يقوم البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة الى الاماكن المقدسة في فلسطين من 20 الى 26 آذار مارس الجاري، اي بعد مرور ما يزيد قليلاً عن شهر على توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقاً مع الفاتيكان وصف بأنه تاريخي. ولعل المكسب الحقيقي للفلسطينيين من هذا الاتفاق يكمن في مقدمته، بدرجة مساوية لما ورد في نصه، او تزيد عنها اهمية. ذلك ان تلك المقدمة تحمل صيغة سياسية راجع المقدمة والنص في هذه الصفحة تقول ان "ايجاد حل متكافئ لمسألة القدس يقوم على اساس القرارات الدولية امر ضروري لايجاد سلام عادل ودائم في الشرق الاوسط". ولم يغب معنى هذا الكلام بالطبع عن اذهان المسؤولين الاسرائيليين الذين فهموا منه اشارة واضحة لا لبس فيها الى قرار مجلس الامن الرقم 242 الذي ينطبق على الاراضي الفلسطينية التي احتلتها اسرائيل عام 1967، بما فيها القدس مثلما ينطبق على مرتفعات الجولان السورية ومن قبلها، ومثلها، شبه جزيرة سيناء المصرية. كما ان جملة "على اساس القرارات الدولية" تعني ايضاً تلك القرارات التي تطلب عدم تغيير وضعية القدس وطابعها التاريخي والديني ووضعها القانوني. والواقع ان الفاتيكان ومنظمة التحرير الفلسطينية نصّا صراحة على ذلك، بقولهما انهما "يريان ان اي قرار من جانب واحد يؤثر في الوضع الخاص للقدس غير مقبول اخلاقياً وقانونياً". يقول المفوض العام الفلسطيني لدى المملكة المتحدةوالفاتيكان السفير عفيف صافية ان "للفاتيكان مع الشعب الفلسطيني اطول علاقة عبر التاريخ"، مشيراً الى مولد المسيح ورسالته في فلسطين. ويضيف ان الفاتيكان لم يعترف في العام 1948 بدولة اسرائيل عندما اعلن ديفيد بن غوريون الدولة العبرية. ولكن على رغم قدم العلاقة الفلسطينية - الفاتيكانية، فإن احداث القرن العشرين، خصوصاً نصفه الاخير في ما يتعلق بفلسطين، فرضت نفسها كواقع كان لا بد لدول كثيرة، منها الفاتيكان كسلطة زمنية وروحية، ان تتعامل معه. وهكذا، ومع ان تسمية "الاراضي المقدسة" تفترض مفهوماً دينياً يضفي مفهوم الوحدة على تلك الاراضي، الا ان زيارة الى اماكن دينية باتت اليوم تحت سيادتين سياسيتين، واحدة في اسرائيل نشأت في العام 1948 وحاولت التمدد بالاحتلال التوسعي عام 1967 وواحدة فلسطينية نشأت لكنها لم تكتمل وما زالت في طور الصيرورة متجهة نحو الاستغلال السياسي من خلال - ومن اجل - تحرير الاراضي التي احتُلت في حرب 1967. في ظل وجود هذا الواقع السيادتين سعت منظمة التحرير الفلسطينية، واخفقت كما هو واضح، الى ترتيب زيارة البابا بحيث تصل الى الاردن اولاً لينتقل من هناك بطائرة هليكوبتر الى الاراضي الفلسطينية كي لا تقطف اسرائيل اي ثمار سياسية من خلال وصول البابا الى مطار اللد مطار بن غوريون قرب تل ابيب حيث ستكون الاعلام الاسرائيلية مرفوعة. لكن ما حدث هو ان قداسة البابا سيصل بالفعل الى هناك وسط ضجة اعلامية اسرائيلية، واهم منها غربية، واسعة وسيقضي في اسرائيل معظم وقت الزيارة وسيرافقه حرس اسرائيلي الى باب كل من كنيسة القيامة والمسجد الاقصى في القدس، حيث سيرافقه في زيارة المكانين المسؤول عن ملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية السيد فيصل الحسيني. وسيمضي البابا يوماً في مدينة بيت لحم الفلسطينية حيث كنيسة مهد المسيح. في الجانب الاسرائيلي