بالزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس جيانغ زيمين الى الشرق الأوسط سجل الموقف الصيني من القضية الفلسطينية والصراع العربي - الصهيوني تحولاً مثيراً، دخلت معه العلاقات الصينية- الشرق أوسطية مرحلة مختلفة، ودخل التنافس الصيني- الأميركي في المنطقة طوراً جديداً. من الرفض القاطع للاعتراف بإسرائيل في زمن ماو تسي تونغ الى الرغبة الملحة في إقامة "علاقات خاصة" معها في زمن جيانغ زيمين، ومن الدعم الكامل للكفاح المسلح الفلسطيني في زمن "الحرب الباردة" الى التأييد الحماسي للتسوية السلمية الأميركية في الزمن العالمي الجديد، مر الموقف الصيني من القضية الفلسطينية خلال نصف قرن بتطورات كبيرة وتحولات دراماتيكية. كيف تطور الموقف الصيني من القضية الفلسطينية؟ وما هي الاعتبارات التي حكمته في كل مرحلة؟ وكيف تعامل العرب والفلسطينيون مع الصين الشعبية؟ تبدت المفارقة الأولى في العلاقات الصينية - العربية في الأيام الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 عندما سارعت إسرائيل المنشأة قبل شهور بدعم القوتين الغربيتين بريطانيا والولايات المتحدة الى الاعتراف بالنظام الشيوعي الجديد في بكين والإلحاح في طلب الاعتراف الصيني وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها، وفي المقابل أدارت الدول العربية الطامحة الى التحرر والاستقلال والسيادة ظهرها للصين الجديدة رافضة الاعتراف بحكومة ماو تسي تونغ أو اقامة علاقات دبلوماسية معها. وأدركت القيادة الإسرائيلية مبكراً الأهمية الكبيرة للصين المستقلة بالثقل البشري والمادي والثقافي الذي تمتلكه وبالمستقبل السياسي والاقتصادي والدولي الذي ينتظرها، لذلك وضعت على رأس اهتماماتها الديبلوماسية إقامة علاقات وثيقة مع النظام الجديد وبذلت جهوداً حثيثة لإقناع بكين الاعتراف بدولة إسرائيل ولو اعترافاً واقعياً، وبإقامة علاقات ثنائية معها ولو في الميدان التجاري. واستخدمت في سبيل ذلك مختلف الوسائل الديبلوماسية والاتصالات السرية والوساطات الأجنبية من دون نجاح يذكر، بينما تجاهل الجانب العربي وجود الصين الشعبية خلال النصف الأول من الخمسينات ولم يبذل جهداً لكسب تأييدها إلا أثناء مؤتمر باندونغ عام 1955. مؤمر باندونغ لا يستطيع أي متابع لمسيرة العلاقات العربية - الصينية المعاصرة أن يتجاهل أهمية مؤتمر باندونغ الذي شكل نقطة انطلاق لتلك العلاقات من ناحية وبلور الموقف السياسي الصيني تجاه القضية الفلسطينية من ناحية أخرى، ولعب الرئيس جمال عبدالناصر والديبلوماسي الفلسطيني في الوفد السوري أحمد الشقيري دوراً في التأثير إيجاباً على موقف رئيس الوفد الصيني شو ان لاي. قبل مؤتمر باندونغ كان الموقف الصيني من القضية الفلسطينية لا يتجاوز حدود الدعوة الى عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، من دون الاهتمام بحقائق الصراع وتفاصيل القضية، وبعد المؤتمر تضمن الموقف الصيني تأييد النضال العربي ودعم الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني. في هذه المرحلة لعب العدوان الثلاثي على مصر دوراً في تطوير الموقف الصيني وتفعيل العلاقات العربية - الصينية التي دخلت مرحلة الاعترافات والاتصالات الرسمية، فالتدخل الأميركي المباشر في الحرب الكورية على حدود الصينالشماليةالشرقية 1950-1953 والتدخل الأميركي المساند للفرنسيين في الحرب الفيتنامية 1953-1955 