1 عبقٌ مَا كان يأخذُني وأنا أحْمل تعباً في باريس. بين "معهد العالم العربي" وبين مكتبات ومواعيد. تعبٌ على تعب. هل هناك ما يمكن أن يحْمينا من تعب يطولُ. يتمطّط. يتعدّدُ؟ لا وقتَ حتّى لسؤال كهذا. آلةٌ عمياءُ أيامُنا. وما نعتقد أنّهُ ذهب. يعودُ. بشكل لا تنْسَى معَهُ ما كنتَ هارباً منهُ. ليْلاَتٌ ونهاراتٌ تتوافدُ تباعاً كأنها طبقاتُ عذَاب. وأنتَ تنظُر الى جهةٍ لا تراكَ. حيثُ جسدٌ قريبٌ يجهلُك. ولي أنْ استنشقَ هذَا العبق. جالساً على كرسيٍّ في مقهى محاذية للأُوبّيرَا. قاسم حدّاد يفهم تعبي. واسعاً أو مطمُوراً. وكُلّ مرّةٍ أتردّدُ في العودةِ الى السّيْر. أو حتّى الكلام. عليّ أن أخلص للوفَاءِ. ولوْ صامتاً. فالصمتُ أفْضلُ منْ غضبٍ أنْفُر منْه. واللّيْلُ قادمٌ. والنهارُ أيضاً. هذا يوْمٌ من عمر اسْمُه التعب. لو شئتُ أن أتخلّص منْهُ لما أحْسَنْتُ. قريبٌ من تعبي. أتأمّلُ في أعضاء لم تعُدْ تُطيقُ. وفي الصراخ حُبْسَةٌ. حبْسَتُك. لكن الجميلَ يفاجىءُ. بيْن الفينة والفينة. صمتٌ وهواءٌ يخترق الأدلةَ والعلاماتِ والإشارات. في شارع واحد. هذه الخلائقُ التي اختلطتْ لغاتُها كما اختلطتْ سُحْناتُ وجوهٍ. أرضُكَ تجْرِي. بالعُنْفِ ذاتهِ الذي تنشأُ في أشكالهِ مصائرُ. تعلّمْ كيفَ تختطفُ هذَا الجميلَ. مفاجئاً. في قبْوٍ. أو في فسحةِ صمْتٍ. عندما، تكون في الوحدةِ ملتقيّاً بآخركِ الذي تجهلهُ. وفي لحظةِ اغترابٍ يلمعُ. باعثاً بكلمةٍ. هي ما كنتَ تسودُّ أنْ تلمسَهُ. مختفياً فيك عن نفسِك. 2 للجميلِ، العبَقِ. اسمُ الجنُوب. أوْ بدقّة أكبر. جنوبُ الجنُوب. التماعةٌ. وأنا أحاولُ أنْ أرفَعْ ظهْرِي. لاَ إِلى عُلُوٍّ بل الى استواءٍ. كُهولةٌ تضغطُ على كتفيْن. هل أنا كهْلٌ إِلى هذا الحد؟ وفي الجوابِ كلمةُ الجنُوب. لستُ أدري من أيّن التمعتِ الكلمة. لكنها هي ما تبقى منْ جواب على ما لَمْ تَسْتَسْلِمْ له العبارةُ. جنُوبُ الجنُوب في المغرب. كانت الكلمةُ كافيةٌ لأُحِسّ بالظّهْر مُسْتوياً. أمَامي. إنْ شئتُ أنْ أعْبث بالصّور قلتُ. كلمةٌ تخرجُ مِنْ أضلاعِكَ. نبْعٌ يتدفّقُ في انحناءٍ. ولكَ الجنُوب. الذي لازمَكَ منذُ أن قرأْت عن الأمكنةِ التي تعيدُ خلْقَ الأزمنة. أقصد أمكنةً كانتْ خالقةً للماضي. أهْلُ الجنُوب قادمونَ. مغيرينَ. أحياناً. فاتحينَ. ومُنْشدينَ. منْ جنُوب الجنُوب. سلاسلُ جبليّةٌ. وصَحْراءُ. وفي المقدمةِ حُلْمُ إعادةِ بداية الزمن. مُتسعاً إِلى قُرون. لذلكَ ردّدْتُ الكلمةَ على نفْسي. وأنَا واثقٌ منَ الالتماعةِ. في صمْتِ تعبٍ. وليلةٍ بعْدَ ليْلةٍ. أريدُ هذَا الجنوب. هناك تنهضُ طبيعةٌ لافتتاحِ نشيدِ الجمال. مرتفعاتُ الأغاني وشساعةُ الصّمْت. لمْ أهجُمْ يوماً علَى الجنُوب. بلْ. هُو الذي كان هجمَ عليَّ. في تعبٍ مماثلٍ. وفي قرَفٍ منْ حياةٍ تستبدُّ فيهَا الآلةُ كمَا ينتصِرُ الشائب. وفي الجنُوب صفاءُ الصّمْت. تلكَ هي الطريقُ إِلى الجنوب المغربي. الذي يبدأُ عندمَا تشرعُ في مغادرة مرّاكش أو أغادير. عتبتانِ لإعْلانِ الجنُوب. مسافة صغيرةٌ. ثُمّ لا توقف بعْدُ. ارْفَع رأْسَكَ كُلّهُ وهَبْ عيْنيْكَ صُعوداً نحْوَ ما ينشئُه الجنُوبُ. في جسدِك. عيْنَان منفلتتانِ باتجاه ما يعْلُو. صخْراً وسماءً. نباتاً وماءً. عُلوٌ واضِحٌ. وأنْتَ لا تدْري ممَّ أنْتَ قريب. 3 جهتي "تَلوينْ". قريةٌ في أحضان الأطلس الصغير. والطريقُ تتطلّبُ عُبور الأطلسِ الكبير. منْ مُراكُش إِلى "تَارُودانْتْ". هذا المرتفعُ الجبليُّ الذي اختار المهديُّ بْنُ تومَرْت أن يُقيمَ فيه مع أصْحَابهِ. أنْ يتهيّأَ ويتأمّلَ. أن يستظهِر قصائدَ المتنبّي. منْ أجْلِ تحقيقِ حُلْمِ المتنبّي. على يَدِ عالمٍ. مُحاربٍ بربريّ. مقترضاً دولةَ المرابطين. ورافعاً أعلامَ دولةٍ جديدة. هي دولة الموحّدين. في هذا المرتفع. موْقِعُ "تينْمَلْ". مَدْرسةُ المهدي بن تُومَرْت. لم أكُنْ من قبْلُ رأيْتُ "تينْمَلْ". لكنّني. هذه المرّة. دخلْتُ أطلالَ المدرسة. بعْدَ أنْ تمّ ترميمُهَا. وقفتُ على أقواسٍ وسُقُوفٍ ومحراب. على بقايا النقُوشِ وعلى بقايا صومعة وهواء وفي ركن من الصحن سمعتُ صوتاً يقول: "أنا أعزُّ ما يُطلَب". ظننتُ المتنبِّي جالساً في وسط الصّحْنِ والماءَ من ديوانه ينبعُ. حتّى أدْركني بيتٌ وبيتٌ. سلّمْتُ عليْهِ. وتركتُ يدي بين يديْه. لم أفرقْ بين جمال هذه السّلْسلَة الجبليّة. بين صعوبة الاختراقِ وبين جمال ديوان أبي الطيب المتنبي. واختراقه. أعمال خاصة تواردت عليّ. الكوميديا للإلهية. دُون كيخوته. الفتوحات المكية. ديوان أبي تمّام. ديوان رامْبُو. موصولاً بديوان هلدرلين. اختراقُ الأطلسِ الكبير هو ذاته فعْلُ قراءةِ أعمال إبداعيةٍ كُبْرى. منْ لاَوْتْسُو إِلى ملارْمِي. صخرٌ يسكنُه ضوءٌ له كثافةُ الابداع. 4 تلك هي الطريقُ الى "تالوين" اسم له في الأمازيغية معانٍ عدّة من بينها "الجداول". سترى جبلاً راقصاً جنْبَ جبَل. ستَرى جبلاً ينامُ في حضْنِ جبل. وفي الوادي "نهْرُ سُوس". باخضرارٍ لا يتوقّف. قادماً مِنْ وراء جبل "سِرْوَى". ماضياً في طريقٍ. تتجمّعُ في مكانٍ منه بيوتٌ من الطين الأحْمَر. فقيرةٌ كما أنْتَ تشاهدُهَا. أطفالٌ ونساءٌ. على الطريق. هذا مكانٌ تُبْدِعُ فيه روحٌ نافخةٌ صمت أبديةٍ. أبديتي. خُذْ من الزادِ القليلَ واتْبعْ جلالة الصّمْت. جبالٌ حجريّة هيّأتها البراكينُ منذ عهود لا نتذكّرْهَا إلا مِنْ تكوين حصاةٍ أو انشطار صخرة. خطوةً فخطوةً تصْعَدُ المكان. كما لو كنتَ تصعدُ الى قرارة نفْسِك. الى حرية أن تتوهَ حتّى اللانهاية. أفُقٌ يُخفِي أُفُقاً. وكلماتُكَ تلْعَبُ مع أشياءِ المسْتَحيل. صعودٌ معَهُ ترتفِعُ طيوبُ النبات والأعشاب. وأعجزُ عن تسميةِ كُلّ ما يتبادرُ إِلى عيْني. أبجديةُ هَذا المكانِ. صخورٌ ونتوءات. تكسُّر الأحْجارِ يزيد من ارتفاع الجبل. وفي السماء سحب ستمطر بغتة. ثمة هواءٌ باردٌ وبُخارٌ. رماديٌّ مخلوطٌ بكُتَلٍ منَ الفِضّيّ. ينخفِضُ البُخَارُ. وفي الأسْفَل ينتشِرُ الظلُّ. ينتشر ويمتدّ. بارداً. هذَا الهواءُ. السّحَاب.