ألف لويس عوض كتابه "مذكرات طالب بعثة" في عام 1942 وان لم ينشره حتى عام 1965. الكتاب الذي يتألف من 300 صفحة يسجل مذكرات لويس عوض إبان فترة دراسته لدرجة الماجستير في الآداب في جامعة كمبريدج بإنكلترا بين سنتي 1937 و1940. يخلو الكتاب من أي محاولة لتخييل المذكرات أو بعبارة أخرى تحويلها الى قصة، فليس فيه تطوير للشخصية ولا صراع باطني ولا تغير في الحظوظ ولا اكتشاف للذات مما نتوقع أن نجده في البنى القصصية. إنما يلتزم الكاتب بالتسلسل الزمني مبتدئاً بالاستعدادات للرحلة بحراً الى أوروبا في القاهرة أولاً ثم في الاسكندرية، وينتهي بعد ثلاث سنوات بوصف لرحلة العودة الى مصر بعد انجاز الغرض من البعثة بالحصول على الدرجة. نحن إذاً نواجه شخصية ثابتة تتعامل مع أحداث متغيرة وتحتك بعدد كبير من الشخصيات الثانوية. وإذ نتوغل في قراءة الكتاب تتوثق معرفتنا بلويس عوض الشاب بين العامين الثاني والعشرين والخامس والعشرين من عمره. إلا أن ما نتعلمه عن شخصيته أو فكره لا يتداعى من المواقف التي يمر بها خلال أحداث الكتاب، إنما نلتقي بشخصيته مكتملة من أول لحظة وكأنها قد نمت وتطورت في وجود مسبق خارج على النص، وكل ما يحدث هو أن أبعادها وصفاتها المختلفة يُكشف لنا عنها تدريجاً من خلال تداعي النص. لنتأمل قبل كل شيء في عنوان الكتاب. "طالب بعثة" هو المصطلح الذي تستخدمه السلطات التعليمية في مصر حتى اليوم للإشارة للطلاب الذين ترسلهم الدولة على نفقتها للدراسة خارج البلاد، ويشار الى مثل هذا الدارس أيضاً بلفظة "مبعوث"، وبذلك لا يبدو سوى أن عوض يستخدم عنواناً لتقرير الحال، فهو كان "طالب بعثة" وهذه هي مذكراته. إلا أن لفظة "طالب" وخصوصاً "طالب العلم" لها ايحاءات في العربية تجاوز دلالاتها المباشرة، فطلب العلم هو مسعى ديني في أحد جوانبه، وخصوصاً من حيث صلته بالحديث النبوي الذائع "اطلبوا العلم ولو في الصين". ومن ناحية أخرى نجد أن مادة "بعث" ذات ايحاءات ثرية أيضاً، فهي ترتبط بمعاني النشور وتجدد الحياة والتبليغ الخ، كما أننا نتحدث عن "البعثة النبوية" ويشار الى النبي بوصفه "مبعوثاً" من السماء لهداية البشر. فإذا ما أخذنا في الاعتبار أن لويس عوض قد أضحى مع الزمن داعية مؤثراً من دعاة التجديد الثقافي في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً في مجال التبشير بقيم الثقافة الغربية، فإن التناص بين العنوان الموحي في غير قصد وبين الدور الحياتي اللاحق للويس عوض يفرض نفسه على الوعي فرضاً مجانياً. فلويس عوض لم يكن طالب بعثة فقط ولكن أيضاً صاحب "بعثة" أو رسالة، كان ساعياً وراء الحقيقة. بعبارة أخرى كان شخصية بروميثيوسية، أسوة بالبطل الأسطوري الإغريقي Prometheus الذي سرق النار من الآلهة لإنقاذ البشر من الظلام، كان مبعوث ثقافة تعيش في ظلام الجهل في مهمة بطولية للحصول على الشرارة المقدسة لنار المعرفة والحداثة من ثقافة أخرى مالكة لها. ولا شك أن إحساسنا بالمغزى الإيحائي للعنوان تدعمه معرفتنا المستقاة من نصوص أخرى للكاتب أنه كان يحفزه طوال حياته شعور بأنه كاتب صاحب رسالة خاصة وأنه لم يكن يتحرج من اعلان ذلك في عبارات ليس التواضع أبرز ما تتحلى به. فلننظر مثلاً الى