تمر غداً الذكرى الاولى لانتخاب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في اقتراع ميّزه انسحاب المرشحين المنافسين بسبب ما وصفوه ب"التزوير المسبق". وتثير الحصيلة السنوية لحكم بوتفليقة تساؤلات جدية، سواء في اوساط الرئاسة لدى خصومه، بسبب صعوبة تقدير الوضع من جراء غياب ارقام جدية. وثمة اجماع بين المراقبين ان اختصار مسار سنة من حكم بوتفليقة يفرض بالضرورة تناول عدد من الملفات التي ميّزت الوضع السياسي الجزائري بمختلف تناقضاته. يدرك بوتفليقة، كغيره من الجزائريين ان الجيش هو الذي أتى به الى الحكم. كما يجهل كثيرون ان الرئيس السابق اليمين زروال عارض ترشيح قيادة الجيش لبوتفليقة من دون ان يبدي نية لدعم مرشح آخر. ولأن بوتفليقة المبعد عن الحكم لأكثر من 20 سنة، لم ينسَ رفض ضباط المؤسسة العسكرية لترشيحه للرئاسة خلفاً للرئيس الراحل هواري بومدين، مفضلين العقيد الشاذلي بن جديد الذي تولى اواخر حكم بومدين منصب المنسق العام للمخابرات العسكرية. وكانت بداية خطوات بوتفليقة لوضع حد لهيمنة المؤسسة العسكرية على الحكم اطلاق تصريحات غير مباشرة في "منتدى كرانس مونتانا" السويسري حيث وصف الغاء المسار الانتخابي في 1992 ب"العنف" وهو ما اثار آنذاك حفيظة مسؤولين نافذين في المؤسسة العسكرية الذين حذّروا من خطر مثل هذه التصريحات على "معنويات" ضباط المؤسسة الذين واجهوا الارهاب لسنوات عدة. وفي خطوة ثانية عمد الرئيس الجزائري الى طلب مساعدة الشعب ضد قادة الجيش الذين وصفهم ب"القطط والاسود" في تجمع شعبي عقده في مدينة تيبازة 43 كلم غرب العاصمة لمناسبة الاستفتاء على مسعى الوئام المدني، ليرفع بعد ذلك من حدة تصريحاته حينما طلب من الشعب في تجمع في تيزي وزو 110 كلم شرق بالتعاون معه لوقف الفساد في التجارة الخارجية معلناً ان عدد الذين يحتكرونها لا يتعدون 17 شخصاً، في اشارة الى جنرالات الجيش. وصعّد من لهجته ضد هؤلاء وطالب بتركه يعمل بحرية مهدداً بالتنحي من الحكم في 13 كانون الثاني يناير الماضي مع انتهاء أجال قانون الوئام المدني. وذهب بعيداً في لهجته الى حد تأكيد وجود رشوى في المؤسسة العسكرية و"سراق" الامر الذي فتح جبهة جديدة بينه وبين خصومه في المؤسسة العسكرية. وفي خطوة ثالثة توجه بوتفليقة الى المجتمع الدولي طالباً يد المساعدة ضد الجيش من خلال ما عرف ببرقية وكالة "رويترز" التي ضمنها تصريحاً واضحاً بأن الجيش رفض الحكومة الاولى التي شكّلها، وهي الحقيقة التي اكدتها مصادر متطابقة لاحقاً، بسبب الخلاف على حصة الاحزاب التي دعمته في الرئاسة من الحقائب الوزارية. ولتحسين موقعه الخارجي عمد بوتفليقة الى ربط سلسلة من الاتصالات مع دوائر القرار في ابرز العواصم الكبرى من خلال ما عرفوا ب"موفدي الظل" او "الديبلوماسية الموازية" فهو اوفد الجنرال المتقاعد العربي بلخير والراحل رابح بيطاط الى عدد من العواصم، طالباً الدعم لاحلال السلام في البلاد. ويبدو واضحاً ان رهان بوتفليقة على الضغط الخارجي على ضباط الجيش كان يهدف في النهاية الى تمكينه من التحكم في مختلف اوراق الازمة. وعلى ما يبدو فضّل بوتفليقة، في صراعه مع قيادة الجيش، الاستغناء عن ثلاثة اجهزة حيوية في تحديد موازين اي صراع، وهي الصحافة المستقلة، والاحزاب السياسية والمؤسسات المنتخبة، اذ تخلى عنها وفضّل دخول المواجهة "الخطرة" وحده بشكل اثر سلباً على نفوذه في الشارع الجزائري الذي لم يعد يولي اهمية بالغة لتصريحاته. وقد أثر هذا الصراع المفتوح على انسجام الساحة السياسية التي باتت تتحرك في الكثير من الاحيان على ايقاعه مثلما برز ذلك بوضوح في الجدال بين وزير الدفاع السابق اللواء خالد نزار والرئيس السابق علي كافي قبل ان يمتد الى فعاليات اخرى مثل الجنرال محمد عطايلية ورئيس الحكومة السابق احمد غزالي. وتثير الحصيلة السنوية لبوتفليقة في المجال الامني الكثير من التساؤلات امام تباين واضح في التقديرات. وعلى رغم ان بوتفليقة جعل اولوية اهتماماته وضع حد للنزيف الدموي الذي تعرفه البلاد منذ سنوات والذي ادى الى حصيلة توصف بالكارثية 100 ألف قتيل و20 بليون دولار خسائر مسّت المنشآت والهياكل العمومية. فمنذ توليه كرسي قصر المرادية تعهد بوتفليقة بوضع حد للاقتتال من خلال تبني سياسة الوئام المدني والتي