لا تستقيم الكتابة عن الشاعر الفرنسي جان غروجان إلا انطلاقاً من أعماله الشعرية والنثرية ومن الترجمات التي أنجزها وفي مقدّمها الكتب النبوية القديمة ومعاني القرآن وانجيل يوحنا. وان كان شعره التوراتي الروح، المسيحاني الرؤيا، لا يختلف في جوهره عن نصوصه السردية التي استعاد عبرها بعض الموروث الدينيّ فأن ترجماته لا تبتعد بدورها عن صنيعه الإبداعي بل هي ترسّخ خطابه الأدبي والديني وشغفه القديم بالشرق، أرض النبوءات والوحي وموئل الأديان الثلاثة. وقليلاً ما ترجم غروجان نصوصاً حديثة بل انصرف كلّ الانصراف الى الكتب المقدّسة والأسفار القديمة. فالترجمة في نظره ليست مجرّد نقل نصّ من لغة الى أخرى بل هي كتابة نصّ في لغة غير لغته الأمّ. ولم يتوان مرّة عن الاعتراف بجرأة أنه لم يكتب قصائده ونصوصه إلا على تخوم ترجماته. وربّما لم يبالغ غروجان في مقولته هذه فترجماته أعمال إبداعية صرفة وكان لها أثر بيّن في نتاجه الأدبي ككل. وعوض أن يلجأ كشاعر مثلاً الى حقل النظرية الأدبية أو النقد الأدبي وجد في الترجمة خير ملاذ أدبي ولغوي وديني. يصعب اختصار جان غروجان في صورة الشاعر وحدها حتى وان كان الشعر شغله الأول وهمّه الرئيسيّ أو طريقته في "الحضور" وليس الوجود فقط كما عبّر الكاتب الفرنسي فيليب دولافو في كلامه عنه. فالناثر فيه لا ينفصل عن الشاعر ولا عن الكائن الدينيّ المأخوذ بل المسحور بالموروث المقدّس والأديان الثلاثة والنبوءات والرؤى ولكن المنغرز في الحين عينه في تربة الحياة وأرض العالم والفصول. ونصوصه السرديّة تفيض شعراً واشراقاً تماماً مثل قصائده ومراثيه أو "مزاميره" الخاصّة جداً. وكم أصاب الكاتب الفرنسي لوكليزيو حين وصفه ب"الوحداني" و"العابر" بل "عبّار العصر" الذي "يجتازه بهدوء، من غير أن يحدث ضجّة ولكن بخطوات كبيرة ومشية راسخة وواثقة". وتحدّث لوكليزيو أيضاً عن السترة السوداء التي لا يتخلّى عنها غروجان ملمحاً الى مظهره الكهنوتي. والشاعر كاد أن يصبح كاهناً ودرس اللاهوت وعاش حياة شبه رهبانية. لكنّه شعر في قرارته أنّ رسالته أعمق وأبعد من أن يحصرها مسلك أو مدرسة. وكان ان سمع نداء الشرق، نداء الأرض القديمة والمقدّسة فلبّى النداء وجاء الى الشرق متنقلاً بين لبنان وسورية وفلسطين والعراق ومصر. كان ذلك في الثلاثينات أي قبل أن ينصرف الى الكتابة والترجمة كلّياً. وإذا سألته: "لماذا الشرق؟" يجيب بوضوح: "لأنه أشدّ أصالة وحقيقته هي الحقيقة الكبرى". ويقول غروجان: "ذهبت الى الشرق لأرى". وبلغ ولعه بالشرق الديني مبلغاً كبيراً حتى أنّه بات يحيا وحدة الأديان الثلاثة. وقال مرّة: "لو كان لدينا القرآن لما كتبت حرفاً". وعندما عاد من الشرق انكبّ على ترجمة معاني القرآن وقد شجّعه على المضيّ في الترجمة لويس ماسينيون "الإبراهيمي" النزعة. ولئن احتل المسيح جوهر تجربته وكان في قلب أعماله و"النار المركزية" فيها كما يعبّر لوكليزيو فأن مسيحيّته اختلفت عن مسيحية الشعراء الفرنسيين الكاثوليك من أمثال بول كلوديل وبيار إمانويل وسواهما وقد مال بوضوح الى المسيحية الشرقية، الى المسيحية "المهرطقة" بحسب الكنيسة الكاثوليكية والمتمثلة في النسطورة. ودافع غروجان عن "المهرطقين" الذين حاربتهم الكنيسة قديماً معترفاً بفرادة فكرهم المسيحيّ. ليس جان غروجان شاعراً صوفياً حتى وان عاش حياة شبه نسكية. قد يكون شاعراً دينياً في المعنى الرحب للانتماء الديني. ومعجمه