خطيرة من واقع أن اسرائيل تسمح للمستوطنين اليهود حفر آبار أكثر عمقا مما تسمح به للفلسطينيين. وأدت هذه السياسات التعسفية إلى تفاقم المظالم الفلسطينية التي كانت عميقة أصلا. إذا كان صنبورك يعمل ليوم واحد أو يومين في الاسبوع بينما تعمل صنابير اليهود طوال الاسبوع فمن السهل أن تحس بالظلم.
في العام 2020 وحسب أرقام الاسرائيليين سيبلغ العجز المائي في اسرائيل 360 مليون قدم مكعبة، وسيشارف مقدار العجز لدى الأردن على 200 مليون قدم مكعبة، وسيصل في حال الضفة الغربية إلى 140 مليون قدم مكعبة. وبما أن طاقة نهر الأردن المشدودة أصلا لا تزيد على 1400 مليون قدم مكعبة في الأعوام الخيرة فمن أين سيأتي الماء حقا؟
منذ البداية اصطدمت البيئة الهشة بسياسات المواجهة العسكرية وديناميات الاقتصادات السكانية والعمرانية. وفعلا خاضت اسرائيل حربا مع سورية من أجل المياه، وبات من المقبول على نطاق واسع أن بواعث الحرب العربية - الاسرائيلية لعام 1967 استندت على المياه بقدر ما استندت على الأرض. وتسيطر اسرائيل على مرتفعات الجولان لأجل مصادرها المائية وكذلك لدواع تتعلق بالأمن العسكري. وهناك بالطبع أسباب قوية، سيكولوجية وسياسية، للاحتفاظ بمرتفعات الجولان لكن اسرائيل ليست بحاجة إلى المرتفعات لابعاد القناصة، إذ لا تحتاج المدفعية الحديثة الى مجال نظر للرمي ويمكن للقناصة أن يتمركزوا على عمق 20 كيلومتراً داخل الأراضي السورية. ووفق المنطق نفسه تحتفظ اسرائيل بتواجد عسكري في لبنان لأسباب تتعلق جزئيا بواقع أن هذه المنطقة تحتوي على مصادر مائية. والحقيقة ان حدود اسرائيل هي نتاج إعتبارات مائية.
من السهل جرد المصادر المائية المتوافرة للمنطقة ولكن من الصعب التحكم بها. يتغذى نهر الأردن الذي يعتبر العنصر الأساس في كامل النظام المائي، من نهرين: نهر الحاصباني الذي ينبع في الأراضي السورية يمر عبر الأراضي اللبنانية، ونهر بانياس الذي ينبع في هضبة الجولان التي احتلتها اسرائيل عام 1967 وضمتها في سنة 1981، علاوة على نبع ونهر دان. ويتغذى القسم الجنوبي لنهر الاردن من الينابيع ومياه الأمطار التي تتجمع في وديان الضفة الغربية وسورية والاردن ومياه نهر اليرموك الذي ينبع من الأراضي السورية ويسير بمحاذاة الحدود الاردنية والسورية ومرتفعات الجولان ثم نهر الأردن لعدة مئات من الكيلومترات إلى أن يصب فيه عند جسر آدم. ويعتبر وادي الأردن بذلك مجرى دولياً.
لكن مياه الأنهار لا تشكل سوى 30 في المئة من المصادر المائية للمنطقة بينما يتألف الباقي من مياه جوفيه تأتي من ثلاثة أحواض رئيسية هي: الحوض الجبلي والحوض الشرقي والحوض الساحلي. والحوض الجبلي هو أكبر المصادر المائية وتستغله اسرائيل للحصول على 25 في المئة من احتياجاتها. ويضم الحوض الجبلي مجموعة من الأحواض أهمها الحوض الغربي ويقع كله تقريبا داخل اسرائيل والحوض الشمالي الشرقي الذي يقع في عمق الضفة الغربية. ويتألف الحوض الشرقي من سلسلة من الأحواض الصغيرة تتموضع كلها داخل حدود الضفة الغربية وتشكل المصدر الرئيسي لنحو 90 في المئة من الآبار التي تم حفرها في الضفة. أما الحوض الساحلي الذي ينتهي بحوض صغير يقع تحت قطاع غزة فقد تعرض للسحب الاستنزافي على مدى سنين ليس فقط من قبل اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في القطاع بل أيضا من قبل المستوطنين الاسرائيليين الذي حفروا آبارهم من خارج القطاع. وليس من قبيل المبالغة القول أن قطاع غزة يواجه أزمة مياه خطيرة إذ تفوق معدلات السحب كثيرا قدرة الحوض على تجديد مخزونه وباتت الآبار تحتوي على نسب عالية من الملوحة بحيث أصبح معظمها غير صالح للشرب.
