يحتاج المراقب الى التأمل في «مصادفة» التزامن بين نشر آخر استطلاع للرأي البلقاني في 2009 لمصلحة مؤسسة «غالوب» المحتمل وبين ما تنشره الصحافة الصربية عن إعلان فلسطيني محتمل للاستقلال حسب النموذج الكوسوفي، أي من طرف واحد يحظى بتأييد دولي معتبر، وتأثيره على البلقان. ففي الوقت الذي يتجدد فيه الحديث عن تهديد «جمهورية الصرب» في البوسنة بالانفصال أو بالاستقلال في حال تزايد ضغوط الاتحاد الأوروبي عليها للقبول بتعديلات دستورية لصالح دولة بصلاحية مركزية تنسجم مع المعايير الأوروبية حتى تنضم الى الاتحاد الأوروبي، كشفت الجريدة الصربية المعروف «داناس» (عدد 29/1/2010) عن نتائج استطلاع «غالوب» الذي يشير الى أن 39 في المئة من الذين استطلعت آراؤهم في كل البوسنة يرون ان استقلال كوسوفو يفتح الباب لاستقلال «جمهورية الصرب» أو « هرسك البوسنة»، مع العلم أن هذه النسبة تخفي غالبية كبيرة بين الصرب لأن غالبية البوسنيين المسلمين والكروات صوتوا ضد ذلك. والمثير، في هذا، «المصادفة» المتزامنة أن الصحافة الصربية تكشف من ناحية عن توجه فلسطيني لإعلان الاستقلال حسب النموذج الكوسوفي وعن دعم دولي له، ولكنها تنذر في الوقت نفسه أن هكذا إعلان سيبرّر للصرب في البوسنة أن يستقلوا في «جمهورية الصرب»! وكانت الصحيفة الصربية «داناس» قد كتبت صباح الخميس 28/1/2010 في صفحتها الأولى: «الفلسطينيون يأخذون بالنموذج الكوسوفي»، استناداً الى لقاء أجراه مراسل الصحيفة في القدس مع دانييل ديكر المحلل السياسي المعروف ومدير معهد الدراسات المعاصرة في القدس. وكان ديكر، الذي ينشر مقالاته في عدد من الصحف المعروفة ويظهر باستمرار في الشبكات التلفزيونية المعروفة (CNN وفوكس و «الجزيرة» و «الحرة»)، قد نشر قبل أيام مقالا بعنوان «هل يتجاهل عباس إسرائيل ويتطلع نحو كوسوفو؟» تناول فيه ما يعتبره تحولا في تفكير القيادة الفلسطينية بعد فشل المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. أما في لقائه مع الصحافة الصربية المعنية بهذا الموضوع لدوافعها الخاصة فقد انتهى ديكر الى «أن الفلسطينيين في الشهور الأخيرة يستعدون لإعلان استقلالهم من طرف واحد بسبب عقم المفاوضات بينهم وبين إسرائيل». وفي هذا اللقاء يقرّ ديكر بوجود فوارق ين الحالتين الفلسطينية والكوسوفية، كما سيشرحها لاحقاً، ولكنه يكرر قوله «أعتقد أن الفلسطينيين يستفيدون من النموذج الكوسوفي لإعلان الاستقلال من طرف واحد لأجل إحراز فوز سياسي على الرغم من الفوارق بين الحالتين من الناحية القانونية والديبلوماسية». فديكر يرى أن كوسوفو أعلنت استقلالها مع انها جزء من صربيا، وهو ما كان يتطلب موافقة بلغراد، بينما السيادة/ الإدارة في الضفة الغربية يتقاسمها الآن الإسرائيليون والفلسطينيون بموجب اتفاقية أوسلو. ومع تسليمه بالفوارق بين الحالتين الفلسطينية والكوسوفية، يرى ديكر بعض التشابه إذ أن عدم سيطرة القيادة الألبانية على كل كوسوفو (وبالتحديد على جيب متروفيتسا المجاور لصربيا) لم يمنعها من إعلان الاستقلال من طرف واحد وهو ما ينطبق على القيادة الفلسطينية التي لا تسيطر على كل الضفة. ولكن الأمر هنا يرتبط بالموقف الدولي من إعلان الاستقلال الفلسطيني، الذي يراه ديكر مؤاتياً للفلسطينيين على المستويات الثلاثة: الأميركي والأوروبي والدولي. أما بالنسبة للموقف الأميركي فيرى ديكر ان القيادة الفلسطينية مقتنعة بأن إعلان الاستقلال الفلسطيني سيكون أكثر إقناعاً للطرف الأميركي من إعلان الاستقلال الكوسوفي. ويسلم ديكر بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما اقترب من الموقف الفلسطيني أكثر من أي رئيس أميركي حتى الآن، وبأن فوز اوباما بجائزة نوبل للسلام يفرض عليه تحقيق انجاز في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وفي