يذكرنا تاريخ العلاقات العربية - الصينية، منذ اوائل الخمسينات من القرن العشرين، بأن الدول العربية كانت من بين الدول الاعضاء في الاممالمتحدة التي امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة على مشروع قرار تقدمت به الولاياتالمتحدة في شباط فبراير 1951، يتهم الصين الشعبية بالعدوان، ويدين تدخلها في الحرب الكورية، ولاقى هذا الموقف العربي ترحيباً في بكين في ذلك الوقت، وردت الصين الشعبية التحية بأحسن منها للعرب، عندما رفض شو إن لاي، رئيس وزرائها آنذاك، الموافقة على طلب اسرائيل والانضمام لمؤتمر التضامن الافريقي - الآسيوي الذي عقد في باندونغ سنة 1955، واعلن تأييد بلاده للحقوق العربية في فلسطين، واجتمع مع الحاج امين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا، وممثل شعب فلسطين الى المؤتمر المذكور. وتطورت العلاقات العربية - الصينية بعد ذلك، فأعترفت مصر بالصين الشعبية في 16 ايار مايو 1956، ثم تبعتها سورية واليمن في السنة نفسها، ومن المعروف ان اميركا امتنعت عن تمويل مشروع السد العالي بسبب اعتراف مصر بالصين، ما ادى ذلك الى تأميم الرئيس جمال عبدالناصر قناة السويس في 26 تموز يوليو 1956، ووقوع العدوان الثلاثي، وكان اعتراف الدول العربية بالصين تعبيراً قوياً عن تحرر السياسة العربية من نفوذ الدول الغربية. واستمرت الصين في سياستها المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني في وطنه، وكانت اول دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني في آذار مارس 1965، كما ورد في البيان المشترك الذي صدر عقب المحادثات التي اجرها رئيس منظمة التحرير في بكين حينذاك: "ويكرر الجانب الصيني تأكيد ان شعب الصين يؤيد بحزم الشعب العربي الفلسطيني في كفاحه ضد اسرائيل أداة الولاياتالمتحدة العدوانية، كما يؤيد مطلبه بالعودة الى وطنه واستعادة حقوقه كاملة في فلسطين". الى جانب ذلك ظلت الصين الشعبية الدولة الكبرى الوحيدة التي تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الامن التي لا تعترف باسرائيل، ومثل ذلك في حد ذاته مكسباً سياسياً للعرب وللقضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه اضعافاً لموقف اسرائيل على الساحة الدولية، لا سيما علاقاتها مع الدول الاسيوية. ومع ذلك لم يسع العرب الى اتباع ديبلوماسية نشطة وايجابية تجاه الصين تقوي من علاقاتهم بها في المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، ليس ذلك وحسب، بل لم يُدركوا عمق التغيرات التي وقعت في هذه الدولة عقب رحيل ماوتسي تونغ في سنة 1976، وظلت العلاقات العربية - الصينية في نطاقها الديبلوماسي والسياسي التقليدي، ولم يستخدم العرب لغة المصالح والمنافع المتبادلة التي اصبحت اكثر تأثيراً من لغة المبادئ في اتجاهات السياسة الخارجية للدول الكبرى، مثل ظل نظام عالمي جديد عماده المصالح الاقتصادية بمعناها الواسع. ولا نغالي ان قلنا ان اسرائيل ادركت اهمية الصين ودورها المقبل في العلاقات الدولية منذ زمن مبكر، فسعت الى اقامة علاقات ديبلوماسية وتجارية معها، وعلى رغم فشل المحاولات التي قامت بها على مدى ما يقرب من خمسين عاماً، الا ان الديبلوماسية الاسرائيلية لم تتوقف عن تكرار محاولاتها لتحقيق الهدف الاساسي والسياسي وهو الحصول على اعتراف الصين بها، واقامة علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية معها. فمنذ سنة 1950 على وجه التحديد، بذلت اسرائيل جهودها لاقامة علاقات مع الصين الشعبية على اي مستوى، وذلك كجزء من استراتيجيتها تجاه آسيا، واوضح موشى شاريت اول وزير خارجية لاسرائيل، والذي تولى رئاسة الوزراء في ما بعد هذه الاستراتيجية بقوله: "إننا نواجه حائطاً حقيقياً في آسيا فهم يعتبروننا سيف الغرب وأداته في الشرق ويشعرون بالعطف نحو العرب، ولكن علينا ان نبذل جهداً مضاعفاً لاجتياز هذا الحاجز وقد نفشل، الا ان نقطة البداية التي يجب ان نتخذها قاعدة هي اننا في آسيا ونحن جزء منها سواء قبلنا ذلك ام لم نقبل". واكد هذا الاتجاه ديفيد بن غوريون نفسه عندما اعلن اهمية اقامة علاقات بين إسرائيل والصين الشعبية. وفي 9 كانون الثاني يناير 1950 ارسل موشي شاريت برقية الى شو إن لاي، اعلن فيها اعتراف اسرائيل بحكومة الصين الشعبية: "إن حكومة اسرائيل قررت الاعتراف بحكومتكم حكومة شرعية للصين"، وعبر له عن تمنياته وتمنيات حكومته الطيبة لحكومة وشعب الصين، إلا ان رد شو إن لاي كان بارداً، فأرسل برقية شكره فيها ولكن من دون ان يذكر فيها اي شيء عن اعتراف الصين بإسرائيل، وعبر عن ذلك ماو تسي تونغ لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية اثناء زيارته للصين في سنة 1965، بقوله: "في عام 1949 وبعد انتصار ثورتنا مباشرة ارسلت إلينا اسرائيل تعرض الاعتراف بها ولكننا رفضنا هذا العرض لاننا علمنا ان الامة العربية كلها ضد اسرائيل.." غير ان هذا الموقف من جانب الصين لم يمنع اسرائيل من بذل جهودها المكثفة من اجل اجتياز سور الصين العظيم، وظلت تترقب بعين يقظة، وتقوم بمساعٍ مباشرة وغير مباشرة مستخدمة في ذلك كل الوسائل حتى لاحت الفرصة التاريخية التي اتاحتها لها التغيرات الداخلية والخارجية التي وضحت في سياسة الصين واستراتيجيتها عقب رحيل قادتها التاريخيين امثال ماوتسي تونغ وشو إن لاي في عام 1976، واستطاعت اسرائيل ان تجدد اتصالاتها بالصين وتقيم معها علاقات تجارية خصوصاً في مجال بيع الاسلحة المتقدمة التي تحتاج اليها الصين، ولا تستطيع ان تحصل عليها من الولاياتالمتحدة ولا من روسيا الاتحادية. وكانت ثمرة هذه الاتصالات اعتراف الصين باسرائيل في سنة 1992، هذا الاعتراف فتح ابواب الصين على مصراعيها امام التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية والعسكرية، وتوثقت العلاقات بين البلدين، وتمثل ذلك في صفقة طائرات الانذار المبكر المعروفة ب"اواكس" التي عقدتها اسرائيل مع الصين ضد رغبة حليفتها الاولى الولاياتالمتحدة الاميركية، وما الزيارة الطويلة التي قام بها رئيس الصين لاسرائيل في 12 نيسان ابريل 2000 وما تم خلالها من اتفاقات بين البلدين في مختلف المجالات، الا انعكاساً لهذه العلاقات النامية والمتطورة بين اكبر دولة آسيوية وبين اسرائيل. والعرب لم يدركوا بعد ان العلاقات الدولية تقوم على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وهم جديرون ان يتبعوا المنهج العلمي في تخطيط سياساتهم الخارجية، ويقيموا علاقاتهم مع الدول بمنطق العصر الذي يترجم الظواهر والعلاقات الى ارقام ومعادلات ولا يكتفوا بحسن النيات والمساندة المعنوية. وما زالت القاعدة التي وضعها بالمر ستون احد رؤساء الوزراء البريطانيين في القرن التاسع عشر هي اساس العلاقات الدولية، إذ قال: "ليس لنا حلفاء الى الابد او اعداء دائمون. لنا مصالح دائمة ينبغي ان نحافظ عليها". * كاتب فلسطيني.