1 ما من شاعر، عبر التاريخ، صمدت كل أعماله أمام حكم الزمن وتقلبات الحياة وثورات الذائقة الشعرية. وهناك شعراء ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في حياتهم ثم انطفأ حضورهم الشعري مع انطفاء الشعاع الأخير في أحداقهم. وآخرون كُتبت لهم القيامة بعد موتهم على رغم ركود صيتهم وخمول أصواتهم وهم على قيد الحياة. أما نزار قباني، فيظل شاعراً كبيراً لأنه مبدع كبير لا مجرّد متسلّق عواصف وعواطف. وسيظل قدر كبير من شعره الذي يُسمّى "غزليّاً"، لأن هذا الشعر مشحون بكثير من عناصر الثورة الاجتماعية وليس وقفاً على محاسن جسد المرأة ومفاتن شهوات الرجل! لشعره السياسي حكاية أخرى. فهو شعر غضب وتزق أكثر منه تعبيراً عن هاجس ذي بعد سياسي مركّب. من هنا أرى أن القليل من شعره السياسي سيظل في باب "الطرائف"، وسيبقى الكثير من شعره الممتشق، سيفاً دمشقياً غير أثريّ، في معركة تحرير المرأة وتحرير الرجل وتحرير المجتمع الآسن الممتقع بمستوى الفجيعة! 2 من شأن "الجماهيرية" أن تسيء إلى شاعر سهل ضحل. لكنها، هذه الجماهيرية، تتحول إلى عبء ومسؤولية لدى شاعر خطير مثل نزار قباني. وعلى رغم الإقرار بوقوع حبيبنا وصديقنا وشاعرنا الراحل في ورطة التكرار، فلا بدّ من الاقرار أيضاً بأنه، حتى في التكرار، حافظ على مستوى لائق بشاعر كبير في حجمه. كم ستدوم هذه الجماهيرية؟ السؤال مشروع، لكن الإجابة تظلّ ذات شطرين أولهما مقومات القصيدة النزارية القابلة للاستمرار، وثانيهما تحوّلاتنا نحن، سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً، فنياً، وفكرياً... ثمة من يقول إن مكانة الشعر برمّته معرضة للتراجع. لم يحدث هذا حتى الآن، وأنا لا أضرب بالمندل ولا استسيغ التكهنات العشوائية على رغم ميلي الشديد، ورغبتي المبررة في أن يظل الشعر ديوان العرب وفنهم الأول! 3 عند هذه القضية يتحتم علينا أن نأخذ بالحسبان أن صورة نزار قباني ليست واحدة وليست ثابتة. فينا من يراه مغامراً من طراز دون جوان، ومنّا من يعتبره فارساً شهماً مدّ بقصيدته إلى الأميرة السجينة لينتشلها من جبّ الوحوش. وفي حينه، مع بدايات نزار، لم يتورع بعض التنابلة عن اعتباره "قواداً"!! أرجو أن أكون موضوعياً على رغم الأُلفة الخاصة التي جمعتني بأبي توفيق، فإن الصورة المستقرة في وعيي لنزار قباني هي صورة شيخ الشباب الذي تحرّش بالجهل والكسل والتخلف... قدّم وردة لحبيبته في الشارع العام وعلى رؤوس الأشهاد قائلاً لها بمنتهى الصراحة والوضوح: هذه حياتنا وليست حياة هؤلاء الرابخين على كراسي القش في ظل الجدار المتصدّع! تجربة نزار قباني كانت زخّة مطر على طبيعة جامدة ميتة. من هنا بدأ الألق واستعادت الخضرة عافيتها واسترد الشباب شبابه!