ما يتعلق بموقف الاتحاد الأوروبي، يرى ديكر انه أقرب الى الموقف الفلسطيني في حال إعلان الاستقلال على النمط الكوسوفي وان كان لا يصرّح بذلك جهاراً، ويذكّر هنا بمبادرة وزير خارجية السويد كارل بيلد للاعتراف بالقدسالشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة. وعلى المستوى الدولي يتوقع ديكر بأن يكون الدعم الدولي لإعلان الاستقلال الفلسطيني كبيراً بحكم وجود استقلال فلسطيني معلن من الجزائر في 1988 ومعترف به من قبل عشرات الدول، أي أكثر مما حظي به الاستقلال الكوسوفي حتى الآن. ويبدو أن ما نشر في 28/1/2010 ضرب على الوتر الحساس عند بعض الأطراف الصربية أو نبّه بعض الأطراف الصربية الى استثمار ذلك لخدمة أجندة خاصة. فقد حذرت بلغراد عشية إعلان الاستقلال الكوسوفي في 17/2/2008 من «خطر» هذا الاستقلال على البلقان، وبما يقود الى مزيد من التفتيت لدول المنطقة والى تحول الدولة الكوسوفية الجديدة الى قاعدة ل «الإرهاب الإسلامي». ولكن بعد سنتين كانت الدول المحيطة (مكدونيا والجبل الأسود) قد اعترفت بكوسوفو التي تحولت الى عنصر استقرار إقليمي. وبعد أن كانت محكمة العدل الدولية الورقة الأخيرة للقيادة الصربية، التي لم تحقق لها ما كانت تتوقعه، يبدو الآن أن الورقة الأخيرة للأوساط الصربية القومية غدت «جمهورية الصرب» في البوسنة التي تبحث عن ذريعة للاستقلال. وفي هذا السياق يمكن فهم المانشيت الطويل والمثيرالذي نشر في الصفحة الاولى لجريدة «داناس» في اليوم التالي(29/1/2010) : «اعلان الاستقلال الفلسطيني حسب النموذج الكوسوفي حجة مثالية لهرسك البوسنة وجمهورية الصرب للمطالبة بالاستقلال». هذا الكلام جاء خلاصة للقاء الصحيفة مع ثلاثة «خبراء» عن الإسلام والشرق الأوسط والقانون الدولي حمّلوا الفلسطينيين مسؤولية ما يمكن أن يحدث في البلقان اذا أعلنوا استقلالهم في القريب العاجل! وصرح الدكتور ماريان هيل الباحث في معهد دراسات الشرق الأوسط بالعاصمة السلوفينية لوبليانا أن إعلان الاستقلال الفلسطيني يمكن أن يوسع «حالة العداء» بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الشرق الأوسط ويمكن أن تكون له نتائج كارثية في البلقان. فحسب رأيه «إذا اعترفت البوسنة والهرسك بالدولة الفلسطينية فستكون قدمت حجة مثالية لجمهورية الصرب وهرسك البوسنة لإعلان استقلالهما عن البوسنة»، و «يمكن أن يؤدي هذا الى توترات جديدة وحتى الى حرب أهلية على أسس اثنية ودينية وانتشار الإرهاب في القارة الأوروبية». ولذلك «ينصح» هيل الفلسطينيين باستمرار المفاوضات مع الإسرائيليين وإحراز ما يمكن إحرازه «عن طريق المفاوضات فقط». أما المستشرق الصربي المعروف داركو تاناسكوفيتش، الذي يسوّق الآن باعتباره «الخبير في الإسلاميات»، فيؤكد بدوره هذا التصور القاتم الذي يمكن أن ينشأ عن إعلان الاستقلال الفلسطيني. فتاناسكوفيتش يعتبر ان استناد الفلسطينيين الى سابقة الإعلان الكوسوفي للاستقلال لا يشكل مفاجأة لأن «أحد الأسباب والأدلة القوية ضد الإعلان الكوسوفي للاستقلال والاعتراف به هو أنه سيعطي الشرعية للكثير من الحركات الانفصالية للكيانات التي تتمتع بوضع إداري في الدول الكبيرة التي تواجد فيها». ومن ناحية أخرى يرى تاناسكوفيتش ان اعتماد الفلسطينيين على النموذج الفلسطيني يمكن أن يثير «الإرهاب الإسلامي» في البلقان، وهو الذي نبّه اليه وزير الخارجية الإسرائيلي افيغدور ليبرمان في لقائه مع رئيس الحكومة المقدونية غرويسكي خلال زيارته الأخيرة لمقدونيا وصربيا. ومع هذه الصورة القاتمة يقع الفلسطينيون بين نارين : الاستمرار في مفاوضات مضنية مع الإسرائيليين دون نتيجة مضمونة وإعلان الاستقلال الذي يحمّلهم مسؤولية ما يمكن أن يحدث في البلقان من حرب أهلية جديدة و«إرهاب إسلامي»!