ما يقوله في مقدمة روايته الوحيدة "العنقاء" التي كتبها بين عامي 1946 - 1947 وان لم تنشر حتى عام 1966: "كل من عاصرني صديقاً أو زميلاً أو طالباً في فترة الأربعينات... كان يعرف أني لم أكن مجرد "مدرس" جامعي بالمعنى المألوف. وانما "معلماً" من ذلك الطراز الذي لا يوجد عادة الا في عصور الانتقال حيث تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة، وكانت تلهبني "شهوة لإصلاح العالم" إذا جاز لي أن أستعير لغة شلي الشاعر الإنكليزي في التعبير عن حاله هو في عصر الثورة الفرنسية...". بإمكاننا إذاً أن نعتبر "مذكرات طالب بعثة" ثمرة مبكرة من ثمرات هذا المسعى البروميثيوسي أو الشهوة الإصلاحية التي كانت تحرك عوض. ومن المشغف أن نلاحظ أنه ترجم الى العربية مسرحية شلي الشعرية "بروميثيوس طليقاً" سنة 1946، كما أن رسالته للدكتوراه التي أجيزت من جامعة برنستون في أميركا سنة 1953 كانت عن "موضوع بروميثيوس في الأدبين الإنكليزي والفرنسي"، وكأن عوض في وعيه البروميثيوسي بذاته قد أولع بدرس الموضوع وتقصي تجلياته في الأدب الغربي، أي أدب الثقافة التي حمل على عاتقه، مثل سائر جيله، أن يسرق النار منها لبلده. هذا المنظور الأسطوري يتيح لنا أن نقارب هذه المذكرات الواقعية من خلال أطر هي عادة مختصة بالأبنية الروائية. والذي أقصده هو البناء الدائري للرحلة موضوع المذكرات، حيث يسافر البطل من الوطن الى أوروبا، فيحقق الغرض من البعثة وهو تحصيل النار / المعرفة، ثم يعود الى الوطن منتصراً لينشر هذه المعرفة / النور بين أبناء بلده. هذا البناء يحاكي في غير صعوبة البناء الأسطوري الذي يغير فيه بروميثيوس على جبل الأولمب فيختلس نار الآلهة ويعود بها الى البشر. هذا المنظور الأسطوري أيضاً هو الإطار المناسب لفهم تجربة عوض في كتابة النص باللغة العامية المصرية، وهي تجربة غير مسبوقة ولم يعد اليها عوض بقية حياته، ولا حاولها أحد غيره من وقتها في مجال النثر الأدبي على حد علمي. هذه التجربة اللغوية هي في رأيي جزء لا يتجزأ من النص الذي يستخدمها، فالشخصية البروميثيوسية شخصية ثورية متمردة بطبيعتها، والكتابة باللغة العامية في السياق الذي وردت فيه هي فعل تمرد بغير شك، تمرد على اللغة الفصيحة، تمرد على المفهوم القائل بأن اللغة العامية لا تصلح للتعبير الكتابي، وتمرد أيضاً على المؤسسة الأدبية المحافظة والفارضة لهذه المفاهيم. التمرد اللغوي في النص هو إذاً موافق تماماً لسرد خبرة حياتية ثورية بطبيعتها. الجدل بين البشر والآلهة يقع في بؤرة اهتمام المذكرات باعتبارها نصاً بروميثيوسيا. ثمة رغبة عارمة في النص في اكتشاف السر في كون الآلهة آلهة والبشر مجرد بشر. في عبارة أخرى النص منصب على جدلية الذات والأخر أو الشرق والغرب، وخصوصاً شوق الذات الشرقية الى أن تصبح مثل الآخر الغربي المتفوق عليها، وهو ما أود أن أستكشفه في هذا المقال. يبدأ الجدل الحضاري في مرحلة مبكرة من النص وعلى التحديد في الفصل الأول إذ يحاول عوض انجاز أوراق بعثته في المصالح الحكومية، وفي أحد المكاتب يلاحظ أحد الكتبة الصغار أن بطلنا قد وقع اسمه بصيغة مختصرة هي "لويس عوض" بدلاً من الإسم الكامل "لويس حنا خليل عوض" ويطلب اليه