على حدودها الجنوبية جعل الصين تستشعر أهمية دعم الأنظمة ذات التوجهات الاستقلالية وحركات التحرر الوطني لتوسيع الجبهة العالمية المعادية للاستعمار. كما دفع التأييد الإسرائيلي للأميركيين في الحرب الكورية وابتزاز تل أبيب لبكين في موضوع مقعد تايوان في الأممالمتحدة والمشاركة الإسرائيلية في العدوان البريطاني الفرنسي على مصر، ماو تسي تونغ الى بلورة موقف سلبي من إسرائيل واعتبارها قاعدة استعمارية وأداة إمبريالية. وهكذا يمكن القول إن الموقف الصيني من القضية الفلسطينية الذي اتسم بالحيادية في مطلع الخمسينات على قاعدة تركيز الاهتمام الصيني بتكريس النظام الاشتراكي وبقضايا الشرق الأقصى، انتقل نهاية الخمسينات الى التعاطي الايجابي مع الموقف العربي على قاعدة التزام الصين بالسياسة المعادية للاستعمار الغربي والاستعمار الجديد، لكن هذا الموقف تطور على نحو كبير لصالح القضية الفلسطينية اعتباراً من أواسط الستينات نتيجة تطورات داخلية وعوامل خارجية. الصراع الدولي نتيجة حسم الصراع الداخلي لصالح الجناح المتطرف الذي يقوده ماو تسي تونغ في الحزب والجيش والدولة، وتحت ضغط النزاع الصيني - السوفياتي الذي تجاوز الخلاف العقائدي الى الاشتباك الحدودي والتنافس الإقليمي، وأمام تصاعد العداء الصيني- الأميركي واشتداد الحصار الغربي للصين في منطقة الشرق الأقصى وجوارها، أطلقت بكين شعار "الثورة العالمية" من عقاله ونظّرت لحرب التحرير الشعبية وشجعت حرب العصابات الثورة في مناطق مختلفة من العالم الثالث، وفي منطقة حيوية ومهمة للولايات المتحدة كالشرق الأوسط. ووجدت القيادة الصينية في القضية الفلسطينية مدخلها الأنسب للتشويش على المصالح الغربية والأميركية ولنشر "الفكر الماوي" ولإقامة نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة. وهكذا تطور الموقف الصيني من القضية الفلسطينية باتجاهين: الأول: التأييد الكامل لنضال الشعب الفلسطيني والدعم التام لحقوقه الوطنية... والتعامل مع الثورة الفلسطينية على أساس أنها طليعة حركة التحرر العربية وإحدى فصائل الثورة العالمية. الثاني: تصعيد الموقف المعادي لإسرائيل والتأكيد على رفض الاعتراف بها بالمطلق ورفض إقامة العلاقة معها على أساس أنها قاعدة متقدمة للاستعمار وأداة عدوان إمبريالي، والنظر الى الحركة الصهيونية باعتبارها عنصرية عدوانية فاشية متحالفة مع الإمبريالية. شهدت العلاقات الصينية - الفلسطينية في تلك المرحلة فترة ازدهارها الذهبية، وبرز الالتزام العقائدي من خلال الدعم الشامل ومتعدد الأشكال الذي حظيت به الثورة الفلسطينية: ديبلوماسياً: الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني وفتح أول مكتب تمثيلي لها خارج البلدان العربية وفتح الطريق الكوري والفيتنامي لها، واحتضان الصين لقيادة المنظمة وفتح تحديداً. سياسياً: تأييد حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية وتبني أهدافه السياسية ومطالبه القومية بما فيها استعادة كامل فلسطين من البحر الى النهر وتدمير دولة إسرائيل تدميراً كاملاً. عسكرياً: تقديم الأسلحة والتجهيزات والمساعدات العسكرية واللوجستية والتدريبية لمنظمة التحرير والفصائل الفدائية، من دون مقابل مادي أو مالي. اجتماعياً: إرسال المساعدات المالية والغذائية والطبية وتأمين الاحتياجات الإنتاجية والإذاعية والتعليمية الممكنة. في هذه المرحلة كانت الصين تدفع