رمسيس عوض مفكر موسوعي ومترجم وأكاديمي مرموق، يعمل أستاذاً للأدب الإنكليزي في كلية الألسن جامعة عين شمس، نسيج وحده، ونموذج فريد للأستاذ الجامعي، ويشهد على ذلك تعدد اهتماماته وإسهاماته الأدبية والثقافية والفكرية، كما أنه ناقد ومؤرخ للأدب وموثق ببليوغرافي. يتسم إسهامه في الأدب العربي بالتميز، فموسوعته الببليوغرافية للمسرح المصري في الفترة من 1900 إلى 1930 نموذج يحتذى في مجال الدراسات المسرحية الجادة. قدم للمكتبة العربية 80 كتاباً يتناول بعضها الأدب العربي المعاصر مثل أدب توفيق الحكيم، وبعضها يتناول الحس الحضاري والوطني عند المشتغلين بالمسرح المصري، فكتابه «اتجاهات سياسية في المسرح المصري قبل ثورة 1919» يلقي الضوء على الدور الوطني الطليعي الذي اضطلع به المسرح المصري في إذكاء ثورة 1919، كما أن كتابه «شكسبير في مصر» الذي قامت مكتبة الإسكندرية بترجمته إلى اللغة الإنكليزية، يبرز الحس الحضاري المصري، إلى جانب ترجماته إلى العربية لأشهر فلاسفة ومفكري وأدباء الغرب أمثال: برتراند راسل، وجوليان هكسلي، ود.ه لورانس، فضلاً عن أنه مدافع نشيط عن حرية التعبير الأمر الذي جعله يؤلف خمسة كتب عن محاكم التفتيش، وثمانية كتب عن معسكرات الاعتقال النازية. ومن كتبه باللغة العربية: برتراند راسل الإنسان، جورج أورويل (حياته وأدبه)، الأدب الروسي قبل الثورة البلشفية وما بعدها، دوستيوفسكي في المنفى، الهولوكست بين الإنكار والتأييد، العرب ومحرقة اليهود، دراسات في الأدبين الإنكليزي والأميركي، الهرطقة في الغرب، توفيق الحكيم الذي لا نعرفه، الأدب الروسي والبريسترويكا، صورة اليهودي في الأدب الإنكليزي، موسوعة الرقابة والأعمال المصادرة في العالم، هل أنت شيوعي يا مستر شابلن؟ ومن ترجماته: محاكم التفتيش في فرنسا، ألبرت أينشتاين «سيرة حياته»، محاكمات أدبية وفكرية وفنية، وول سينكا، ترجمة رواية «ظلام في الظهيرة» لآرثر كيسلر... هنا حوار معه: من أنت؟ - أنا إنسان عادي كما ترى، نشأت في أسرة متوسطة الحال في محافظة المنيا (شمال الصعيد) عام 1929، أذكر في طفولتي أن شقيقي الأكبر لويس عوض كان يستكمل دراساته العليا في إنكلترا بجامعة كمبردج، وكان والدي يعمل كبيراً للمترجمين في السودان عندما كان تحت الحكم البريطاني/ المصري، وبعد إحالته إلى سن التقاعد، اختار المنيا موطناً له. والمنيا مدينة جميلة تقع على كورنيش النيل مباشرة. وعاد شقيقي لويس عوض من البعثة مبكراً بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، بعد أن أمضى عاماً واحداً هناك. وعندما حصلت على الثانوية العامة عام 1946، كنت أرغب في دراسة الفلسفة أو ألتحق بقسم الصحافة في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، ولكن لويس عوض الذي كان يعمل أستاذاً في قسم اللغة الإنكليزية، أرغمني على دخول قسم اللغة الإنكليزية، وكنت لا أرغب في هذا الاختيار. ومع ذلك فإني مدين بالفضل لشقيقي لويس عوض لأنه كان ينفق على دراستي في الجامعة. لكنه تسبب في شرخ كبير في علاقته بالعائلة عندما أصدر سيرته الذاتية (أوراق العمر) وتعرض لأشياء شديدة الخصوصية لا ينبغي أن تطرح على الملأ. كيف جاءت فكرة السفر إلى إنكلترا؟ - نظراً الى كثرة قراءاتي باللغة الإنكليزية، تحسنت لغتي الإنكليزية، وكانت وزارة التربية والتعليم في بداية الخمسينات تعقد امتحانات لأساتذة اللغة الإنكليزية لإرسالهم في بعثة إلى إنكلترا لدراسة الأدب واللغة الإنكليزية في جامعة إكسترا، جنوب إنكلترا للحصول على دبلوم الأدب واللغة الإنكليزية، وكنت سعيداً بهذه البعثة التي كانت على نفقة الدولة المصرية، وهذه المرحلة كانت مرحلة انتقالية مهمة، لأني اكتشفت أدباء ومفكرين وفلاسفة قرأت أعمالهم باللغة الإنكليزية، وعرفت أن هناك أدباء يفوقون الأدباء المحليين، (يقول ضاحكا) فمثلاً، كنت أعتقد أن لويس عوض يمثل ذروة الثقافة والعلم وكان احترامي لعلمه وثقافته تقترب من التقديس والإلوهية، فإذا بي أكتشف أن هناك من يفوقه علماً وثقافة أمثال: برتراند راسل، وجورج أورويل على وجه التحديد، على رغم أنني كنت واقعاً تحت تأثير أكبر متشائم في العالم وهو توماس هاردي، الذي قرأت رواياته بشغف شديد، والغريب أنني لم أكتب حرفاً واحداً عن هذا الرجل ولا أعرف السبب. وهذه المحطة كانت سبباً في غضب لويس عوض المكتوم تجاهي، لأنه كان يحب من المحيطين به أن يرفعوه إلى درجة الألوهية... وقد حصلت على دبلوم الأدب واللغة الإنكليزية، وكانت وزارة التربية والتعليم ترفض معادلة هذا الدبلوم بالماجستير، لأنها كانت حريصة على ألا يترك أعضاء البعثة العمل بالوزارة التي أنفقت عليهم لمدة عامين (1955 – 1957) للحصول على هذا الدبلوم وكنت محظوظاً، فبعد عودتي من البعثة التحقت بإحدى الكليات (المدارس الإنكليزية) وكان اسمها كلية السلام، كان مستوى الطلاب في اللغة الإنكليزية متفوقاً في شكل غير عادي، حيث كانت كل المواد تدرس باللغة الإنكليزية وكان الطالب الذي يتم ضبطه يتحدث باللغة العربية يدفع غرامة مالية. وأثناء عملي بكلية السلام واصلت الدراسة والتحقت بقسم اللغة الإنكليزية بجامعة عين شمس حتى حصولي على الماجستير والدكتوراه. ما سر اهتمامك بحرية التعبير وتسليط الضوء على معسكرات الاعتقال النازية؟ - هذا الاهتمام يرجع إلى حادثة هزتني بقوة، ففي أواخر الخمسينات كنت ضيفاً على لويس عوض في شقته في شارع القصر العيني، وكنت بالخارج وبعد العودة رن جرس التليفون وسمعت صوت والدي الذي أخبرني أن لويس عوض هاتفه وأخبره أن زوار الفجر اتوا للقبض عليه للزج به في معسكر اعتقال «أبو زعبل»، عقب طرده من الجامعة ضمن حملة سموها زوراً وبهتاناً «حملة التطهير». وهذه الصدمة أفقدتني توازني، ولولا وقوف بعض أصدقائه بجانبه في هذه المحنة لتهدم بيته. وكان لويس عوض على علاقة طيبة بالدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك، فذهبت إلى مكتبه عام 1959 وطلبت منه أن يمكنني من إرسال بعض الكتب إلى لويس عوض في محبسه، لأنه لا يستطيع العيش من دون قراءة. فوعدني بالاستجابة إلى مطلبي، ولكني اكتشفت الحقيقة المرة وهي أن ثروت عكاشة كان عاجزاً ومكتوف الأيدي لتلبية مطلبي. وبعد انتهاء فترة الاعتقال تم إبلاغي بموعد خروجه، فركبت القطار المتوجه إلى محطة «أبو زعبل»، ثم توجهت إلى بوابة المعتقل، وشاهدت لويس عوض ناحلاً كالشبح، وهو يخرج من دبابة