أثار كلام السفير اللبنانيبواشنطن على إلزام "حزب الله" الإتفاق الذي تقره الدولة اللبنانية مع إسرائيل، في إطار ما يسمى "عملية السلام"، وكلامه على تولي القوات المسلحة اللبنانية حماية الأراضي التي تخليها إسرائيل بموجب الإتفاق نفسه، عاصفة ضئيلة في الفنجان "السياسي" المحلي والضئيل. وهذا من صفة الحال المحلي ومن أطواره المعهودة والمعروفة والسائدة. فليس الكلام الديبلوماسي الذي قاله السفير، ولا تذييله المزركش والملون بالألوان الحزب اللهية والجنبلاطية والحصية نسبة الى السيد سليم الحص، رئيس الحكومة اللبنانية، ما يستوقف التعليق والرأي. فالكلام والذيل عليه طواهما النسيان. ولكن الوقائع والأحوال التي تناولها السفير، والمنطق الذي حمله على قول ما قال، وسند الردود عليه، والباعث على إهمال المسألة وطيِّها - هذه كلها لم تُطوَ، وما زالت قائمة وفاعلة ومنتجة. وهي لا تنتج أقوالاً وردوداً وآراء وحسب، بل تنتج حوادث ووقائع وسياسات تقع أثقالها وتبعاتها علينا، نحن أهل المجتمعات الضالعة في الحرب والسلم جميعاً. ولعل وقت إدلاء السفير بأقواله، غداة تسلم السيد إيهود باراك الحكم وتسميته وزراءه، ومكان القول، واشنطن عشية زيارة رئيس الحكومة الإسرائىلية، باعثان قويان على إنكار من أنكر، وتأويل من أول. فالوقت والمكان حملا على ابتداء المفاوضة وإعلان المبادىء والمواقف. وكان السيد باراك والسيد حافظ الأسد، الرئيس السوري، ابتدءآ المفاوضة، وأعلنا مبادئها، على نحو من الأنحاء، في تصريحات صحافية "داوية" على صفحة "الحياة" الأولى، في 23 حزيران يونيو المنصرم. ولكن ما يجوز لل"كبار" يمتنع أقل منه بكثير على "الصغار" أو الضعفاء. وما ذهب اليه السفير "الصغير" - على غرار وصف إقليمي لجنرال لبناني - لم يتعدَّ البناء المنطقي والبسيط على مقدمات عامة مثل القول: إن ما يلزم الدولة يلزم كل رعاياها وجماعاتها ومن هذه وأولئك "حزب الله" أو القول: من صلاحيات السيادة وسلطاتها نشر القوى العسكرية على الأراضي الوطنية كلها لا تستثني أرض منها فلا يستثنى الجنوب المحتل ولا البقاع المحتل. فينبغي أن يكون التفكير والقول، بحسب المقدمات العامة والبدائه المشهورة والمقبولة، أصابهما الإعتلال والإلتواء، ليسوغ الطعن في استنتاج المقدمات والبدائه النتائجَ المترتبة عليها. فحَسِب أحد قادة "حزب الله" أن قول السفير إنما يفشي أسرار الدهاء العظيم والثاوي في سرائر الحزب العتيد وطويات قادته. وحمل القائد قول الديبلوماسي اللبناني على "التنازل" و"التفريط"، وهو يضمر السذاجة والغباء. فالذكاء القيادي والملهم يملي على صاحبه السكوت عن نواياه ومقاصده، وترك العدو يتخبط في حيرته و"ارتباكه" و"هيستيرياه"، على ما تصف أدبيات المنظمة الخمينية الأعمال العسكرية الإسرائيلية. فإذا سكتت "الدولة" اللبنانية، أي ما يقوم مقامها، عن أحوال الأراضي المحتلةاللبنانية، الأمنية والسياسية، حين عودتها الى سيادة الدولة - أي سكتت فعلاً وعملاً عن صفة السيادة ومترتباتها المعروفة - ذهبت السياسة السورية، وتابعها "حزب الله" واقتفت "الدولة" اللبنانية أثرها، إلى أن هذا السكوت "ورقة" سياسية بارعة، وليس انتقاصاً فادحاً من صفة الدولة والسيادة، وقرينة مهينة على القبول بهذا الانتقاص، اليوم وغداً. والحق ان هذا المنطق والإعوجاج لا ينفي كونه منطقاً رعى أعمال "حزب الله" العسكرية إلى حين قصف الطيران الحربي الاسرائىلي الجسرين الساحليين والجسر الداخلي ومحطتي تحويل الكهرباء، في ليل 24 الى 25 حزيران" وتأمل قيادة الحزب الخميني في دوام رعايته أعمال الحزب العسكرية. فهي تتوهم، صادقة أو غير صادقة، انها تضطلع بدور عسكري قائم برأسه، ولا يدين بشروطه وأثره إلا إلى أدائه وحده وقوته، مستقلاً عن الوظيفة السياسية التي أوكلت أليه، وكانت في أصل نشأته وتعهده ودوامه. وفي ضوء القصف الشديد الأذى هذا، ظهر على الملأ أن دور "حزب الله" العسكري منوط بأمرين: العلاقات السورية والإسرائيلية، ثم هشاشة البنية السياسية الداخلية وتقطع أوصالها. فما احتاجت العلاقات السورية والإسرائيلية إلى مسرح احتياطي يحول دون مجابهة عسكرية عريضة ومباشرة بين الخصمين المتحاربين، كان لبنان هذا المسرح. فإذا لم يعدم الخصمان المتحاربان وسائط حيلة ترضي كليهما، في انتظار اتفاق ثابت من بنوده "الرعاية" السورية نفسها للبنان، مال دور الأعمال العسكرية على المسرح الإحتياطي إلى الضمور. فجاز للسياسة السورية ان تنسب القصف الباهظ الثمن اللبناني إلى إرث نتانياهو. وجاز للسياسة الإسرائىلية أن تقدم، في غضون نصف ساعة من الوقت، على ما لم تقدم عليه طوال أسبوعين من القصف في نيسان أبريل 1996، من غير خشية عواقب على عودة المفاوضات المتوقعة. ووجب على "حزب الله" أن يغمد الكاتيوشا العتيدة، ويكتفي من "ردعه" و"توازن رعبه" المزعوم ببعض ماء الوجه. وحق لأصوات لبنانية، ليس صوت السيد سليم الحص أقلها شأناً، السؤال عن صواب قصف كريات شمونة في ساعات بعد الظهر من يوم 24 حزيران. أما هشاشة البنية السياسية اللبنانية فشرط لا غنى عنه لكف المحاسبة عن الأعمال العسكرية الحزب اللهية والنتائج التي ترتبها على اللبنانيين، سياسة واقتصاداً واجتماعاً. ففي وسع المنظّمة الشيعية ان تتذرّع بشرعية مقاومة المحتل، وبجدوى أعمالها العسكرية، إلى إتيان ما تشاء من الأعمال العسكرية أو ما يوحى لها إتيانه، من غير احتساب نتائج أعمالها. فكان جزاؤها على قصفها المدنيين الإسرائىليين، في نيسان 1996 - وأدى هذا القصف إلى "عناقيد الغضب"، وتكبيد لبنان عشرات الضحايا، وعشرات ملايين الدولارات خسائر، وإلى كسر استعادة لبنان بعض الإنتعاش الإقتصادي، - وتعاظم عالته السياسية - كتلة نيابية ثابتة، وافتعال الإجماع على دور "المقاومة" وعلى "وحدة المسارين". واليوم يكتب بعض المعلقين أن الإستدراج الى "عناقيد الغضب" إنما كان الداعي إليه معاقبة شمعون بيريز على دعوته إلى انتخابات مبكرة وإرجائه عقد الإتفاق الناجز مع سورية. ومثل هذين الأمرين المتصلين، أداء دور المسرح الإحتياطي والتخبط في الهشاشة السياسية، يستحيلان لولا رعايتهما رعاية حثيثة وثابتة. وشرط دوامها الحؤول دون استقرار حياة سياسية داخلية، وعلاقات سياسية، متنازعة، ميزانها من داخلها. فما يحاكي السياسة في لبنان، ويقلدها تقليداً فقيراً وبليداً، هو شعائر الإنتخابات، وطقوس تقسيم السلطات، وظاهر كثرة الآراء والجماعات. أما المثال الذي تجري عليه هذه المحاكاة فهو إجماع سابق و"محسوم"، على ما كان يقوم السيد رفيق الحريري، رئيس الحكومة اللبناني السابق، يوم كان هو ورئاسته في جملة الأمور المحسومة. وموضوع الإجماع السابق والثابت والمحسوم هو نذر لبنان، مجتمعاً ودولة، لمهمة "قومية" هي