بقوة، أولاً: للتأكيد على أن الكفاح المسلح هو الحل الوحيد لقضية فلسطين لتحريرها وعودة شعبها المشرد اليها، وأنه لا سبيل الى حسم الصراع من دون الانخراط الفلسطيني والعربي في حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد. وثانياً: لرفض التسوية السياسية والتصدي لمشاريعها باعتبارها مؤامرة أميركية - سوفياتية على الشعوب العربية، وباعتبار الأممالمتحدة أداة طيعة بيد واشنطن. المهادنة العقائدية مع تراجع الصراع العقائدي مع الأميركيين والاعتراف المتبادل وإقامة العلاقات الديبلوماسية بين بكينوواشنطن في النصف الأول من السبعينات ديبلوماسية كرة الطاولة ودور كيسنجر وزيارة نيكسون كانت الالتزامات الأممية والتضامن الثوري دخلت حال انسحار ملحوظة لكن على استحياء، لكنها عبرت عن نفسها بشكل واضح في الموقف الصيني من اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وبرعاية أميركية خالصة، إذ وُضع إخراج السوفيات من مصر على يد السادات في الحسابات الصينية كأهم بكثير من مخاطر الصلح مع إسرائيل!. بعد وفاة ماو وخسارة أتباعه معركة خلافته لصالح الجناح المعتدل بزعامة دينغ هسياو بينغ شهدت السياسية الخارجية الصينية تغييرات كبيرة طالت معظم علاقات الصين الدولية ومواقفها التقليدية في العالم الثالث، بما فيها الموقف من القضية الفلسطينية. فالتغييرات الجوهرية في السياسة الداخلية والتطبيق الاشتراكي في زمن الانفتاح تحت شعار التحديثات الأربعة الصناعة والزراعة والعلوم والدفاع كان لا بد أن تعكس نفسها على السياسة الخارجية والالتزامات الثورية السابقة، برز ذلك التغيير في الخطاب السياسي والممارسة السياسية تجاه الأطراف المعنية: أولاً: باتجاه إسرائيل اختفت تعبيرات العمالة والتبعية والعصابة من الخطاب السياسي وحلت محلها تعبيرات السلطات الإسرائيلية... الأوساط... الشعب الإسرائيلي وامكان الاعتراف به وإقامة العلاقات معها شرط انسحابها من الأراضي العربية واعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني، في هذا الإطار جرت سلسلة من الاتصالات السياسية السرية والزيارات المتبادلة غير الرسمية لمبعوثين أو مسؤولين من الدرجة الثانية. ثانياً: باتجاه الفلسطينيين تراجع الدعم العسكري والمادي الى مستويات متواضعة، واختفت المفردات الثورية من الخطاب السياسي الذي فقد حرارته وحميمته المعهودة، وجرى الدفع باتجاه شعارات واقعية وسياسات غير متطرفة مع دفعات من النصائح التكتيكية للحفاظ على القوة الذاتية. ثالثاً: باتجاه الصراع العربي- الإسرائيلي تظاهرت الصين بالحيادية بين أهل كامب ديفيد وبين أهل الصمود والتصدي لكنها في الممارسة السياسية كانت تساند الطرف الأول وتتفهم مواقف الطرف الثاني لكن معيارها بين الدول العربية كان اقترابها أو بعدها عن موسكو وليس واشنطن. وهكذا كانت السمة العامة للمرحلة، الاعتراف الصيني الواقعي بدولة إسرائيل وإقامة علاقات عسكرية وتجارية وفنية غير معلنة مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع كل من الفلسطينيين والعرب وبموقف سياسي مؤيد للقضية الفلسطينية عموماً. الاعتراف والتطبيع إذا كان الخروج من بيروت وتراجع خط الكفاح الفلسطيني المسلح وانحسار العمل العسكري الى أدنى مستوياته فتح الطريق أمام الانخراط الفلسطيني في مشاريع التسوية السلمية وما ترتب على ذلك من تنازلات سياسية فلسطينية جوهرية قادت الى الاعتراف