استضاف الجناح الفرنسي في معرض القاهرة الدولي الثاني والثلاثين للكتاب الذي انتهت فعالياته منذ أيام الكاتبة الفرنسية باسكال روز الحائزة على غونكور لعام 1996 عن روايتها "الصائد صفر"، وبالإضافة الى هذه الرواية لم تكتب روز إلا مجموعة قصصية واحدة هي "حكايات مشوشة"، لكنها اصدرت في آذار مارس الماضي روايتها الثانية "خُردة". وتتميز هذه الروائية بالبساطة ووضوح الحبكة وامتزاج الخيال بالواقع. وروايتها الاولى "الصائد صفر" تحكي ببساطة عما تخلفه الحرب في نفوس البشر. فالبطلة لورا فتاة مات والدها في الحرب العالمية الثانية من دون أن تراه، وكان يعمل في البحرية الاميركية عندما قتله أحد الانتحاريين اليابان. ولا تستطيع تلك الفتاة منذ طفولتها ان تتخلص من الخوف الدائم الذي شب معها، لأن روح احد هؤلاء الكاميكاز تطاردها اينما ذهبت. اما "خُردة" فتحكي قصة طبيبة بولينا بارهايم ابنة صاحب مصنع حديد التي كرست نفسها من أجل راحة العجائز. أحبت بولينا شاباً بسيطاً جون بافيليسكي لنحافته وشحوبه المستمر وكان حبها له ايضاً نوع من الشفقة. ويضطر والدها الى بيع مصنع الحديد بعد تفكيكه لرجل صيني يعيد تشييده في بلده ويشتري ارض المصنع ويقيم عليها متنزهاً كبيراً للترفيه. حول روايتيها ومجموعتها القصصية كان هذا الحوار مع روز: المتابع للأدب الفرنسي المعاصر يلاحظ ازدياداً في الكتابات النسائية، بخاصة الاصدارات الروائية، هل تشاركينا الرأي؟ - لا احب أن اقول إن ثمة أدباً نسائياً وأدباً ذكورياً، شخصياً تأثرت جداً بمارغريت دوراس، خصوصاً بعدما قرأت كتابها "افتتان لول ف شتاين"، بسبب سيدتنا كتبت، وربما لهذا السبب ايضاً تكتب نساء كثيرات الآن، فمؤلفات دوراس وناتالي ساروت جذبت كاتبة وراء أخرى وهكذا. ولكن كتابات دوراس وساروت بالاضافة الى سيمون دي بوفوار بدأت منذ فترة طويلة، وأنا أقصد الكتابات النسائية الشابة؟ - اتفق معك تماماً. في فرنسا الآن وجيل من الشابات لديهن كتابات غنية وثرية جداً، ولكنني أظن أنه بفضل دوراس وساروت وسيمون دي بفوار التي نسيت ان اذكرها في البدء ظهر هذا الجيل، وربما كان النساء يتكلمن بتلقائية اكثر عن دواخلهن، سواء عن الجسد أو العلاقات الثنائية. لا تنس سوق التي اتسعت جداً في السنوات الأخيرة وتكلفة الكتاب اصبحت منخفضة جداً. ولا يمانع أصحاب دور النشر في اصدار عدد كبير جداً من الكتب كل سنة. هل أنت مقلة في الكتابة؟ أن حصيلة أعمالك روايتين ومجموعة قصصية واحدة؟ - هذا صحيح، فثمة من ينشر كتاباً كل عام تقريباً، أما أنا فاستغرق وقتاً طويلاً في الكتابة. "الصائد صفر" كتبتها خلال عامين، و"خردة" خلال عام ونصف العام تقريباً، انا اكتب ببطء شديد وبصعوبة بالغة، وعندما أبدأ لا أعلم الى أين سينتهي بي المطاف، ارتكز على نقطة البداية وعلى صورة ذهنية قوية جداً ثم اكتب هذه الصورة. لنتكلم اذن عن روايتيك، ثمة أفكار رئيسية تهيمن على كتابتك: الخوف، القراءة والموت، لماذا تسيطر هذه الأفكار بالذات على شخوصك؟ - الخوف من الموت كلي الحضور في أعمالي، قد نموت وأنا وأنت الآن في مكاننا هذا، وثمة من لا يعير الموت انتباهه، وصور الموت حاضرة في ذهني منذ الطفولة ودائماً أشعر بأنه سيأتي في أي لحظة، أما القراءة فتجعلني اقاوم هذا الخوف. الحب موجود في روايتيك ولكنه يضيع في النهاية ولا يبقى حتى أثره؟ - لا أعلم. اعتقد بوجود الحب السعيد في الحياة، ولا أعلم إذا كان موجوداً فعلاً في الكتب. بقاء الحب مدة طويلة امر نادر، انه يحتاج الى قديس، فالحب والحياة الواقعية لا ينسجمان معاً. لورا في "الصائد صفر" مثلاً لم تعرف كيف تحب، ولم يكن في وسعها ان تحب. أما بولينا في "خردة" فهي شخصية غريبة جداً. احبت جون لنحافته لانها كانت تريد ان تساعده كما كانت تساعد العجائز. ونحن غالباً ما نقول إن المرأة هي التي تهب الحياة لأنها هي التي تحمل وتلد ولكن بولينا على العكس فهي امرأة تهب الموت، وكأن الموت يعود ثانية الى رحم الأم. نشعر أيضاً أن ثمة تقليلاً من دور العائلة؟ - نعم، لقد أصبح من النادر عندنا ان نرى اسرة يسود التناغم بين اطفالها، فأخطر مرحلة هي الطفولة وفيها نخضع تماماً لسلطة الآباء ولا نستطيع ان نفهم الأمور، ربما لهذا السبب ارى الترابط العائلي صعباً على رغم ان لدي ابنة، واظن ان الشيء نفسه يحدث معها. رموز كثيرة تظهر في عملك الأخير: تفكيك المصنع الحديد وتسريح عماله وبيعه إلى صيني، ويشتري أحد الأميركيين أرض المصنع ليقيم فيها متنزهاً كبيراً، ماذا تقصدين من ذلك؟ - انني انتقد مجتمع الترفيه في الغرب، انقد هذا المجتمع وترفيهه المنظم. إنهم يأخذون بأيدينا ليرفهوا عنا. في المساء نشاهد التلفزيون وفي ايام العطل نذهب إلى المتنزهات، فنحن هكذا، نعتبر البشر كالقطيع، فتختفي الذاتية الفردية، وهنا يكون الترفيه مزيفاً، فالتسلية الحقة تنبع من ذات الشخص. ومن جهة اخرى، أرى أن المجتمع قضى على جوهره. كل شيء أصبح مصطنعاً، وهذا من شأنه أن يحدث اضطراباً في مستوى العلاقات الانسانية، فالناس يخافون من بعضهم بعضاً. في باريس حيث اعيش لا يستطيع سكان الاحياء الغنية التفاهم مع سكان الاحياء الفقيرة، فالعنف بينهما يمارس في اتجاهين. لقد انغلقنا على أنفسنا، البشر يسيرون في الشوارع لأنهم إما يريدون الذهاب الى عملهم أو لأنهم يرغبون في التسوق، اننا لا نتكلم مع بعضنا، والاطفال يعانون لأن امهاتهم يعملن. المجتمع الغربي هادئ الى اقصى حد، ويعيش الناس من أجل تسديد اجرة المسكن ولرد ما اقترضوه لشراء حاجياتهم، هذا كل ما في الأمر. أهنا تكمن دلالة استخدام كلمة "خردة" عنواناً للرواية؟ - أحب هذه الكلمة، انها تشير إلى مقصدي، انها "الفضلات" المكان الذي أصبح ُحطاماً، الناس الذين كانوا يعملون وفي لحظة اعتبروا كأنهم فضلات، لا يقدرون على فعل شيء، وبعد زوال المصنع الحديد اعطوهم القليل من المال ليسدوا به رمقهم في انتظار الموت. مقطع من رواية "خردة" هذا العام ضرب مرض غريب اطفال المدينة. في سجلات المستوصف اسماء صبيان في الثالثة عشرة تغيروا، ظهرت لحاهم. لكنهم احتفظوا بعضلات طفولية. لم يكن ثمة انتفاخ في سواعدهم، او في ربلات سيقانهم او في بطونهم. اجسادهم ناعمة. كنا نراهم على المقاعد المخصصة لفترات الاستراحة، فيما يلعب رفاقهم بالكرة، او يمشون مختبئين في الشوارع من دون ان يركضوا او يصيحوا. وفي البيت، يتصلبون امام التلفزيون حتى تغلق امهاتهم الجهاز. وعلى رغم كون هنري بارهايم، مدير المصنع، على شفا الانهار فقد اصبح اختصاصي العاصمة. فحص كل طفل بدقة، كان يجعله يرفع اثقالاً تزداد بالتدريج. بدا الاختصاصي غير قادر على ايجاد العلاج، نصح بأوراق السبانخ وبالبحر. فأعطوا أوراق السبانخ ونصبوا لهم مخيماً على ساحل رملي، تلون الصبيان، كان منظرهم يثير الالتباس الى حد ما. بعد عامين، اغلق المصنع، وترك قسم كبير من السكان هذه المنطقة في الشرق في اتجاه الشمال او الجنوب، وأغلق المستوصف أبوابه ولم يعد ثمة من يهتم بسجلات هذا المرض الغريب الذي يبدو انه اضيف الى العائلة الكبيرة للأمراض المستعصية من دون ان يبلغ حد الاهتمام الوطني لأن النشرات التلفزيونية لم تعره الاهتمام الكافي. ومن بين الأطفال المعنيين، غادر عشرة المدينة بعد اغلاق المصنع، وذابوا وسط سكان البلد، مواصلين حياتهم كيفما اتفق. لم يعانوا آلاماً خاصة، ولم يكونوا ضعيفي البنية، ولم تصبهم الميكروبات اكثر مما تصيب الآخرين. كان القلق هو الغالب على وجوههم الطفولية. فرفاقهم تجنبوهم وهم انفسهم لم ينشدوا صحبة. كانوا يعيشون في العزلة، كأنهم استقروا جاهدين في وسط المدينة. واستثناء، لم يكن جون بافيليكس قلقاً، كان يقرأ. منذ الحضانة، كان يتلو بصوت عال الابجدية من اولها الى آخرها وبالعكس ويفضل ان يبقى مع كتاب على ان ينشغل بأي شيء آخر. قلقت امه، فهي لم تشاهد طفلاً مثله. وعندما اصبح نحيفاً كالسلك وذابلاً كجوزة اتهمت الكتب في بادئ الأمر. عندما نقرأ لا نتحرك، وكان جون يتحرك بصعوبة، كونه مريضاً، فإنه لا يستطيع التحكم في ساقيه وذراعيه. كان كما لو كان في داخله رقصة القديس غي 1 التي تحول بينه وبين الامساك بكأس من دون ان يحطمه، او العبور من باب من دون ان يصطدم به، كتيار كهربائي غير منتظم. كان والده ينام نوماً مضطرباً ويعيش جون في الخوف من استيقاظه عند كل مرة يتحرك فيها. كانت القراءة تسكن روعه، وتسكن روع أهل المنزل. وقررت السيدة بافيليسكي ان تنشط ميلاً لديه. فقد خلصت جون من عذاب جلسات التمارين الرياضية التي قررها المختص، وأقنعت زوجها ان يترك طفله يحصل على البكالوريا في الأدب على عكس ابنائها الثلاثة الكبار الذين توجهوا جميعاً الى علوم الكومبيوتر. وبدا لها انها حلت مشكلة ابنها... لا قيمة للأطفال لإثني عشر طفلاً مريضاً امام الإعصار الذي مرت به المدينة، فمن يتوقف عندهم؟ حفنة من العائلات، في حين ان اكثر من ألف عائلة تخشى على وجودها. * مقطع من الرواية التي صدرت عن دور نشر "ألبان ميشيل" آذار مارس 1999. 1 القديس غي ذاع صيته في العصور الوسطى، كان الناس يلتمسون مساندته في التخلص من حالات الصرع.