تولى حاييم رامون ترتيبات الزيارة، وسيزور البابا نصب ياد فاشيم لضحايا المحرقة النازية وبيت رئيس الدولة العبرية عيزر وايزمان، لكنه سيلتقي رئيس الوزراء ايهود باراك في موقع ديني في الجليل شمال. ومع ان الجانب الفلسطيني دعا البابا لزيارة المغطس الموقع القريب من اريحا والذي عمّد فيه يوحنا المعمدان السيد المسيح في نهر الاردن، الا ان هذه الزيارة لن تتم في ما يبدو خصوصاً وان الفلسطينيون لا يملكون حالياً صلاحية الاشراف على هذا الجزء من الزيارة الى ذلك المكان الذي فيه موقع عسكري اسرائيلي ضمن المنطقة "ج" اي الخاضعة لاشراف عسكري كامل. وبرغم ما تقدم فإن الفلسطينيين ، باعتراف مسؤولين اسرائيليين قطفوا الثمار السياسية الأهم سلفاً، قبل زيارة قداسة البابا، من خلال توقيعهم الاتفاق مع الفاتيكان قبل نحو شهر من بدء الزيارة. "الحياة" التقت السفير عفيف صافية لتستوضحه عن اهمية هذا الاتفاق فبدأ بإعطاء خلفية تاريخية عن الفاتيكان وعلاقته بالفلسطينيين قال: "بوسع المرء ان ينظر الى الفاتيكان كمؤسسة غير حكومية، كبيرة جداً، كإمبراطورية روحية تمتد صلاحياتها من اسكندنافيا الى استراليا. وانا من انصار النظر اليها كإمبراطورية روحية تمتد صلاحيتها الى كل الكنائس والديانات الاخرى. والفاتيكان له سلطة زمنية وروحية. السلطة الزمنية عبر القرون الماضية كانت بالغة الاهمية. كانت هناك الامبراطورية الرومانية عندما اعتنقت المسيحية. وعلى مدى الزمن تراجعت الى ان اصبحت دولة مهمة في شبه الجزيرة الايطالية. ومع توحيد ايطاليا صارت صلاحياتها - زمنياً - مقتصرة على دولة الفاتيكان. ولكن حتى توحيد المانيا في العام 1870، كانت دولة البابا تقوم على جزء كبير من شبه الجزيرة الايطالية. اذاً عندها سلطة زمنية وروحية، والسلطة الروحية تمثل في نظر كثيرين ايديولوجية في غاية الاهمية. والسمة الاساسية هي المركزية، ما يعطيها قوة وثقلاً. الفاتيكان ينظر الى الشعب الفلسطيني على اساس ان له علاقة مميزة معه. ويعتقد الفاتيكان بأنّ له مع الشعب الفلسطيني اطول علاقة عبر التاريخ. ذلك ان السيد المسيح ولد في فلسطين، والرسالة المسيحية ولدت في فلسطين، واول تجمع مسيحي كان فلسطيني، واول بابا بطرس خرج من فلسطين الى روما. وعندما قابل ياسر عرفات البابا للمرة الاولى عام 1982 قال له: انا ثاني فلسطيني يأتي الى روما… لم أجيء لاحتلها وانما جئت لاحتل قلوب اهل روما. اذاً، الفاتيكان يعتبر ان اطول علاقة له على المستوى الدولي هي مع شعب فلسطين. اهتمام الفاتيكانبفلسطين كان دائماً يتمحور حول كونها الارض المقدسة التي فيها الاماكن المقدسة وفيها الطوائف والتجمعات المسيحية. كان هذا مدخل اهتمامه. وكان الفاتيكان الى عهد قريب متحفظاً جداً تجاه الحركة الصهيونية، وقد رفض في العام 1948 ان يعترف بدولة اسرائيل. وقبل ذلك، في العام 1947، لعب دوراً اساسياً عندما طرح مشروع تقسيم فلسطين، اذ اقترح فكرة ان تكون القدس corpus seperatum، اي ان تكون "جسماً منفصلاً" ذا وضع خاص. لكن طرأت تغيرات اخرى على موقف الفاتيكان في السنوات الثلاثين الماضية. اذ بدلاً من ان يستمر في المطالبة بتدويل القدس صار الآن يطالب بضمانات دولية في القدس. وموقف الفاتيكان الحالي هو ان ثمة تطلعات قومية لشعبين يجب تلبيتها وثلاثة حقوق دينية يجب احترامها. بعبارة اخرى ان