اعتبر مؤسسو اسرائيل المياه مسألة حيوية لعلمهم أن إقامة دولة قادرة على البقاء يتطلب جلب أعداد كبيرة من المهاجرين. ويحتاج المهاجرون إلى المياء ليس للشرب فقط بل أيضا للزراعة والصناعة. ومنذ وقت مبكر أعلن باحث لدى الجمعية الملكية البريطانية يدعى تشارلز وارن في سنة 1875 أن فلسطين والنقب قادرة على استيعاب 15 مليون نسمة بإجراء قليل من التنظيم في مصادرها المائية. وطالب الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن مؤتمر باريس في سنة 1919 بأن تضم حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية منابع نهر الأردن أي جبل حرمون والقسم المنخفض من مجرى الليطاني. وأكد وايزمن في رسالة وجهها إلى وزير الخارجية البريطاني آنذاك ديفي لويد جورج رغبته في السيطرة على "وادي الليطاني على امتداد 25 ميلاً من مجرى النهر قبل انعطافه باتجاه البحر والمنحدرات الغربية والجنوبية لجبل حرمون". واعتبر المخططون سيطرتهم على مجرى الليطاني ونهر الأردن ضرورة استراتيجية لضمان أمن اسرائيل المستقبلية. ولم تختلف مطالب ديفيد بن غوريون كثيرا حين أعلن في سنة 1948 أن: "الأردن واليرموك هما أهم أنهار اسرائيل" وطالب في الوقت نفسه بالضفة الجنوبية لنهر الليطاني حدودا لاسرائيل. ولم تحصل اسرائيل على الليطاني في نهاية المطاف إذ رفضت عصبة الأمم المطالب الصهيونية وأصبح الليطاني جزءاً من لبنان. ولكن الليطاني بقي مصدر احباط للاسرائيليين حيث لا يفصله عن منبع نهر الاردن سوى حاجز صخري ضيق، ما أغرى الاسرائيليين على الدوام لمحاولة تصحيح خطأ الطبيعة. ويقع الشطر الغربي من مجرى الليطاني في الشريط الحدودي الذي تحتله اسرائيل منذ عقود لكنها لم تستغله إلى الآن بشكل كبير.
ومنذ البداية اصطدمت خطط العرب في شأن حماية مياههم بالمخططات الصهيونية المصممة على تحويل هذه المياه إلى المهاجرين اليهود. وحدث أول تصادم في سنة 1926 وذلك عندما منح المندوب السامي البريطاني شركة كهرباء فلسطين المملوكة من قبل اليهود امتيازا حصريا يخولها استغلال مياه الأردن واليرموك في مشاريع توليد الكهرباء. وكان هذا الامتياز الذي بلغت مدته سبعين عاما نذيرا بالمشاكل إذ حظر على العرب استخدام مياه أي من النهرين لأي غرض كان قبل الحصول مسبقا على إذن من شركة الكهرباء التي لم يحدث أن منحت العرب إذنا واحداً.