الصيني الواقعي بإسرائيل وتعزيز العلاقات الثنائية معها، فإن حرب الخليج الثانية وانعقاد مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن التي أساسها الأرض العربية مقابل السلام الإسرائيلي فتحت الطريق أمام الصين وعدد كبير من الدول الصديقة للانتقال بعلاقاتها الإسرائيلية من السرية الى العلنية، ومن التطبيع الى التعاون. هذه المرة لعب التحول العقائدي والسياسي الفلسطيني والعربي دوره في تسويغ الاعتراف الصيني بإسرائيل وتحويله من اعتراف واقعي الى اعتراف ديبلوماسي كامل مقابل الاعتراف بالدولة الفلسطينية المعلنة في الجزائر عام 1988 وتحويل ممثليتها في بكين الى سفارة لدولة فلسطين العتيدة. في هذه الأجواء جاء الاعتراف الصيني بدولة إسرائيل وإقامة العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين على مستوى السفراء في عام 1992 ليتوج نجاحات الديبلوماسية الإسرائيلية في القارة الآسيوية، وليشكل نهاية سعيدة لجهود إسرائيلية متواصلة وحثيثة استمرت أكثر من أربعة عقود. لم تكن هذه الخطوة بالنسبة للطرفين نهاية المطاف بل نقطة انعطاف مهمة في تطوير علاقات التعاون بينهما في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والتقنية. اتفاق أوسلو أيلول - سبتمبر 1993 ازال ما تبقى من عوائق نفسية أو معنوية أو شكلية أمام الصينيين. فتقاطر المسؤولون الإسرائيليون الى بكين، وجاءت زيارة إسحق رابين العلنية الى بكين بعد بضعة أسابيع من توقيع أوسلو لتفتح الباب أمام خلفائه بيريز ونتنياهو وباراك لتطوير علاقات الصداقة والتعاون على أوسع مستوياتها. في المقابل لم تمانع القيادة الصينية في استقبال رئيس السلطة الفلسطينية في زيارات عدة روتينية، كان الجانب البروتوكولي الشكلي فيها يلهي الفلسطينيين بالمكاسب المعنوية ويشكل تغطية لنمو وتطوير العلاقات الصينية الإسرائيلية. شكلت زيارة الرئيس الصيني الأولى الى تل أبيب إنجازاً بالنسبة للإسرائيليين توجت جهودهم الديبلوماسية والسياسية المتواصلة منذ خمسين عاماً، ولعل تاريخية الزيارة لا تعود فقط الى قيمتها الأدبية والمعنوية بل أيضاً الى المردود المالي للصفقة العسكرية والاتفاقات الاقتصادية التي عقدت خلالها وتجاوزت قيمتها المعلنة ثلاثة بلايين دولار. أما زيارته الأولى لمناطق السلطة الوطنية فإنها تشكل هي الأخرى حدثاً تاريخياً بالنسبة للفلسطينيين لكن في المجال الديبلوماسي والمعنوي وفي إطار التسوية السياسية ومحدداتها الجائرة بينما لا يتجاوز مردودها المادي والمالي 300 مليون دولار من المساعدات الصينية الموعودة. حفلت زيارة الرئيس الصيني بالإشارات الرمزية واللفتات المعنوية في اتجاه تكريس شرعية السلطة والاعتراف الدولي بها على طريق تحويلها الى دولة مستقلة، وتعزيز المكانة البروتوكولية لرئيسها، بما يجعلها الزيارة تشكل تعويضاً نفسياً ومعنوياً للفلسطينيين عما خسروه على الجبهة الصينية - الإسرائيلية. اليوم، في نهاية المسافة الفاصلة بين ثورية ماو في زمن "الحرب الباردة"، وبين براغماتية جيانغ في زمن "العولمة الرأسمالية" تتجلى المفارقة الثانية في موقف الصين من القضية الفلسطينية عندما يتحول الحليف الاستراتيجي السابق الى صديق حميم للإسرائيليين فيطالبه عرفات بأن يلعب دور الوسيط بين الطرفين عن طريق منسق صيني لعملية السلام على غرار الأميركي دنيس روس. * كاتب فلسطيني، سفير سابق في جنوب شرقي آسيا.