أن يصحح ذلك. يمتثل عوض إلا أن الكاتب يعود فيطلب منه أن يكتب اسمه الأول "لويز" وليس "لويس". يعترض عوض على ذلك شارحاً أن "لويز" اسم فتاة وان اسمه كتب بالزاي في شهادة الميلاد لا لسبب إلا جهل الموظف الذي دوّنه. على أن دفاعه لا يجديه شيئاً أمام تعنت الكاتب فلا يملك إلا أن يكتب اسمه "لويز" حرصاً على البعثة. وإذ يغادر المصلحة يقارن في ذهنه بين هذا الموقف وبين المراسلات الدائرة بينه وبين مسجّل جامعة كمبريدج الإنكليزي الذي يخاطبه بلفظة "مستر عوض" لا غير. وهكذا يُلفت انتباهنا لفتاً عابراً ولكنه دال الى فرق بين الثقافتين، فإحداهما شكلية تشغل نفسها بالتفاهات والأخرى براغماتية تركز على ما يهم. لا ينتهي الفصل الأول إلا ويكون بطلنا على ظهر سفينة تدعى "الكوثر" مبحراً الى فرنسا، ولا يسعنا إلا أن نقبل مرة أخرى رمزاً مجانياً من الواقع متمثلاً في اسم السفينة. فلا شك أن "الكوثر" كان اسم السفينة التي سافر عليها عوض، بل أن هناك هامش في المذكرات يخبرنا بأن الكوثر كانت واحدة من أول ثلاث سفن عابرة للمحيطات اشترتها الشركة البحرية المصرية سنة 1934. على أن الكوثر هو أيضاً اسم نهر من أنهار الجنة مذكور في القرآن، ومن هنا فهو اسم مليء بالإيحاءات إذا ما ذكّرنا أنفسنا أننا نقرأ قصة رحلة بروميثيوسية يسعى فيها البطل الى ارتياد مقر الآلهة في جبال الأولمب. وإذ يتأمل عوض من على ظهر السفينة منظر ميناء الإسكندرية يتباعد، فإن آخر ما يحمل معه من صور الوطن هو مشهد "الشيالين اللي ف جلاليب وسخة ... والونشات اللي منظرها بشع..." ص 40. ولنقارن هذه الصور القبيحة بالصورة الزاهرة التي يتصور عليها انكلترا في خياله، والتي كان قد افتتح بها نفس الفصل الذي هو أيضاً مفتتح الكتاب كله. إذ يجلس في القطار الذي يحمله من بلدته المنيا في صعيد مصر الى القاهرة ليبدأ مباشرة اجراءات البعثة والسفر، نجده ينبذ المنيا من خاطره باعتبارها "علبة سردين"، لا مجال فيها لمن كان لديه خيال نشيط وأحلام بعيدة. على أنه لا ينبغي أن تغيب عنا جملة مفتاحية، أعني بها قوله "عاوز أعاشر الناس اللي تعبونا في مصر من سنة 1882". هؤلاء الناس الذي يشير اليهم هم طبعاً الإنكليز الذين كانوا يحتلون مصر آنئذ، أو هم بعبارة أخرى فئة من "الآلهة الأوروبيين" الذين يريد أن يقتبس من نارهم شعلة يعود بها لبني بلده. هذه الجملة تمثل عنصر التناقض في هذه الفقرة المليئة بالإعجاب والتشوف، وهو تناقض يأتي في موضعه في مستهل الكتاب، فسوف نصادف دائماً شواهد الافتتان بالغرب والسخط على أحوال مصر، إلا أن هذا الافتتان سيشوبه في كثير من الأحيان استياء من الآخر الغربي، كما أن السخط على مصر سيبدو واضحاً أن الدافع وراءه هو الرغبة في أن ترتقي أحوالها فتضاهي أحوال الغرب. إذ تبحر السفينة مبتعدة عن الساحل، يدور في ذهن بطلنا أنه ستمضي سنوات قبل أن يرى الوطن مرة أخرى، إلا أنه يعجز عن الاستسلام للعاطفة على العكس من رفقائه في السفر، الذين تغلبهم دموعهم، يبدو عقله مسيطراً على قلبه، وهو ما يميزه من الثقافة التي ينتمي اليها والتي عادة ما تسيطر فيها العواطف غير مُنازَعة، ولما كان البطل مبعوثاً لدرس الثقافة التي تمثل العقل، فهو يكون بذلك