وفي منتصف الثلاثينات انتدبت بريطانيا خبيرا يدعى إيونايدز لتقويم مصادر المياه في حوض الاردن. وقدم إيونايدز توصيات تلخصت في: خزن مياه فيضان اليرموك في بحيرة طبريا، ونقل كميات من مياه البحيرة علاوة على 1.76 متر مكعبة في الثانية من مياه نهر لري 30 ألف هكتار من الأراضي الأردنية الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن عبر قناة الغور الشرقية التي تحاذي نهر الاردن من جهة الشرق وتشكل نظام المياه الرئيسي للأردن. وأوصى إيونايدز بحصر استخدام القسم المخصص للري من مياه الأردن، التي قدرها ب742 مليون قدم مكعبة، في وادي الأردن. لكن هذه التوصيات لم تجد طريقها إلى التنفيذ وبقيت مياه الأردن واليرموك تحت سيطرة شركة الكهرباء اليهودية. والذي حدث أن الصهاينة لم تعجبهم توصيات إيونايدز وفضلوا عليها دراسة أخرى مولتها وزارة الزراعة الأميركية وأعدها أميركي يدعى والتر كلاي لودرميلك. وكان أول ما فعله لودرميلك أن قدم تقويما لمصادر المياه يزيد بمقدار الضعف عما قدره أيونايدز من قبله وقال أن المياه ستكون كافية لري وادي الأردن وصحراء النقب وزاد على ذلك بأن أوصى باستخدام مياه نهر الليطاني ومعالجة انخفاض منسوب البحر الميت عن طريق حفر قناة تصله بالبحر المتوسط. وأوصى لودرميلك بإناطة كل هذه المشاريع بالمهاجرين اليهود ما جعل خطته تضمن ترحيب الصهاينة ورفض الجانب العربي في آن واحد. ولكن لودرميلك توقع الرفض العربي وكتب يقول: "وكل عربي لا تعجبه هذه الخطة صار إلى ترحيله إلى ضفتي الفرات ودجلة". وجاء بعد لودرميلك ما يعرف بخطة هيز التي لم تختلف عن سابقتها إلا بصياغة عباراتها. يلفت إلى أن لودرميلك هو مؤلف كتاب "أرض الميعاد" الذي تغني فيه بعودة المستوطنين اليهود من أجل ما وصفه إعادة إعمار فلسطين وإصلاح بيئتها ونشرته مؤسسة النشر الأميركية هاربر أند برازرز سنة 1944.
يتفرع من صفد طريق جبلي متعرج يقود انحدارا إلى مستوطنة روش بينا وشمالا الى جسر بنات يعقوب ومنها إلى سهل الحولة. وفي هذه البقعة من الأرض إصطدمت البيئة مع الأيديولوجية الصهيونية السياسات المائية المتشابكة المعقدة. في مطلع القرن العشرين ولآلاف السنين قبلها كانت الحولة عبارة عن مستنقعات وبقيت تسمى مستنقعات الحولة حتى زمن الانتداب البريطاني في الأربعينات. وبدت الحولة مكانا مناسبا لأبطال الاسطورة الصهيونية من المزارعين الأشاوس إذ بدا أن مستنقعاتها لا دور لها سوى السماح بتكاثر البعوض وانتشار الأمراض مثل الملاريا والحمى الصفراء. وكانت الحولة أرضا سورية لكنها أصبحت جزءاً من اسرائيل بموجب خطة التقسيم لعام 1948. وفي العام التالي تم سحب الجنود السوريين ليصبح السهل جزءاً من المنطقة المنزوعة السلاح. وكان هذا يعني للسوريين الحفاظ على الوضع القائم في سهل الحولة من دون تغيير إلا أن دولة اسرائيل الجديدة وجدت فرصتها: سيقوم المستوطنون اليهود بجر مياه نهر الأردن لري الأرض القاحلة في النقب وتجفيف المستنقعات وستعمل الكيوبتسات على تحويل السهل إلى أرض منتجة. وتبنت اسرائيل في سنة 1953 خطة سباعية ضمنتها خطة هيز المنبثقة عن خطة لودرميلك وأعلنت نيتها جر مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب. واشتملت خطة المياه على إقامة شبكة واسعة تغطي كل اسرائيل ويشكل سهل الحولة جزءاً رئيسيا منها. ووصلت طلائع المستوطنين إلى السهل في العام نفسه وكذلك بدأ العمل في منشآت التحويل عند جسر بنات يعقوب. وأثار مشروع تحويل مياه الأردن موجة انتقادات واسعة وصدرت عن سورية ردود فعل غاضبة ولوحت الولايات المتحدة ودول غربية بفرض عقوبات اقتصادية على اسرائيل التي سارعت إلى تجميد أعمال الانشاءات ولكن إلى حين.