مساندة السياسة السورية على عقد سلم مع الدولة العبرية، يسع السياسة السورية قبوله من غير امتهان أو انتقاص صارخ. وتفضي المهمة هذه الى مهمة ثانية، ومتصلة بالأولى، هي مساعدة السياسة السورية على تحمل أعباء السلم الداخلية، الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. وعلى هذا، ينبغي ان "تسالم سورية بشرف"، على قول رئىسها. ويقتضي "الشرف" ان يتصور سلمها في صورة الإنتصار الساحق على الصهيونية، والهزيمة الساحقة لجيشها. وفي سبيل تحقيق هذه الصورة، أي في سبيل جعلها حقيقة فاعلة، معنوياً ورمزياً، ينبغي تحويل لبنان، دولة ومجتمعاً، إلى صورة تمثِّل على الإنتصار العربي والهزيمة الصهيونية، وينبغي ان يقتصر لبنان على هذا التمثيل. ويضطلع "حزب الله" بدور مركزي في تخفيف الدولة والمجتمع اللبنانيين من كل مادة وقوام ذاتيين وحقيقيين، وفي قصر لبنان على التشبيه والتمثيل والكناية. فهو يتولى، من طريق الإعلام في المرتبة الأولى، إدارة العالم، وأخباره وحوادثه، على إنجازاته العسكرية الخالصة والمجردة. ويرضى الإعلام، شاكراً، ببث هذه الصورة التي يبنيها "حزب الله" وينشئها عن نفسه ودوره، وتوجبها له السياسة التي تستثمر نفوذها وسطوتها فيه. فينسى الإعلام أن المنظمة الشيعية، العسكرية والأمنية، ما كان لها ان تختصر لبنان واللبنانيين لولا عمل الإختصار والتلخيص، السياسي والعسكري، الذي سبق، وملأ سنوات "الحرب الأهلية" المزعومة، وسنوات "السلم الاهلي" من بعدها. فإنما يسع المنظمة الشيعية والخمينية، اليوم، أن تقاتل على هواها، وتجر على لبنان ما شاءت من النتائج والكوارث، وان تتخذ من هواها سياسة "وطنية" و"جامعة"، لأن الجماعات السياسية المخالفة، على أنواعها ومختلفها، أسكتت، أو قيدت، أو أبعدت، أو ألحقت واستتبعت. فبعد إقصاء السيد الجنرال ميشال عون، وتقويض "القوات اللبنانية" وتتفيه حزب الكتائب، ودخول بكركي الدائرة الرئاسية، وتدجين "المؤسسة اللبنانية للإرسال"، وتهميش السيد كامل الأسعد والسيد تمام صائب سلام، وتنصيب دار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى دائرتين دعاويتين، وغيرها من اجراءات الإختصار والتلخيص، لم يبق مكافىء يلجم جموح التخييل والتوهم والتشبيه بلجام الوقائع وموازين القوى واحتساب نتائج الأفعال. فالواحد، فرداً أو جماعة، موكول به الوهم، على زعم ابن المقفع، فكيف إذا نصب هذا الواحد حاكماً من غير مدافع في مصائر مجتمع برمته، ومن غير حسيب ولا رقيب. وكان من الجائز تصور مقاومة لبنانية للإحتلال الإسرائيلي تجمع بين إيقاع الخسائر في قواته وبين رعاية هيئة سياسية لبنانية مركبة، تقوم من العمل العسكري مقام "مبدأ الواقع". فلا يترك البت في السياسة الوطنية كلها، قتالاً اجتماعاً وتأليفاً، لقلة قليلة لا تملك أمر نفسها، ولا تمتنع عن ركوب هواها واتخاذه إلهاً. ومثل هذه القلة، وهذه حالها، "تؤدب" أي تحمل على التماس الوقائع وموازينها، من طريق وحيدة هي القوة المدمرة. ولا يبعد ان يكون "التأديب"، على مثال القصف المؤذي، علامة على طريق العودة الى بعض احتساب الوقائع، وخطوة على هذه الطريق. وليس هذا الحسبان تخميناً مرسلاً: فإذا بطل التماس الحقائق والوقائع من طريق كثرة الجماعات السياسية، ومنازعاتها، وتقييد بعضها بعضاً، التمست من طريق القوة والمراوغة. * كاتب لبناني.