تمر الايام والصراع في كوسوفو يتفاقم، على رغم توقف الاعمال العسكرية الواسعة النطاق التي كانت البلاد مسرحاً لها قبل سنة. فالاطراف المتنازعة في اقليم كوسوفو لا تتجه بتاتاً نحو السلام، بل انها تعمّق الشرخ في ما بينها، غير آبهة بمستقبل اولادها. فالوضعية القائمة حالياً في كوسوفو هي وضعية حرب داخلية بين كتلتين، صربية والبانية، يفصل بينهما الانتماء الاثني والدين. وهذه الوضعية الشائكة ليست فريدة من نوعها ولا عصية بالمطلق على الحل. حيث اننا قد عشناها في نموذج حربين اهليتين مجاورتين للبلقان ومعاصرتين، هما نموذج الحرب اللبنانية ونموذج الحرب القبرصية. علماً ان النموذج اللبناني قد خرج من النفق، عام 1989، في حين ان النموذج القبرصي والاقدم منه عهداً لا يزال عالقاً في شباك التخاصم النضالي والانقسام السياسي. فما هو الفرق بين هذين النموذجين والى اي منهما تنتمي الحال الكوسوفية؟ وبالتالي ما هو افق الصراع فيها؟ ميدانياً، الانقسام السياسي شبه تام بين الكتلة الالبانية والكتلة الصربية. ويرتكز كل طرف على خطاب ايديولوجي متماسك البناء لتبرير هذا الانقسام ولتدعيمه على الارض بشتى السبل. ولا قواسم مشتركة بين الطرفين اللذين تحوّلا الى عدوّين لدودين مطلقين. فالحال الكوسوفية تعيش حالياً اقصى تعابير الطلاق السياسي الداخلي، المتمثلة في عدم قبلول اي من الطرفين الموجودين على الارض بالدخول في حوار مستقبلي وبناء مع الآخر. ومن هذا المنطلق تشبه الحال الكوسوفية الحال القبرصية الراسية سفينتها طوعاً في مرفأ الانقسام والطلاق السياسي. فعلى رغم مساعي الاممالمتحدة في ايجاد قواسم مشتركة لحوار جاد وبنّاء بين الطرفين المتخاصمين، تبقى الامور متوقفة ميدانياً عند حد العداء. فما من طرف يرغب فعلاً في اعادة بناء الدولة في البلاد حيث ان ما من طرف على استعداد للتنازل عن رؤيته الانانية لهذه الدولة في سبيل الوصول الى حل وسط مع الطرف الآخر. من هنا استمرار النزيف واستمرار الازمة وتفاقم الوضع. مع العلم ان الامور قابلة للاستمرار، كما هو الحال في قبرص حالياً، عقدين او ثلاثة من الزمن من دون الولوج الى حل يرضى به الجميع. تجدر في الواقع الاشارة هنا الى ان الحال الكوسوفية شبيهة الى حد بعيد ايضاً بالحال البوسنية، فالصراع الكوسوفي امتداد سياسي للصراع البوسني، من حيث النسيج المفاهيمي والايديولوجي وحتى التاريخي. وتماماً كما ان الصراع البوسني متروك كالجرح المفتوح في البلقان، يبدو ان الصراع الكوسوفي يقوم بوظيفة مشابهة. ففي الحقيقة لا تنتهي الحروب الداخلية فعلاً الا عند ظهور وسيط ثقة من الطرفين، يأخذ على عاتقه جدياً وبأساليب متعددة تكون بحوزته مهمة الانتهاء من الصراع الأخوي - او الداخلي - القائم بين الطرفين المتنازعين. كما حصل تحديداً بالنسبة الى الحرب اللبنانية التي لم تنتهِ فعلياً الا بعد ظهور وسيط ثقة من كلا الطرفين المتخاصمين وفعّال في ضغطه على المتصارعين، في اتفاق الطائف، علي يد المملكة العربية السعودية. فالمشكلة الكبرى في الاقتتال الكوسوفي الحالي انه لم يجد لنفسه بعد طرفاً وسيطاً مماثلاً كما حصل للبنان عام 1989، حائز على ثقة الجميع وداعماً وضاغطاً في الوقت نفسه للوصول الى القاسم المشترك الاوسع الذي يرضى به الجميع. فمنظمة الاممالمتحدة غير ناجحة وغير مؤهلة للعب هذا الدور. هذا ما اظهرته الحقبة الزمنية السابقة، شهراً بعد شهر. ويعزو بعض المراقبين الامر الى عدم توفير كل مستلزمات هذه العملية من قبل المنظمة التي لا طاقة ذاتية لديها والمجبرة على الاعتماد، في نهاية المطاف، على ما تقدمه لها الدول المختلفة من دعم عسكري ومادي. بحيث ان منظمة الاممالمتحدة لا تملك حالياً الادوات التي تسمح لها ببلوغ اهدافها المبدئية ولا بتحقيق ما تطرحه في مقرراتها. على اي حال هذا امر تميّزت به الاممالمتحدة في بقاع عدة عبر العالم ماضياً وحاضراً، آخرها هو عجزها امام تقديم الحلول الناجعة في كل من كوسوفو وتيمور الشرقية. من هو اذاً الوسيط المنشود والثقة الممكن لحل هذا الصراع على قاعدة لا غالب ولا مغلوب؟ أهو فرنسا؟ بالطبع لا. ذلك بلاد موليار معروفة تاريخياً بوقوفها السياسي الى جانب الصرب. الامر الذي يدركه ويخشى منه الالبان في كوسوفو. أهو المانيا؟ طبعاً لا، هنا ايضاً. حيث ان الجميع يعلم ان اهتمامات المانيا الاستراتيجية في البلقان تقف عند حدود سلوفينيا المجاورة لحدودها الجنوبية والتي من اجل استقلالها اشعلت حرب البوسنة في التسعينات من العقد المنصرم. أهي تركيا؟ طبعاً لا، مرة جديدة. بسبب تعاطف هذه الدولة السياسي والاثني مع احد اطراف الصراع في كوسوفو، دون سواه. فعلى رغم ان الامر طبيعي جداً ومنطقي من وجهة النظر التاريخية يبقى ان هذه الدولة عاجزة عن ان تكون الوسيط الثقة من الطرفين والساعي لاطفاء نار الاقتتال الداخلي في الاقليم. ناهيك عن الارتباطات السياسية لتركيا بالحلف الاطلسي والتي تحجم كل مبادراتها العسكرية والسياسية على المستوى الاقليمي. أهو الولاياتالمتحدة الاميركية؟ وهنا بيت القصيد الفعلي ... والجواب، هنا ايضاً، هو لا. ذلك ان المصالح الاستراتيجية نفسها التي جعلتها تحجم عن المبادرة لايجاد حل في قبرص هي التي تملي عليها حالياً هذا الموقف السكوت وغير المتعاون في كوسوفو. فالولاياتالمتحدة لا ترى كوسوفو من خلال البلقان، بل انها تنظر الى اوروبا من خلال كوسوفو. وفتح هذا الجرح العميق في قلب اوروبا لا يضر بمصالحها بل يعززها على المستوى الاستراتيجي العام. خصوصاً وإنه يترافق مع محاربة منهجية للعملة الموحدة الاوروبية اليورو ومع محاولة الانتقال بالوحدة الاوروبية من طور الامنيات السياسية الى طور المؤسسات المتناسقة والمتناغمة والفاعلة. فلا مصلحة للولايات المتحدة في ان تكون وسيطاً لحل مشكلة كوسوفو التي بدت وكأنها تتحول الى غرغرينا سياسية في الجسم الاوروبي العام. فمصائب قوم، على حد ما لاحظه الايطالي ماكيافيلي ذات مرة، عند قوم فوائد. ولعبة الديبلوماسية الاميركية، المستوحاة من التقليد الكيسنجري، المستوحى بدوره من تقليد الكاردينال ريشوليو الفرنسي إبان حرب الثلاثين سنة 1618-1648 في المانيا، هي لعبة تقوم على الافادة من التناقضات المحلية، ربما دون السعي لتأجيجها، ولكن دون العمل على تقديم الحلول الناجعة لها. لا مجال بالطبع لبريطانيا من لعب دور الوسيط الثقة، من ناحية اخرى، لدوران هذه الدولة الاوروبية شبه الكلي حالياً في المدار الاميركي، الامر الذي لا يعطيها اي هامش من التحرك المستقل. فبريطانيا منشغلة في مشكلاتها ولا قدرة لديها ولا رغبة في السعي لحل مشكلات غيرها. من اذاً سوف يقدّم نفسه لحل المشكلة الكوسوفية حلاً يؤمن للطرفين المتنازعين حداً ادنى من الشروع بأنه لم يخسر كل شيء على رغم انه لم يربح كل شيء، كما حصل للأطراف اللبنانية المتقاتلة إبان المفاوضات التي سبقت إقرار اتفاق الطائف؟ يبدو ان اقصى ما يمكن ان يحصل في كوسوفو حالياً هو اتفاق يُعقد في قاعدة عسكرية اميركية كما حصل في اتفاق دايتون الذي خُصص للبوسنة لا يؤمن وفاقاً وطنياً حقيقياً، بل مجرد هدنة مصالح موقتة بين الطرفين. فالولاياتالمتحدة سجينة خياراتها الاستراتيجية في كوسوفو. وهذه الخيارات ضيقة هنا في كوسوفو اكثر مما كانت عليه في البوسنة حيث انها محكومة بالتناقض. فمصالح العم سام تملي عليه الاستفادة من كل تصدّع يُصاب به الجسم الأوروبي، شرقاً وغرباً، الا انها تفرض عليها عدم تجاوز الخط الاحمر الذي تمثله بقاء كوسوفو اقليماً تابعاً لصربيا اليوغوسلافية. فالتفريط بهذه القاعدة والدخول في تقسيم منطقة البلقان على قواعد اثنية جديدة قد تصل افاعيله بسرعة الى منطقة الشرق الاوسط. وهذا امر تدركه تماماً السياسة الخارجية الاميركية التي لا رغبة عندها في بلوغ التصدع السياسي حد الضرر الاستراتيجي بمصالحها النفطية البعيدة ولكن القريبة جداً اذا ما انتشر لهيب البارود العصبي، الاثني والديني، لناحية الشرق. لذلك كله يبدو ان الازمة الكوسوفية مقبلة على مرواحة طويلة مكانها. فلا شفاء للمريض ولا إجهاز عليه بشكل نهائي. بل انه سيبقى يتأرجح بين وضعيتين متناقضتين الى ما لا نهاية للأسف. وسيبقى الشجار الايديولوجي قائماً في الاقليم على وقع شعارات التخاصم النضالي التي جرّبناها طويلاً في لبنان والتي لم نجنِ منها سوى الخراب. فمشكلة البلدان الصغيرة، عندما تقع في شرك الحروب الاهلية والداخلية انه تعجز عن ايجاد دينامية ذاتية تخرجها من الازمة التي وقعت فيها. فتضحى عندها رهينة دولة صديقة، قوية ونافذة، تقبل او لا تقبل مد يد العون لها لاخراجها من الحفرة الصحية السياسية التي تكون قد وقعت فيها. * كاتب لبناني