Amerique Latine - Introduction a' L'Extreme Occident. اميركا اللاتينية: مدخل الى الغرب الاقصى. Seuil, Paris. 1999. 492 Pages. هل اميركا اللاتينية لاتينية؟ ان الفاعلة الاولى لشبه القارة الاميركية اللاتينية تاريخاً وثقافة، ونعني اسبانيا، ترفض هذا التوصيف. فهي لا تتكلم الا عن "اميركا الاسبانية"، وفي احسن الاحوال عن "اميركا الايبرية"، وذلك كيما تشمل هذه التسمية البرازيل الناطقة بالبرتغالية دون سائر امم اميركا اللاتينية الناطقة جميعها خلا هايتي بالاسبانية. والواقع ان تسمية اميركا باللاتينية ليست تسمية ثقافية او لغوية كما قد يوحي هذا التعبير، بل هي في المقام الاول تسمية سياسية. فهذه التسمية لم ترَ النور الا في اواسط القرن التاسع عشر، وكان اول من اطلقها السان - سيمونيون من حاشية الامبراطور نابليون الثالث الذي كان يحلم بإعادة تجميع الممتلكات الاميركية القديمة لإسبانيا والبرتغال تحت الزعامة الفرنسية لمواجهة الصعود الذي لا يقهر لقوة الولاياتالمتحدة الاميركية. ورغم فشل هذه الاستراتيجية الفرنسية ورغم معارضة اسبانياوالولاياتالمتحدة معاً، فقد درجت التسمية وشاعت وعبرت الاطلسي لتحظى بحق المواطنة في اميركا اللاتينية لأن سكانها من الناطقين بالاسبانية والبرتغالية وجدوا فيها ما يعزّز هويتهم الخاصة وما يؤكد استقلالهم عن الام المتروبولية كما عن الجارة الاميركية الشمالية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه للحال: هل سكان اميركا اللاتينية، الذين يبلغ تعدادهم اليوم قرابة النصف مليار نسمة ويتوزعون على ثلاث وثلاثين دولة مستقلة، هم فعلاً لاتينيون؟ الواقع ان شبه القارة الاميركية اللاتينية هي اكبر بوتقة من نوعها في العالم للتمازج الخلاسي. فسكانها الخمسمئة مليون ينقسمون الى ثلاث مجموعات بحسب التنميط المشهور للعالم الانتروبولوجي البرازيلي دارتي ريبويرو: الشعوب الشاهدة والشعوب المستوطنة والشعوب الجديدة، فالشعوب الشاهدة هي البقايا الاميركية الهندية او الآندينية من حضارات شبه القارة السابقة على الفتح الاسباني: الأزتيك والمايا والإنكا. واكثر انتشار هذه الشعوب في البلدان التي لا تزال تضم غالبية او اقلية ذات وزن من السكان الاصليين، مثل البيرو وبوليفيا والاكوادور وغواتيمالا التي يتألف 50 في المئة من سكانها منهم، او نيكاراغوا والسلفادور اللتين تبلغ فيهما نسبتهم نحواً من 20 في المئة، او المكسيك الذي لا يزال 15 من المئة من سكانها يتكلمون بلغات هندية. اما الشعوب المستوطنة فتمثل "الوجه الابيض" لاميركا اللاتينية، وتتألف من المهاجرين الاوروبيي الاصل الذين حلوا محل من تم استئصال شأفتهم من السكان الاصليين. واكثر انتشارهم في اراضي الاستيطان الجديد، على الطريقة اليانكية في اميركا الشمالية او النيوزيلاندية في استراليا، لا سيما في الاوروغواي والارجنتين التي كان سكانها لا يزالون يفخرون الى عهد قريب بأن بلدهم هو البلد "الابيض" الوحيد في جنوب القارة، مثله مثل كندا في شمالها. اما الشعوب الجديدة، ثالثاً، فهي الحصيلة الديموغرافية للتمازج الخلاسي البيولوجي والثقافي، وهي تتوطن بوجه خاص في البرازيلوفنزويلا وكولومبيا والتشيلي وجزر الآنتيل، وتمثل "اميركا الحقيقية" او "العرق الكوني" الذي طالما تغنّى به شعراء اميركا اللاتينية وكتّابها من امثال غارسيا ماركيز وميغيل استورياس وخوسيه فاسكونسيلوس. الى هذه البنية الديموغرافية الثلاثية لأميركا اللاتينية ينبغي