مجهزاً لهذه المهمة خير تجهيز. ويبدو الانفصام بينه وبين ثقافته التي نشأ فيها جلياً حين يشير الى الاثنين وعشرين عاماً السابقة من حياته باعتبارها قد غرقت في "الأمواج الباهتة اللي بيني وبين الشاطئ المسحور" ص 44، ومرة أخرى باعتبارها قد راحت هدراً أو "راحوا بلاش" على حد تعبيره. ص 71 لا ينظر عوض الى الخلف وإنما تتمحور أفكاره على غايته، على أرض الآخر التي يستشرفها والتي وصفها بالشاطئ المسحور كما رأينا: "أنا طول عمري أحن للناحية الثانية من البحر الأبيض" ص 45. وما أن يستقر في كابينته حتى يغير ملابسه فيرتدي "بنطلون غولف" و"جاكيتة نورفولك" لأول مرة في حياته، ما يمكن أن نراه في إطار الكتاب طقساً رمزياً يُؤدي تشبهاً بثقافة الآخر أو تقرباً اليه. على أن افتتان عوض بالآخر الأوروبي ليس افتتاناً مطلقاً، وانما يُعبّر عنه في المذكرات دائماً في سياق الرغبة في المحاكاة الحضارية ونقل الخبرة من ثقافة الى أخرى. في الطريق الى انكلترا يتوقف عوض وزملاؤه من المبعوثين في باريس لمدة يومين. وهناك يتعرف على مبعوث مصري آخر يدرس في السوربون، كان أيضاً مقدراً له - مثل عوض - أن يصير واحداً من رواد النهضة الثقافية المصرية من الجيل الثاني في القرن العشرين، وأعني به الناقد الأدبي محمد مندور، الذي يأخذه في جولة على معالم باريس ومنها الحي اللاتيني. يصف عوض الزيارة على النحو التالي: "كنت مضطرب لأني وجدت نفسي فجأة في الحي اللاتيني اللي ياما قرينا عنه وكنت باحلم بيه ... أبص حواليّ ما ألاقيش حاجة تخلي الواحد يضطرب. كل حاجة عادية. برضة ناس لابسين برانيط وشوارع وبنايات، لكن الفكرة ... مجرد الفكرة إني في الحي اللاتيني اللي اتشرد فيه كل أدباء مصر خلتني أرتعش. امتى يا ربي اتشرد في الحي ده زي زكي مبارك والصاوي وتوفيق الحكيم؟ امتى يا ربي اتشرد وأكتب زي ما كتبوا؟" ص 63. نرى في هذا المقتطف كيف يمتزج الانبهار بالحي اللاتيني بترتيل أسماء ذات وقع سحري لشخصيات بروميثيوسية مصرية أخرى سبقت الكاتب الى الغرب. ان الموقف البروميثيوسي هو بطبيعته موقف تحدٍ، خالٍ من التجلة نحو الآلهة، وهذا هو الإطار الذي يجب أن نفهم فيه تبني الشاب عوض لبعض الأفكار السائدة عن الإنكليز وطرحه إياها في قالب السخرية، فنراه في رحلته الأولى بالقطار من ميناء دوفر الى لندن يستغرق في بعض التأملات السطحية عن طبيعة الإنكليز. يدهشه صمت المسافرين وانشغالهم البادي بعوالمهم الداخلية، ويقول ان المرء حين يكون صامتاً لا بد أن يكون في حال تفكير، قياساً على ذلك فإن الإنكليز بحكم صمتهم الطويل لا بد أن يكونوا أكثر شعوب الأرض تفكيراً وتفلسفاً، إلا أن عوض يرى أن الإنكليزي هو الحيوان البشري الوحيد القادر على الجلوس لمدة عشر ساعات لا يعمل شيئاً ولا يفكر في شيء، ويقول إن الإنكليز يحصنون أنفسهم في الأماكن العامة خلف الصحف أو الكتب أو الأعين المسبلة لكي يبقوا في حال سيطرة، وعنده أنه إذا كانت انكلترا جزيرة فإن كل انكليزي هو أيضاً جزيرة في حد ذاته، وان الإنكليز تنقصهم الثقة بالذات وأن هذا هو السبب في لجوئهم للصمت للحفاظ على مظاهر السيادة، وهذا أيضاً السر في أنهم حين يتحدثون الى الغرباء يقتصرون على حديث الطقس وغيره