هناك شعبين وثلاثة اديان. وموقف الفاتيكان كما عبّر عنه مراراً وتكراراً كبير الأساقفة جون لوي تيران الذي هو وزير خارجية الفاتيكان، هو ان القدسالشرقية جزء من الارض المحتلة التي ينطبق عليها قرار مجلس الامن الرقم 242. وجون لوي تيران وزير الخارجية كان حتى العام 1980 الرجل الثاني في السفارة البابوية في لبنان، وهو يتحدث العربية بطلاقة، وهو مهندس انفتاح الفاتيكان على الدول العربية، وانجز في الآونة الاخيرة بناء علاقات ديبلوماسية مع ست دول عربية هي الكويت والبحرين والامارات وقطر وعمان بعد شهر. وقبل شهرين اعتمد السفير البابوي لدى مصر سفيراً ايضاً للفاتيكان لدى الجامعة العربية. وأعطوا لمندوب الجامعة العربية في روما وضعاً خاصاً لديهم. عندما بدأ مؤتمر مدريد في العام 1991 كانت هناك ضغوطات كبيرة على الفاتيكان تقول انه لا يصحّ، في العالم المعاصر، ان لا يفتح الفاتيكان حواراً مع اسرائيل. وعندما رأى المسؤولون في الفاتيكان ان كل الدول العربية جلست تتحدث الى اسرائيل، تقرر ان يجلس الفاتيكان الى طاولة المفاوضات. وكان امنيتنا نحن ان يكون تقدم مسارهم حوار الفاتيكان مع اسرائيل منسقاً ومتوازناً مع مساراتنا نحن ولكن - للاسف - تقدم مسارهم بسرعة بينما تعطلت مساراتنا نحن، فبنى الفاتيكان علاقة ديبلوماسية مع اسرائيل ووقع الطرفان مذكرة التفاهم الثنائي للمرة الاولى في العام 1993، ثم وقّعا اتفاقاً في تشرين الثاني نوفمبر 1997. اما بالنسبة الى علاقة منظمة التحرير الفلسطينية مع الفاتيكان، فقد أوفدني ياسر عرفات في العام 1980، وكنت آنذاك اعمل في مكتبه، كموفد شخصي له حاملاً رسالة الى قداسة البابا في 17 ايلول سبتمبر من ذلك العام، والتقيت البابا لخمس دقائق اعقبها لقاء لي امتد لساعتين ونصف ساعة مع وزير خارجية الفاتيكان آنذاك الكاردينال سلفرستيني. للعلم والتاريخ، كان هناك اعتقاد سائد في ذلك الحين يقول بوجود مؤامرة من المخابرات المركزية الاميركية يقودها بولنديون… بريجنسكي بولندي، مناحيم بيغن بولندي وبابا الفاتيكان بولندي! وكان هناك من يقولون بأن البابا جاءت به ال"سي. آي. ايه". البابا استقبل عرفات للمرة الاولى في 15 ايلول سبتمبر 1982 بعد خروجنا من لبنان، وعلى فكرة كنا في روما بعد لقائنا مع البابا عندما تناهى الى علمنا في الفندق ان الجيش الاسرائيلي دخل الى بيروت الغربية، وبعد يوم علمنا ان مجازر صبرا وشاتيلا قد ارتُكبت. البابا استقبل عرفات في 1982 علماً ان عرفات لم يكن قد زار حتى ذلك الحين في اوروبا الغربية سوى المستشار النمسوي برونو كرايسكي الذي ربما كان اجرأ من غيره لأنه يهودي، وشواريس في اسبانيا، والحكومة البرتغالية. وجاءت بداية العلاقة بعدئذ مع الفاتيكان". قالت "الحياة" للسفير صافية ان الاسرائيليين قالوا بعد توقيع منظمة التحرير اتفاقها مع الفاتيكان في 15 شباط فبراير 2000 ان هذا الاتفاق يتناقض مع التزام من الفاتيكان لاسرائيل بعدم التدخل في المفاوضات بين الدولة العبرية والفلسطينيين والا يتدخل في مسائل من بينها ترسيم الحدود بين اسرائيل والفلسطينيين. قال صافية: "موقف الفاتيكان واضح، وصار واضحاً تماماً من خلال اتفاقنا معه. بالنسبة الينا يعتبر توقيت توقيع الاتفاق مع الفاتيكان في غاية الاهمية. ذلك ان اسرائيل كانت تريد ان تستغل زيارة البابا كنوع من اضفاء