وكان الجانب العربي تبنى في ذلك الوقت مشروعا طرحه مهندس أميركي يدعى ام اي بنجر واشتمل على بناء سد تخزيني عند نقطة تلتقي فيها ثلاثة وديان وتعرف باسم مقرن. إلا أن بنجر كان بريئا يجهل خفايا السياسة الاسرائيلية. وهو تجاهل اسرائيل الى حد كبير وركز جهوده في إيجاد حل لما تعانيه الأردن وسورية من مشاكل في تلبية احتياجاتهما من المياه، وفي درجة أقل، التخفيف من معاناة اللاجئين الفلسطينيين بمحاولة رفع انتاجية الأرض المتاحة للزراعة في الغور الشرقي وأجزاء من سورية. وبدأ العمل في المشروع في العام نفسه 1953 ولكن اسرائيل نجحت في اقناع الولايات المتحدة والأمم المتحدة بسحب تأييدهما وخلال فترة قصيرة من الوقت اكتشفت سورية والأردن أن أعمال الانشاء توقفت فجأة بلا سابق إنذار.
وتصاعدت حدة التأزم في شأن سهل الحولة والمنطقة المنزوعة السلاح بسرعة. ولم يكن أي من الطرفين على استعداد للتنازل. فبالنسبة لاسرائيل كانت زراعة الأرض واستغلال المياه قيمتين لا تقلان أهمية عن أي من القيم التي قامت عليها الفلسفة الصهيونية، أما بالنسبة لسورية فقد كان الأمر محض سرقة. وبذل الأميركيون جهود وساطة تمخضت عن طرح خطة جديدة أعدها مبعوث خاص يدعى ايريك جونستون. وكانت رغبة جونستون المعلنة أن تكون خطته أكثر شمولية وأن تسعى لما وصفه ايجاد "صيغة عادلة لتوزيع مصادر المياه المتاحة" وإقامة تعاون بين بلدان المنطقة، لكن خطته رفضت من قبل كل الأطراف. إلا أن اسرائيل التي رفضت أفكار جونستون في البداية عادت وتبنتها عندما تخلت في أواخر عام 1953 عن خطتها السباعية لصالح خطة عشرية تحاكي الخطط السوفياتية. وتضمنت الخطة الجديدة إحياء مشروع تحويل مياه الأردن الذي جمدت أعماله في وقت سابق من العام المذكور ولكنها نقلت موقع التحويل هذه المرة الى الركن الشمالي الغربي لبحيرة طبريا بعيداً عن مرمى السوريين.
في سنة 1959 عرضت سورية مشكلة المياه على مجلس الجامعة العربية الذي كان حينها برئاسة الرئيس المصري جمال عبدالناصر. وتبنى المجلس رداً على الاجراءات الاسرائيلية تمثل في إقامة سدود تخزينية على العديد من روافد الأردن واليرموك وبانياس ودان. وكانت كل هذه المشاريع شرعية تماما إذ تقع جميعها داخل الأراضي السورية، لكنها أثارت حنق اسرائيل. وأجرى الاسرائيليون حساباتهم ووجدوا أن حصتهم من نهر الأردن ستنخفض بنسبة 35 في المئة. وفي البداية صاغت اسرائيل تهديداتها بعناية، ولم يحدث شيء لفترة من الوقت، وتم اقرار المشاريع في 1961 ولكن عندما بدأ التنفيذ في 1964 تصاعدت حدة التهديدات الاسرائيلية. كان شيمون بيريز أعلن في السابق أن المياه ستكون سببا للحرب وبدا ليفي أشكول الآن أكثر صراحة. وردا على التصريحات الاسرائيلية نشرت سورية قواتها على الحدود ووقعت اشتباكات ومع ذلك استمر العمل في انشاء السدود إلى أن أرسلت اسرائيل طائراتها الحربية لتدمير المنشاءات، وكان ذلك قبل شهرين من اندلاع حرب 1967. باحتلال مرتفعات الجولان وضمها في سنة 1981 أحكمت اسرائيل قبضتها على مصادر المياه صعودا حتى جبل حرمون منبع نهر الأردن. ووعدت اسرائيل بإعادة المرتفعات إلى سورية وفق جدول زمني ما زال موضع خلاف ولكن الذين ينظرون إلى الجولان من صفد لا يستسيغون ذلك فمن يسيطر على المرتفعات يسيطر على مصادر المياه والسيطرة على المياه أمر حيوي.