تنطلق من فكرة وضع اطار قانوني للاتفاق الحاصل بين قيادة الجيش وجماعة "جيش الانقاذ" في 11 تموز يوليو 1997. وبمجرد اعلان القانون الجديد فضّل بوتفليقة الاحتكام الى الشعب، وكان الاستفتاء في 16 ايلول سبتمبر الذي هبّ الى دعمه مختلف فرقاء الساحة السياسية سواء في الداخل او الخارج. ولم يكن لجوء بوتفليقة الى الاستفتاء، كما اتضح لاحقاً الا لتبرير قرار العفو الشامل عن عناصر "الجيش الاسلامي للانقاذ" والذي كان يُطبخ على نار هادئة في رئاسة الجمهورية وهو القرار الذي اعطى نفساً جديداً لمسعى الوئام المدني. واذا كانت الاحزاب المعارضة لمسعى الوئام مثل الحركة الديموقراطية الاجتماعية، ترى في القانون تنازلاً لمصلحة "القوى الاصولية الظلامية" فان اوساطاً قريبة من بوتفليقة رأت فيه تكتيكاً سياسياً مكّن الجزائر من وقف خطر 6 آلاف عنصر مسلح واسترجاع نحو 4500 قطعة سلاح. وامام هذا الاختلاف في تقدير الوضع يفضل عدد من المتابعين للشؤون الامنية الاحتكام الى الواقع الميداني وما عرفه من تطورات في الاشهر الماضية حيث تبرز بوضوح حقيقتان اساسيتان: 1 - استمرار الاعمال الارهابية في المناطق نفسها التي كانت تعرف نشاطاً مستمراً للجماعات المسلحة، مع ملاحظة اساسية وهي توجهها نحو الجنوب. واستهداف رجال الامن واعوانه. كما تؤكد هذه العمليات حاجة الجماعات المسلحة الى تحقيق صدى اعلامي من خلال تركيز العمليات التي تسقط اكبر عدد من الضحايا، خصوصاً عبر تلك التي تستهدف عائلات مربي المواشي وفي المناطق النائية. 2 - تأثر الجماعات المسلحة بانسحاب اكثر من 1300 عنصر من "الجماعة الاسلامية المسلحة" التي يقودها عنتر الزوابري ونحو 500 عنصر من "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" التي يقودها حسان حطاب الأمر، الذي أربك البنى الداخلية لهذه الجماعات. كما نقل عن عدد من عناصر الجماعات التائبة والتي أشارت إلى قيام قيادات بعض التنظيمات إلى إعدام سرايا بكاملها. كما تم اكتشاف ذلك في منطقة عمال في الأخضرية حيث اكتشف أخيراً مخبأ ضم أكثر من 25 عنصراً من "الجماعة السلفية" تمت ابادتهم بعد بروز أنباء عن محاولات للاستفادة من قانون الوئام المدني. ولهذا ظل بوتفليقة يتردد في كيفية التعامل مع الجماعات المسلحة بعد 13 كانون الثاني يناير الماضي، تاريخ انتهاء العمل بقانون الوئام المدني، فقد تعهد ببدء معركة "سيف الحجاج" ضد معاقل الجماعات المسلحة، لكن سرعان ما تخلى عن الفكرة بعد أيام من عملية الرمكة في غليزان والتي زجت فيها قوات كثيرة وامكانات كبيرة لتجريب "العمليات المركزة". وأمام تصريحات الجنرال عطايلية الداعية إلى ضرورة العفو عن الجماعات المسلحة كخيار أساسي لوضع حد للنزيف الدموي، يتساءل كثيرون عن امكان إقدام بوتفليقة على اتخاذ القرار الذي يوصف ب"الخطير" والمهدد ل"الأمن والاستقرار الداخلي". وأثبتت تجربة الوئام المدني ان الرئيس الجزائري يريد الوصول إلى أهدافه عبر القرارات التي "تطبخ على نار هادئة"، ولا أحد يستطيع اليوم ان ينفي امكان عفو رئاسي عن الجماعات المسلحة على رغم تعارض ذلك مع الدستور وقوانين الجمهورية، خصوصاً أن الاتصالات مع الجماعات المسلحة مستمرة، وان قانون الوئام المدني حدد بشكل غير مباشر، بحسب تصريحات بوتفليقة. وإذا كان خصوم بوتفليقة يرون في حصيلة السنة الأولى من رئاسته مجرد تنفيذ لقرارات "كانت جاهزة" أعدتها قيادة الجيش قبل سنتين، مثل قانون العفو عن عناصر "الجيش الإسلامي للإنقاذ"، والعفو عن مليون شاب من أداء الخدمة الوطنية، والتغييرات في هرم المؤسسة العسكرية، فإن أنصار الرئيس يرفضون مثل هذا الطرح، وتؤكد مصادر قريبة من بوتفليقة ان هذه القوانين لم تكن على الصورة التي أعلنها، فهي لم تكن تشمل في صيغتها الأولى العفو عن عناصر الجماعات الإسلامية المسلحة الأخرى سواء التي تنشط تحت لواء الزوابري أو حطاب. وتشدد هذه المصادر على انجازات الرئيس من خلال ذهابه بعيداً في صوغ فلسفة الوئام المدني ليشمل ذلك الرئيس السابق الشاذلي بن جديد والذي تمكن للمرة الأولى من مغادرة البلاد منذ الانقلاب عليه في 1993. وكذا إعادة الروح إلى بعض الرموز الوطنية مثل مصالي الحاج وفرحات عباس وآخرين الذين همشوا منذ الاستقلال بسبب مواقفهم من الثورة أو الحكومات المتعاقبة.