الشرعية على الوضع القائم الآن في القدس. الفاتيكان ونحن اردنا ان نبرم الاتفاق قبل الزيارة كي يتضح موقف الفاتيكان القائل بأن الوضع القائم في القدس غير قانوني، وان كل الاجراءات الأُحادية الجانب هي، قانونياً واخلاقياً، غير مقبولة. توقيت توقيع الاتفاق لم يكن صدفة وانما كان اختياراً واعياً ومتعمداً من الطرفين بقصد عدم السماح لأي طرف باستغلال زيارة البابا التي هي في نهاية الامر زيارة رجل متقدم في العمر يريد الحج الى الاماكن المقدسة. خلال التفاوض بيننا وبين الفاتيكان تعمدنا ان نجتمع مرة في الفاتيكان ومرة في فلسطين، وعندما اجتمعنا في فلسطين تمت اللقاءات في القدس وبيت لحم. وقبولهم الاجتماع معنا في القدس كان له منذ ذلك الحين 1998 معنى مهماً. وكنا نصدر بياناً صحافياً بعد كل اجتماعاتنا. الاتفاق يقول بأن ايجاد حال عادل للقدس قائم على اساس القرارات الدولية امر ضروري لتحقيق سلام شامل، والطرفان يعتبران ان اي قرارات او اجراءات او افعال احادية الجانب هي غير مقبولة قانونياً واخلاقياً. ويقول ان الجانبين اتفقا على ضرورة وجود ضمانات دولية للاماكن المقدسة والوضع الراهن، وهي صيغة موجودة منذ ايام الاتراك. معنى ذلك ان الفاتيكان يعتبر احتلال القدس غير شرعي، والاجراءات الاحادية الجانب غير مقبولة، وعندما سيطبّق القانون الدولي - وموقف الفاتيكان هو ان القرار 242 ينطبق على القدسالشرقية - فقد اتفقنا نحن وهم على ان لا مانع لدينا ان تكون هناك ضمانات دولية للاراضي المقدسة والاماكن المقدسة. اتفاقنا معهم لا يشمل فقط بيت لحم واريحا حيث توجد أديرة، لكنه يتحدث عن القدس حيث الوضع الحالي غير مقبول دولياً ويجب ان يطبّق القرار 242 على القدسالشرقية، وعندما يُطبّق القرار وهذا النصف الاول من البند فإننا في النصف الثاني من البند هو اننا نقبل بضمانات دولية لادارة الاماكن المقدسة". ولكن هل الحديث عن "الوضع الخاص" للقدس ب"ضمانات دولية" تجديد لفكرة تدويل القدس؟ قال صافية: "الفكرة مختلفة. الاتفاق الذي سنبرمه مع الاسرائيليين عندما تصبح القدس بموجبه مدينتين وعاصمتين لكيانين سياسيين، وفي الوقت نفسه تبقى القدس مدينة مفتوحة وحرية التنقل فيها مكفولة، هو اتفاق وافقنا نحن على ان يكون مضموناً دولياً يحترم المبادئ الاربعة بما فيها استقلالية الاماكن المقدسة. تفكير الفاتيكان تغير على مدى السنوات الاربعين الماضية من المطالبة بالتدويل الى المطالبة بضمانات دولية. ونحن من الممكن ان نطلب ضمانات دولية في قضايا اخرى... ضمانات لأمننا وضمانات لحدودنا …الخ لأن التفوق الاسرائيلي سيكون مستمراً. وانا اتصور ان يضمن مجلس الامن كياننا. الولايات المتحدة واسرائيل تعملان على وضع اتفاق دفاع مشترك بينهما، ونحن قد نعمل من اجل ان يضمن مجلس الامن حدودنا وأمننا. ان فكرة المعاهدة الدفاعية بين اسرائيل واميركا طرحت كبديل للتوسع الاسرائيلي الجغرافي مع ضمان امن اسرائيل. لكن الحاصل الى الآن ان اسرائيل تريد هذه المعاهدة من دون التراجع الى حدود 1967. اميركا ملتزمة بوجود اسرائيل ولكن ليس بتوسعها. حالياً التحالف الاميركي - الاسرائيلي قائم، واسرائيل عندها كل مزايا التحالف غير المكتوب مع اميركا، وعندها ايضاً حرية الحركة. واذا تم التوصل الى معاهدة بينهما صارت اميركا عندئذ مسؤولة عن اي عمل طائش تقوم به اسرائيل".