الموتى، كان بقايا حطام إنسان. وأثناء ركوبنا القطار المتوجه إلى القاهرة، شعر لويس عوض بالجوع، وكان هناك بائع متجول يحمل صينية مأكولات يحوم فوقها الذباب، فطلب شقيقي سندويتش باذنجان، وأخذ يقضم السندويتش بطريقة نهمة، وبمجرد دخوله منزله كشف عن ظهره لكي ترى زوجته آثار التعذيب على جسده. وهذا الحادث جعلني أكرس حياتي للدفاع عن حرية التعبير، وليس اهتمامي بمعسكرات الاعتقال النازية ومحاكم التفتيش، سوى انعكاس لهذه التجربة الأليمة وتأسيس عليها. ما علاقة محاكم التفتيش ومعسكرات الاعتقال بما يجري في مجتمعاتنا؟ - للأسف نحن نعاني حملات تفتيش في الضمائر والعقول، وتضييقاً على الحريات منذ قديم الأزل، فهناك عصر، فيه كل شيء صاعد في السياسة وفي الفكر وفي الفن مثل عصر الخليفة المأمون، وهناك عصور كانت استبدادية مغلقة وجاهلة، فكان كل شيء في هبوط مثل العصر العثماني، ومن الناحية الثقافية، لنا أكثر من خمسين عاماً نحن أقرب إلى العصر العثماني من غيره من العصور بسبب أزمة الحريات. كما أن كتاباتي تسد العديد من الفراغات في الثقافة العربية وفي مقدمها معسكرات الاعتقال النازية التي تعرض فيها اليهود للتنكيل الوحشي، حيث اخترع النظام النازي وسيلة اقتصادية وفعالة لقتل أكبر عدد من اليهود، يتمثل في حشرهم في عربة متحركة تنبعث منها الغازات السامة وهو الأسلوب الناجح الذي اتبعه النازيون أثناء تقدمهم وزحفهم على الاتحاد السوفياتي. ويقال إن النظام النازي أمر باستخدام عربات الغاز لقتل يهود فلسطين، لكن هزيمة رومل (ثعلب الصحراء) في العلمين بالصحراء الغربية المصرية، حالت دون تنفيذ هذه الخطة. كما يذهب الدارسون إلى أن استحداث النظام النازي لبرنامج القتل الرحيم المعروفة ب T4 أي الإجهاز على الألمان ذوي العاهات العقلية والجسدية قد مهّد الطريق لنشوء فكرة إبادة ألمانيا النازية ليهود أوروبا. وفي كتاب هتلر المعروف (كفاحي) نراه يعلن بكل جلاء ووضوح أنه ليس هناك مكان للضعفاء في الدولة النازية، حيث يقول الفوهرر بالحرف الواحد في كتابه المشار إليه: «سوف تقوم الأنواع القوية بطرد الأنواع الضعيفة، لأن الرغبة في الحياة في شكلها النهائي سوف تحطم القيود المضحكة المفروضة على من يسمى بالفرد العطوف الرحيم لتفسح الطريق أمام الطبيعة البشرية لتحطم كل ما هو ضعيف وتمكين الأقوياء من أن تكون لهم الغلبة». وفي 14 تموز (يوليو) 1933 أصدر النظام النازي مرسوماً بمنع الأفراد الذين يعانون العيوب الوراثية والخلقية من الإنجاب، وهو الأمر الذي مكنهم من مزاولة القتل الرحيم. وقد تناولت هذه الجرائم بالتفصيل في كتابي «معسكر اعتقال تريبلينكا». كما عملت محاكم التفتيش في كثير من الأراضي الأوروبية، بخاصة في إيطالياوفرنسا وإسبانيا، ثم انتقلت إلى أميركا الجنوبية لحوالي ثمانية قرون، واشعلت محاكم التفتيش حروباً صليبية على الهراطقة داخل أوروبا وأميركا الجنوبية، كما اشتعلت الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا لعدة عقود، كذلك فإن كنائس الشرق الأرثوذكسية – بما فيها الكنيسة المصرية – التي تقول بالطبيعة الواحدة للمسيح هي أيضاً مهرطقة في نظر الكنيسة الكاثوليكية، حيث بدأت