على مدى 15 إلى 20 عاما استمر المزارعون اليهود بالتدفق على سهل الحولة الذي أصبح يتمتع بالأمان تحت سيطرة القوات الاسرائيلية. وكان السهل يتعرض لقصف متقطع من مواقع القوات غير النظامية في جنوب لبنان، واعتاد المزارعون القصف ولكن كان ثمة عدو آخر يعمل من الداخل.
أحدث تجفيف المستنقعات خللاً خطيراً في البيئة فمع انخفاض منسوب المياه الجوفية جفت مياه الجداول والينابيع وأصبح من المحتم تعميق الآبار مرة على الأقل في كل عام للوصول إلى المياه الجوفية. ومع ذلك استمر المزارعون اليهود في الري بإسراف أشد من ذي قبل ما أدى إلى ارتفاع ملوحة التربة إلى مستويات خطيرة. وللتعامل مع هذه المستجدات تحول المزارعون إلى المحاصيل الأكثر قدرة على احتمال الملوحة، لكن الاسراف في الري استمر على حاله وارتفعت نسبة الملوحة من جديد وبلغت حداً لا يطيقه أي نبات. وعندها حدث ما لم يكن في الحسبان إذ بدأت التربة بالانزلاق متهاوية إلى أعماق الأحواض بعدما فقدت مخزونها من المياه الجوفية. وبلغ عمق الانخسافات في بعض المناطق سبعة أمتار واختفت منازل بأكملها في مناطق أخرى. ولم يكن الأمر يتطلب الكثير من الذكاء لمعرفة ما يحدث. كانت المياه الجوفية عنصرا جوهريا من عناصر البيئة وضرورة أساسية للحفاظ عليها وبذهابها أخذت الأرض تحتضر. ولكن اذ كان من السهل التعرف على المشكلة فقد كان من الصعب معرفة الحل. واستمرت الانخسافات وبحلول منتصف الثمانينات تعرض سهل الحولة للعواصف الرملية لأول مرة في تاريخه وبدأت الرياح بحمل التربة المالحة إلى أعماق الجنوب وظهرت البقع الملحية على مياه الأردن لتحملها إلى بحيرة طبريا. وفي نهاية المطاف لم يعد من خيار سوى طرد المزارعين وإغلاق الكيبوتسات.
لكن تحويل مياه نهر الأردن إلى قناة الجر الاسرائيلية وعبرها إلى كيبوتسات صحراء النقب كان أشد خطورة على البيئة من استنزاف المياه الجوفية لسهل الحولة. عندما بدأ مشروع التحويل في أواخر 1953 كانت مياه النهر تتدفق على البحر الميت بمعدل 1250 مليون متر مكعب، بينما يتراوح معدلها الحالي بين 160 و200 مليون متر مكعب فقط، أي أقل من الثمن. وحتى المياه التي تنقلها قناة الجر ما عادت صافية كسابق عهدها وتركيز الأملاح فيها أعلى مما يعتبر آمنا في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة. وكان لانخفاض معدل تدفق المياه وتحويل نهر الأردن إلى قناة للصرف آثاره على البحر الميت. ويقع البحر الميت في أدنى الأرض وينخفض بنحو 300 متر عن مستوى البحر وفوق ذلك فقد هبط مستواه نحو عشرة أمتار في الأعوام المئة الأخيرة وانخفاضه في تسارع مستمر. ويلعب البحر الميت دوراً مهماً ليس فقط على صعيد ما يحتويه من المعادن أو على الصعيد السياحي بل أيضا على صعيد الحفاظ على البيئة وضمان سلامتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.