ان نضيف بنية مورفولوجية ثلاثية هي الاخرى: فأميركا اللاتينية هي، اولاً، قارة عمالقة وأقزام. نقول هنا "قارة" وليس فقط "شبه قارة"، لأن اجمالي مساحتها يبلغ 5،20 مليون كم2، اي ضعف مساحة القارة الاوروبية التي لا تزيد على 10 ملايين كلم مربع. وهذه القارة، التي تضم 33 بلداً، تنقسم انقساماً حاداً الى جمهوريات كبرى وجمهوريات صغرى. فالبرازيل بالمئة والخمسة والستين مليوناً من سكانها، تمتد وحدها على مساحة 8.5 مليون كلم مربع، اي ما يعادل 35 ضعف مساحة بريطانيا العظمى، او 19 ضعف مساحة الدولة المتروبولية الام: البرتغال. وتليها في الضخامة الارجنتين: 2.8 مليون كلم مربع بالمساحة، و37 مليون نسمة بالسكان. والواقع ان المكانة الثانية كانت تعود الى المكسيك. فهذه اذ يناهز تعداد سكانها المئة مليون، فان مساحتها الاصلية كانت تصل الى 4 ملايين كلم مربع، لكنها تقلصت الى اقل من 2 مليون كلم مربع، بعد ان خاضت حربها الخاسرة ضد الولاياتالمتحدة وفقدت على التوالي لصالح هذه الاخيرة ولاية تكساس عام 1836، ثم ولايتي كاليفورنيا العليا ونيومكيسكو عامي 1846 و1848. ويلي هؤلاء العمالقة الثلاثة عمالقة ثلاثة آخرون تتراوح مساحة كل واحد منهم ما بين المليون والمليون والثلث من الكيلومترات المربعة، وهم على التوالي: البيرو: 26 مليون نسمة وكولومبيا 38 مليون نسمة وبوليفيا 9 ملايين نسمة. والى هؤلاء ينبغي ان نضيف فنزويلا التي تقل مساحتها عن مليون كلم مربع ويرتفع تعداد سكانها الى 24 مليون نسمة، والتشيلي التي تصل مساحتها الى ثلاثة ارباع المليون كلم مربع، وسكانها الى 16 مليون نسمة. لكن مقابل هذه الدول الثماني المتعملقة تطالعنا مجموعة من سبع دول متوسطة الحجم تتراوح مساحتها ما بين 400 و100 الف كلم مربع، وهي على التوالي الباراغواي 6 ملايين نسمة، والاكوادور 13 مليون نسمة والاوروغواي 4 ملايين نسمة ونيكاراغوا 6 ملايين نسمة، والهندوراس 7 ملايين نسمة وكوبا 13 مليون نسمة، وغواتيمالا 12 مليون نسمة. ثم مجموعة من ثماني دول صغيرة الحجم تشمل كوستاريكا وهايتي والسلفادور وبيليز وجامايكا والباهاماس، ولا تزيد مساحة كبراها - وهي باناما 3 ملايين نسمة على 77 الف كلم مربع، وتقل مساحة صغراها - وهي بورتوريكو 4 ملايين نسمة - عن تسعة آلاف كلم مربع. وتأتي في آخر القائمة مجموعة من 10 دول صغرى، قابلة للوصف بأنها قزمة سواء من حيث مساحتها ام تعداد سكانها، وهي تتموقع جميعها في جزر الآنتيل، ولا تزيد مساحة كبراها، وهي ترينيداد، عن خمسة آلاف كلم مربع مليون ونصف المليون من السكان، ولا تتجاز مساحة صغراها، وهي كايمان، 195 كلم مربع، مثلما لا يزيد تعداد سكانها على 35 الف نسمة. ثانياً، ان اميركا اللاتينية هي قارة اغنياء وفقراء. بل هي قارة اغنياء عظيمي الغنى وفقراء شديدي الفقر. فهي، بين سائر مناطق العالم، المنطقة التي تسجل اعلى النسب في التفاوت الاجتماعي والاختلاف في المداخيل. ففي المكسيك ارتفع عدد اصحاب المليارات من الدولارات من 2 عام 1988 الى 24 عام 1994، ولكن في الفترة نفسها بات 60 في المئة من المكسيكيين يعيشون تحت عتبة الفقر، و20 في المئة في حالة فقر مطلق، كما انخفضت في الفترة نفسها القوة الشرائية للاجور بنسبة 80 في المئة. وفي البرازيل، التي هي بمثابة قارة داخل القارة، يأخذ التفاوت في الدخول والثروات شكله الأصرخ. ف20 في المئة من اغنى البرازيليين يحتكرون 60 في المئة من الثروة القومية، و20 في المئة من افقر البرازيليين لا تجاوز حصتهم من الدخل القومي 2 في المئة. والتفاوت الصارخ قائم ليس فقط بين طبقات البرازيليين، بل كذلك بين مناطق البرازيل. فالمثلث الصناعي في الوسط الجنوبي من البرازيل الذي لا تزيد مساحته على واحد في المئة من البلاد، يحتكر 63 في المئة من الدخل القومي. وعلى حين ان 32 مليوناً من البرازيليين يرتفع مدخولهم السنوي في هذا المثلث الى 18 الف دولار سنوياً، فان 40 مليوناً من البرازيليين الذين يعيشون في الشمال الشرقي ينخفض مدخولهم السنوي الى اقل من الف واحد من الدولارات. واجمالاً فان عدد الاميركيين اللاتينيين الذين يعيشون تحت عتبة الفقر يرتفع الى 166 مليون نسمة، اي 35 في المئة من جملة السكان. كما ان عدد الذين يعيشون في حالة فقر مطلق يصل الى 84 مليوناً، اي ما يعادل 19 في المئة من اجمالي السكان. واذا كان متوسط الدخل القومي للفرد يتراوح في مجمل شبه القارة حول 3310 دولارات، فانه يرتفع في بعض بلدانها الى عشرين ضعفه في بعض بلدانها الأخرى. فدخل الفرد السنوي في الباهاماس يصل الى اكثر من 18000 دولار لكنه ينخفض في هايتي الى اقل من 900 دولار في السنة. واجمالاً فان اميركا اللاتينية تتوزع من منظور الدخل القومي الى ثلاث مناطق: البلدان التي يجاوز دخل الفرد فيها 6000 دولار في السنة، وهي التشيلي والارجنتينوفنزويلا والاوروغواي وباناما والمكسيك، والبلدان التي يتراوح دخل الفرد فيها بين 4000 و6000 دولار، وهي البرازيل وكولومبيا والاكوادور وكوستاريكا وبيليز، والبلدان التي يتراوح الدخل الفردي فيها بين 2000 و4000 دولار، وهي البيرو وبوليفيا والباراغواي والسلفادور وغواتيمالا، والبلدان التي يتدنى دخل الفرد فيها الى اقل من 2000 دولار، وهي الهندوراس ونيكاراغوا وهايتي التي تحتل مكانها في عداد البلدان الاكثر فقراً في العالم. ثالثاً، ان اميركا اللاتينية هي في آن معاً المنطقة الاكثر تمديناً والاكثر تريّفاً في العالم. فهي قارة ناطحات السحاب ومدن الصفيح في وقت واحد. بعض مدنها هي الاضخم في العالم: مكسيكو 24 مليون نسمة وساو باولو 21 مليون نسمة. لكن اذا كان 22 في المئة من سكان اميركا اللاتينية يعيشون في مدن يتجاوز تعداد ساكنيها اربعة ملايين نسمة، فان 32 في المئة من سكانها يعيشون في مدن صفيح. وظاهرة توسع مدن الصفيح هي، مع تعملق المدن المتروبولية، الظاهرة الاكثر لفتاً للنظر في اميركا اللاتينية. ففي ليما، عاصمة البيرو، كان 9 في المئة فقط من السكان يعيشون في احياء الصفيح عام 1957، فارتفعت نسبتهم الى 21 في المئة عام 1961، والى 35 في المئة عام 1984. وفي ريو دي جانيرو، عاصمة البرازيل القديمة، كان 170 ألف شخص يعيشون في احياء الصفيح عام 1950، فتضاعفوا خمس عشرة مرة ليبلغ تعدادهم 2.5 مليون نسمة عام 1990. وعلى هذا النحو تقدم المدن الاميركية اللاتينية العملاقة مشهداً متفارقاً لاحياء غنية مفرطة في حداثتها ولأحياء فقيرة مفرطة في تريّفها. وفي الوقت الذي تبرز فيه ساو باولو بمخابرها الصيدلانية الاكثر حداثة في العالم، فان طريقة الحياة في احياء الصفيح تكاد تكون قروسطية. وعلاوة على ذلك تعيش في جوارها المباشر جماعات اصلية لا تزال متوقفة في تطورها الحضاري عند العصر الحجري. وهذا ما حمل هنري كيسينجر، وزير خارجية الولاياتالمتحدة الاسبق الذي انتهى فيلسوفاً للحضارة، على ان يقول بقدر غير قليل من المجون: ان اميركا اللاتينية تعيش في الجغرافيا، لكنها لا تعيش في التاريخ.