من التوافه التي لا تكشف شيئاً من الذات. ويذكر كيف أنه ذات مرة نسي أحد ركاب القطار كونه انكليزياً ودخل معه باعتباره أجنبياً في نقاش سياسي يومَ دخول هتلر تشيكوسلوفاكيا، ولكنه أطبق فمه ما أن دخل انكليزي آخر الصالون الذي كانوا به. ص 85 - 90. ليس ثمة شيء جديد في هذه الانطباعات السطحية من قبل أجنبي عن الإنكليز، فكلها توافق التصور الجمعي للإنكليز لدى الشعوب الأخرى، وهو تصور قد لا يختلف معه الإنكليز أنفسهم بل يغذّونه في انتاجهم الثقافي الذاتي. على أن ما يهمني هنا من وجهة نظري التحليلية هو أن الصفة الإنكليزية الوحيدة التي يختصها عوض بهجائه هي تلك التي تتعارض مع مهمته البروميثيوسية. فالمسعى البروميثيوسي هو بطبيعته مسعى اقتحامي أو غزوي يستهدف الغارة على الآخر واستكشاف عالمه وهتك أسراره. ومن هنا احباط الكاتب تجاه قلاع العزلة الإنكليزية الحصينة، والحقيقة أنه على رغم طول الكتاب النسبي 300 صفحة وكونه سرداً لتجربة ثلاثة سنين من الحياة في انكلترا، فإنه لا يحوي نموذجاً واحداً لعلاقة صداقة حقيقية مع انكليزي. والعلاقة الوحيدة في الكتاب التي تتسم بشيء من الدفء البشري هي تلك التي تجمع بينه وبين فتاة تدعى باميلا تعرف عليها خلال الشهور الأولى من البعثة التي قضاها في لندن قبل أن يلتحق بالدراسة في كمبريدج رسمياً، إلا أن باميلا كما يخبرنا الكاتب نصف اسبانية وهو ما يفسر دفء العلاقة من دون شك. تقع الفتاة في حب عوض الذي يفتتن بها في البداية، غير أنه سرعان ما يدرك تأثير العلاقة على وقته، ويذكر نفسه أنه إنما جاء الى انكلترا في "بعثة"، وهكذا يستأصل العلاقة من حياته ببرود جراحي - فالبطل البروميثيوسي لا يجب أن يلهيه شيء عن مهمته المقدسة. هذا الفاصل من الكتاب الذي يشغل حوالى عشر صفحات 126 - 137 يذكرنا برواية توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" المنشورة سنة 1938، أي قبل ما لا يزيد على أربع سنوات من كتابة عوض ل"مذكرات طالب بعثة"، والتي لا شك أنه كان اطلع عليها قبل كتابة المذكرات. في رواية الحكيم ثمة علاقة أساسية بين البطل محسن وفتاة فرنسية تدعى سوزي، والعلاقة هي كناية عن ثنائية الشرق والغرب، فنرى الحكيم يصور الفتاة مادية استغلالية بينما يصور محسن عاطفياً ساذجاً. والذي أود أن أطرحه هو أن ثمة علاقة تناصّ هنا بين العملين يبدو فيها وكأن النص الواقعي لعوض يكشف عن زيف النص الروائي للحكيم، فالبطل الشرقي في المذكرات هو الذي يستهين بالعاطفة وينبذ الحب بدوافع عقلانية باردة عكس الحال في رواية الحكيم، وفي هذا نبذ واضح لمقولة عاطفية / روحانية الشرق في مقابل عقلانية / مادية الغرب. بل أننا قد نستطيع أن نرى في الفتى عوض في هذه الواقعة تمهيداً تناصيّاً - مهما كان بدائياً - لمصطفى سعيد، البطل العقلاني البارد في رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" 1967. رأينا مبلغ التنميط في تصوير لويس عوض لأفكاره عن الآخر الغربي، والآن فلننظر الى الوجه الآخر من العملة، أي تصويره لأفكار الآخر عن الذات، وهي كما سنرى ليست أقل نمطية، بل انها تكاد تكون صورة هزلية تماماً. يخبرنا عوض كيف أن الصبية "جون" - ابنة أصحاب البيت الذي يسكن فيه تكفلت بأخذه في جولة في مدينة كمبريدج، حيث يدور بينهما الحوار التالي: "كانت تقف كل خطوة والثانية تقول: - دي كلية كذا، ودي كلية كذا - انتو عندكو في مصر كليات؟ - ايوه يا جون. نمشي شوية تلاقي جنينة. - انتو عندكو ف مصر جناين؟ - ايوه يا جون. نمشي شوية ويفوت الأوتوبيس، تقول: - انتو عندكو ف مصر اتوبيسات؟ - أيوه يا جون. وشي أحمر من الزعل والكسوف، لكن كتمت شعوري، صاحبتنا فاكرة احنا ايه؟ متوحشين؟ فتنا على عمود نور وفعلاً قالتها. - انتو عندكو ف مصر عواميد نور؟ ما احتملتش. قلت في منتهى الحدة: - طبعاً عندنا. انتي فاكرة احنا ايه؟ حيوانات؟ أنا لازم اشكيكي لأبوكي. يللا رجعيني البيت". ص 158 - 159. على أنه ثمة مفارقة في النص وهي أنه على رغم سخط عوض على تصورات الآخر المستهينة بالثقافة المصرية، فإن ملاحظاته الخاصة تبدو أحياناً ربما على غير وعي منه متفقة مع تلك التصورات بعينها. في أول جولة له في شوارع وسط المدينة في لندن، يبدو عوض منبهراً بزخم الحركة البشرية والنشاط البادي على الناس إذ يسعون في أمور معاشهم ذات صباح في شارع أكسفورد، ويقارن بين ذلك وبين تراخي الحياة وايقاعها المتباطىء في القاهرة: "رجالة ماشيين وستات ماشيين وأتومبيلات ماشية وأتوبيسات ماشية، البلد كلها ماشية. تحس إنك في نهر والنهر فيه تيار ... مش تحس أنك ف مستنقع ووجود ثابت قديم..." ص 114. قد يبدو عوض هنا رافضاً لثقافة بلده مفضلاً ثقافة الآخر الغربي، إلا أنه لا ينبغي أن نخطئ تفسير العاطفة الصادر عنها هذا الرفض، فهو رفض لا مصدر له سوى الرغبة في استنهاض ثقافة بلده من حالها الراكد القديم الى حال الحركة والحيوية الذي عاينه في بلاد الآخر. هذا الشعور بالتحسر على الذات وغبطة الآخر نستطيع أن نرى جانباً اضافياً منه في موضع ثانٍ من المذكرات، حيث يصف عوض كيف أنه متى ما أقبل الربيع كان من عادته أن يقف على ما يعرف بجسر التنهدات فوق نهر الكام في كمبريدج يرقب الطلاب يدفعون قواربهم في النهر بالمجاذيف بينما تتكىء صديقاتهم على أرض القوارب يقرأن رواية أو يحلمن بما سوف يكون حين ترسو القوارب عند "مرابط العشاق". ثمة ظاهرة أساسية في المذكرات لا يجوز أن أختم هذه الدراسة من دون الوقوف عندها، وهي أن النص يسري في جوانبه روح اعجاب فائق بالمنجزات العقلية للآخر الأوروبي، فمن قدماء الإغريق وأساطيرهم، الى شكسبير وميلتون، الى ماثيو أرنولد وت. س. إليوت، يكاد النص يُسمع له نبض من كثرة ما يحتشد فيه من شواهد واشارات أدبية وفكرية من كل فروع المعرفة في كل العصور، مما يشهد بسعة اطلاع واستيعاب عجيبة. غير أننا إذا ما تذكرنا أننا إنما نقرأ نصاً بروميثيوسياً، زال العجب. فليس عوض مبعوثاً في أوروبا إلا من أجل شعلة المعرفة المقدسة، ولذلك فمن الطبيعي أن يشتبك النص في جدل مستمر مع نصوص الأخر - مع شعرائه ومفكريه وفنانيه وفلاسفته. أليس هؤلاء هم صانعي النار المقدسة التي بُعث الى ديار الآخر من أجل أن يعود بها الى ديار الوطن؟" * كاتب مصري. أستاذ في جامعة اكستر البريطانية. وهو أعد المقالة باختصار وتصرف عن دراسة له نشرت بالإنكليزية في كتاب Writing the Self الصادر لمجموعة من المؤلفين عن دار الساقي عام 1998.