الشعري يبتعد عن المعجم الصوفي الصرف وعن التعابير العرفانية "الجاهزة" والمصطلحات المعروفة. "شعره، كما يقول لوكليزيو، مصنوع من حركة الحياة، من عبور الفصول والأيام، من سطوة النبات ومن إرادة البشر". ومهما تنسّك الشاعر أو استسلم لرؤاه الدينية وتجربته الداخلية فهو يظل أسير الحياة المتفجّرة وسليل الطبيعة المشرقة وصديق الضوء والشمس وأليف الظلال والحقول. ولعلّ نزعته الى الطبيعة دفعت الكاتب كلود روا الى تسميته ب"الشاعر المزارع" وقال فيه: "شاعر ومزارع؟ شاعر لأنّ رأسه ليس في الغيوم، بل لأنه يحب الطبيعة اضافة الى شغفه بالدقة ولذّة الرؤية الصادقة تلك التي تقود تلقاءً الى الكلمة الحقيقية". إلا أنّ نزعة الشاعر الى الطبيعة ليست مجرّد نزعة عاطفية أو وجدانية، كيلا أقول رومانطيقية في معناها الرائج والأليف بل هي نزعة ميتافيزيقية وروحية، نزعة "حضور" وكينونة. فالطبيعة مرآة الماوراء وفضاء الوجود والغياب، كتاب الولادة والموت، المخيّلة والذكرى. وشعر غروجان الذي يسمّيه لوكليزيو "شعر النبع الصافي، وماء الحقيقة" يسعى الى قول "اللامرئي" عبر اللغة التي تستخدمها الطبيعة كما يعبّر الكاتب دولافو. شعر اللامرئي يتجلّى على صفحة المرئي: في ضوء الشمس وأوراق الأشجار وذهب السنابل. "هنا كلّ شيء ساطع، جديد، سري ولكن على قساوة نادرة". فالشاعر يحاول جاهداً أن يجعل "الحضور" حاضراً أو أن "يحضر" العالم. هكذا يصبح للطبيعة حضور جوهري بل حضور سحريّ على غرار ما تجلّت الطبيعة في شعر رامبو "الوثني" أو "الصوفي الوثني". وهكذا أيضاً تصبح الأرض هي "الأرض الموعودة" التي يحتفي بها الشعر ويكشف ملامحها عبر كشفه عن "اللازمني" الكامن في الذات الإنسانية وفي داخل "الكائن". كأنّ سرّ تجربة غروجان يكمن في توفيقه أو مصالحته بين الطبيعة والذات، بين الأرض والكائن، أي بين المرئي واللامرئي، بين العالم والموت. "هل نجسر على تصنيف جان غروجان بين الشعراء؟" يسأل فيليب دولافو. وسرعان ما يجيب قائلاً: "اننا لنعتبره من ثمّ شاعراً من كبار شعراء العصر". جان غروجان شاعر كبير حقاً، شاعر استطاع أن يخرج من إرث اللغة الفرنسية الى تراث العصور القديمة والى آفاق العصر الذي يتخطى حدود الأوطان واللغات. شاعر توراتي معاصر، رؤيوي ولكن متجذّر في الحياة، يحيا على "جبل سيناء" كما قال فيه الشاعر بيار أوستر وفي صحراء الشرق، في معترك العالم والعصر. لغته منصهرة في جوهرها، لا تقول أكثر ممّا ينبغي أن تقول، لا تضيف ولا تفيض، لغة مختزلة على رغم نزعتها الرثائية أو الإنشادية في أحيان، لغة تستحضر إرثها الديني لتشهد على الرؤيا. "الشعر هو الكثافة حين لا يكون من تفسير" يقول غروجان. وحين يكتب الشاعر فهو إنما يسعى لأن يجعل "الماء ينبثق في البريق". * يستضيف معهد العالم العربي في باريس الشاعر جان غروجان في لقاء تكريمي يشارك فيه الكاتب الفرنسي لوكليزيو والروائي المغربي الطاهر بن جلون وآخرون. يقدّم الشاعر واللقاء الكاتب المعطي قبال المسؤول عن برنامج "خميس" المعهد. السادسة والنصف من مساء الخميس 13 الجاري. والبادرة هي الأولى التي يكرّم فيها جان غروجان عربياً. والشاعر الفرنسي من مواليد 1912 ومن مؤلفاته: أرض الزمن 1946، كتاب العادل 1952، ابن البشر 1953، الأنبياء 1955، رؤيا 1962، شتاء 1964، مراثٍ 1967، المجد 1969، المسيح 1974، الأيام الجميلة 1980، إيليا 1982، ملكة سبأ 1987، ضوء الأيام 1991.