محاكم التفتيش بمندوبين عن البابا، ثم توسعت وتوحشت حتى أصبح لها سلطة تنافس سلطان البابا والأباطرة والملوك... وربما اصطدمت بها وانتصرت عليها أحياناً، وأشعلت محاكم عدة حروباً صليبية على المهرطقين، دعت لها الكنيسة، وقامت بها السلطات الزمنية عن إقتناع أحياناً، وتحت تهديد من الكنيسة أحياناً أخرى، ولتحقيق مصالح أحياناً ثالثة، وربما اختلط بعض من كل ذلك. فمحاكم التفتيش والحروب الصليبية على المهرطقين في جنوبفرنسا، أعادت الجنوب للكاثوليكية، وألحقت جنوبفرنسا بشمالها. ورصدت هذه الحوادث في كتابي «من أوراق الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في فرنسا». هاجمت توفيق الحكيم مرة، وصالحته مرة أخرى... ماذا عن علاقتك الملتبسة بالحكيم؟ - علاقتي بتوفيق الحكيم علاقة شديدة التعقيد، فقد كنت معجباً به في يفاعتي عندما قرأت له يوميات نائب في الأرياف، وعودة الروح. وعندما توفرت على عمل أول موسوعة ببلوغرافية عن المسرح المصري ووجدت عنتاً شديداً في نشرها من قبل المؤسسات الثقافية المصرية، وأردت بهذه الموسوعة خدمة الباحثين ولم أفكر قط أن أستفيد منها في تأليف بعض الكتب، ولكن هذا الصدود المثير للريبة جعلني أفكر في الاستفادة منها كباحث، وقلت لنفسي طالما أن هذا المجتمع الغريب لا يريد أن يخدم الباحثين، فلا حرج أن استفيد منه كباحث، فأصدرت كتابين عن توفيق الحكيم الأول بعنوان توفيق الحكيم الذي لا نعرفه» والثاني بعنوان: «ماذا قالوا عن أهل الكهف». وعندما زرت توفيق الحكيم في مكتبه وعرضت عليه الكتاب الأول غضب بشدة، لأن الكتاب يشير إلى العثرات التي وقع فيها توفيق الحكيم في بداية مشواره مع المسرح، حيث كان يدرس القانون في باريس على نفقته الخاصة، ويرسل مسرحيات هزيلة وتافهة لكي تمثلها فرقة عكاشة على المسرح بالقاهرة. ويبدو أنني – من دون قصد – ذكرته بأيام أليمة يريد أن ينساها، وكانت النتيجة أنني أعطيته مسودة الكتاب لكي ينظر فيها، فقال لي بالحرف الواحد «من الذي يوزك علي؟»، فأخذ يقرأ من ورقة كتبها سيلاً من الشتائم التي تسفه من قدري كباحث وتعتبر الكتاب عملاً غير لائق من ناحية، وبالغ التفاهة من ناحية أخرى. وأنه لا يليق بأستاذ جامعي أن يفعل ما فعلت. وبالصدفة التقطت الورقة التي كان يقرأ منها ووضعتها في جيبي في لحظة من لحظات انشغاله، وذهبت بالمخطوطة إلى دار المعارف لنشرها فقال لي حلمي مراد مسؤل النشر: إن توفيق الحكيم عضو بمجلس الإدارة ولا يستطيع نشر الكتاب إلا بعد موافقة توفيق الحكيم على النشر، ولكن الحكيم رفض نشر الكتاب. ولكن حلمي مراد كتب تقريراً يدين به توفيق الحكيم ويفسر رفضه لنشر الكتاب لأنه يعتبر ما جاء به يمس شخصيته، فهو يرفض نشر الكتاب، ليس لأسباب علمية بحتة ولكن لأسباب شخصية. وقررت نشر الكتاب الثاني بعنوان «ماذا قالوا عن أهل الكهف» يتضمن نقداً موضوعياً لمسرحية أهل الكهف التي نشرها الحكيم عام 1932 وأوردت رأي طه حسين في مقدمة المسرحية، ويعلم أي دارس لأدب توفيق الحكيم أن أهل الكهف كانت أولى الخطوات الجادة لتوفيق الحكيم في مجال المسرح وفتحت أمامه أبواب الشهرة، وعندما قرأه توفيق الحكيم قال لي أنت باحث من طراز فريد.