هو فنان متفرد بين رعيل رفاقه الفنانين... متفرد بالموهبة والشكل والحضور والصوت والقدرة الاستثنائية على الأداء وخصوصاً أداء الأدوار السلبية وأدوار الشر والقسوة بطريقة لا يجاريه فيها أحد. هو الفنان المخضرم، عبدالرحمن آل رشي، صاحب التجربة الفنية والمسيرة الحافلة في ميدان الفن منذ منتصف الخمسينات، في مكابدة مريرة مع الواقع والظروف الصعبة التي كان يعيشها الفنان... وما يزال يعطي بسخاء وهو يتابع مهمته النبيلة... وفي الوقت نفسه يقول رأيه صريحاً ولا يخاف "في الحق لومة لائم" كما يقول. وهنا لنا معه وقفات مع أهم محطات مسيرته الفنية حيث فتح قلبه وتحدث بكثير من الصراحة. كيف تختصر لنا ما حققته في مسيرتك الفنية بعد هذه الرحلة الطويلة، خصوصاً وأن البدايات كانت متواضعة بالنسبة الى الوضع الراهن للفن؟ - كانت البدايات في سنة 1955 عندما دخلت النادي الشرقي، مع عدة محاولات قبلها في المسرح الحر حيث كان رائده المرحوم عبداللطيف فتحي وصبري عياد ومجموعة أخرى. ولكني لم أتابع والسبب أنهم كانوا يمثلون الأدوار باللهجة العامية وأنا من الذين لا تستهويهم العامية، لأنها تفضح الممثل جغرافياً وتكشف عن منبته، أما في الفصحى فيزول هذا وتبقى الموهبة لتتحدث عن الفنان. كما أن اللغة الفصيحة أكثر اشراقاً وتعبيراً وأداء. إذاً في "النادي الشرقي" ظهرت موهبتي. وبعدها مباشرة لعبت أول دور في حياتي في مسرحية "لولا النساء" على مسرح الأزبكية في القاهرة وليس في دمشق، وهي من تأليف واخراج سامي جانو. والذي كان يساعدنا على الانتشار وقتئذ أنه لم يكن هناك إلا مسرح واذاعة فقط. فقد كنا كوكبة من الفنانين الجدد أمثال خلدون المالح وعدنان الحبال وعادل خياطة وسعيد النابلسي وغيرهم، وكنا جميعاً نمارس التمثيل الإذاعي الذي كان مرافقاً للمسرح. الأذاعة بالنسبة إليّ كانت المعلم الأول وخصوصاً في أسلوب الأداء والنطق السليم وتهذيب الحروف وغيرها، وأذكر هنا أن مجموع ما قرأت من على ميكروفون اذاعة دمشق وفي كل المجالات من الديني والتاريخي والقومي والاجتماعي والكوميدي يبلغ 35 ألف ساعة. وما ساعدني على الانتشار هو صوتي وشكلي. وبعدها بدأ التلفزيون وكانت السينما لا تزال حلماً من الأحلام. كانت المسرحيات تنقل على الهواء وأول مسرحية قدمناها في تلفزيون دمشق كانت "ثمن الحرية" من اخراج عادل خياطة في سنة 1959 وبعدها أعلن التلفزيون عن مسابقة للفنانين فنجحت وخصوصاً في المقابلة الشفهية ومن ثم خضعنا لدورة في القاهرة مدتها ستة أشهر. أدوار الشر مثلت أكثر من مرة دور الشرير أو الدور السلبي، ألا ترى أن هذا قد ساعد على انحصارك في اطار ضيق على عكس ما قدمته لنا في مسلسل "الطير"؟ - إن أغلب المنتجين والمخرجين رأوا عندي السمات التي تدل على القسوة في الشكل والقوة في الصوت وهاتان السمتان هما عكس ما ينطبق عليّ تماماً في داخلي. أما في أدوار الشرير التي مثلتها فأنا حتماً ألعب دوري كشرير وكأنني في حقيقة الأمر كذلك، وأعتقد أن على الفنان أن يستغل ذلك وأن يستطيع أن يسيطر على احساسه وشعوره، وإلا فسيكون هناك نقص كبير في ايصال الشخصية الى المتلقي. والفنان الجيد هو من يستطيع أن يوصل هذه الشخصية الى الناس لينفعلوا معها ويتفاعلوا، وهذا يتطلب منه موهبة خاصة وجهوداً استثنائية. يتألق الفنان عندنا حتى يصل الى السقف، وكأن طموحه قد وقف عند حد معين أو عند أدوار نمطية يقدمها بحكم الممارسة العملية لهذا الدور أو ذاك، ماذا تقول في هذا؟ - مجرد أن يصل الفنان الى السقف فإن حب الهواية يكون قد توقف عنده، وبذلك يكون في أي دور يستند اليه، يؤديه وهو محترف مع أنني لا أظن أن المحترف يقف عند أي سقف لأن الفن، عملية متابعة للأجيال ككل وليس للفرد. أنت تصر على عملية الاختيار الصعب في قبول أو رفض الأدوار التي تعرض عليك... ألا تعتقد أن هذا الموقف يشكل خسارة مادية لك... ويجعل حضورك متباعداً في الأعمال الفنية. - أنا لا أتشاءم أبداً، والخسارة المادية هي رزق خسرناه نتيجة لموقف، وقد حصل معي أكثر من مرة أنني أكون ذاهباً الى توقيع العقد فأرى الأمور مقلوبة رأساً على عقب، فأحمد الله على ذلك ويصبح عندي يقين أن هذا العمل ليس لي لكي لا أضع نفسي في غير موضعها. الخسارة المادية ليست خسارة، والخسارة الحقيقية هي أن يخسر الفنان جمهوره والناس الذين أحبوا اطلالته وحضوره على مدى عقود من الزمن. التلفزيون والآخرون ما رأيك بالرأي القائل ان التلفزيون قد أزاح المسرح والسينما جانباً وتصدر المكانة الأولى عند الجمهور؟ - هذا صحيح، لأن التلفزيون يدخل دون استئذان الى كل بيت، خصوصاً وأن الفضائيات في وقتنا الحالي تلعب دوراً مهماً في توجيه الثقافة مهما كان نوعها، وهذا ما شغل البعض عن الاطلاع والقراءة وهم ان كان لديهم الفضول لمعرفة المزيد فإن هذا المزيد لا يأتي إلا عن طريق الفضائيات. اليوم لا نستطيع أن نفصل الثقافة عن أي فضائية مهما كانت برامجها. فبدل أن أقرأ كتاباً من أربعمئة صفحة أستطيع بالضغط على زر واحدة أن أراه مجسداً أمامي بالصورة الحية ولمدة قصيرة نسبياً وبالإضافة الى أن التلفزة أعطتني الثقافة في وقت قصير، أصبح التلفزيون اليوم مصدراً من مصادر التعريف بالثقافة ومع هذا يبقى المسرح والسينما من أمهات الفنون في العالم ولهما روادهما ولهما الأفضلية بين الفنون كونها مادة ثقافية بحتة، وأظن أن الناس قد استطابوا الجلوس في البيوت يشاهدون ما يحلو لهم ولكل من متعته الخاصة التي لا تزول مهما تطور الزمن. هناك مديح مطلق للدراما السورية، ماذا تقول أنت عن هذه الدراما خارج الجوائز التي تمنح لاعتبارات خاصة، هل سبب انتشارها هو تميزها أو يعود ذلك لسوق العرض والطلب؟ - الدراما كلمة مطلقة معناها المأساة، والأعمال السورية هي من الأعمال المجتهدة في مجال الإنتاج والإخراج والتمثيل، وإذا ما قارناها بما كان يحقق عندنا قبل ثلاثين سنة سنجد هناك قفزات فنية وجهداً مبذولاً وقدرات كبيرة نتيجة الاجتهاد في اعطاء أعمال جديدة ومتميزة على ساحة الوطن العربي وليس بسبب الربح المادي، أما إذا ما قارنا هذا المجهود بالأجور التي تعطى للفنان فأننا نجدها قليلة بالنسبة الى المجهود الذي يقوم به وخصوصاً إذا لم يكن نجماً، ولكن هناك من تطفل على هذه المهنة واستغلها استغلالاً سيئاً وهو لا يعرف ما مدى خطورة التعامل مع مثل هذه الأعمال أو مع الفن ككل. وأحب أن أقول أن القطاع الخاص في سورية ساهم مساهمة فعالة في رفع الانتاج الدرامي الجيد لسورية. منذ البدايات كنت مع المخرج هيثم حقي، تعمل في الفانتازيا سواء تاريخية أو غيرها، مثل "غضب الصحراء"، ما أوجه الاختلاف والشبه بين الفانتازيا كما كانت قبل عشرين سنة وبين الفانتازيا الحالية التي نراها "كالكواسر" و"الجوارح" وغيرهما؟ - أنا أؤيد الفانتازيا والسبب في ذلك أن الفانتازيا تلغي جغرافية المكان والأسماء التاريخية التي تلحق بها وتتعامل معها بشكل مطلق. فمثلاً هناك في التاريخ اسم كانت له الريادة في قومه ولكن كانت يداه مقطوعة فأستطيع بالفانتازيا تقديم هذه الشخصية كما هي في قومها ولكن من دون أن تكون يده مقطوعة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أكون غير مسؤول عن ملاحقة الاختصاصيين في التاريخ، فعندما ألغي المكان وأسماء التاريخ، تبقى القصة أي المضمون الذي بدوره يجب أن يصل الى الجمهور من دون أي ملاحقة من أحد، أما الاختلاف بين الفانتازيا القديمة والحالية ففي التقنيات فقط، فقد يستخدم المخرج أحدث الآلات وأكثرها تقنية وراحة للكادر، ولكن يبقى مغزى الفانتازيا واحداً أينما وجدت، المهم أن تصل هذه القصة الى الناس ويستفيدوا من المضمون وليس من الشكل. كيف ترى الجيل الجديد من الممثلين وخصوصاً من الجنس الآخر وهم يصعدن رأساً الى أدوار البطولة؟ - لقد لعبت السينما دورها في هذا الموضوع ففي السابق كانت الموهبة والجمال يلعبان دورهما في أدوار البطولة، ولكن عندما تتقدم لأي فنانة بالسن فإنها تنتقل الى الأدوار الثانوية، أما اليوم فهناك فنانات ترفدها الينا المعاهد والأكاديميات ومع ذلك تبقى الموهبة قبل كل شيء، فالكثير منهن يملكن الموهبة ولسن خريجات والعكس صحيح، ولكن تبقى الموهبة هي التي تحدد مستقبل الفنانة. ما رأيك في الظاهرة التي نراها اليوم على الفضائيات وهي أن لكل مسلسل جزءاً ثانياً وثالثاً ورابعاً... الخ؟ - هذا يعود الى نوعية القصة وفكرتها، وان كانت قابلة لذلك. ان بعض هذه المسلسلات قابل للمتابعة والتطور في الشخصيات، وهذا يعود لكتّاب السيناريو الذين يتركون نهاية القصة مفتوحة ليعرف المشاهد أن القصة لم تنته على أمل ايجاد أفكار جديدة تكمل ما بدا به فيُبني على هذه النهاية قصة جديدة. وهذا ليس خطأ. ولكن الخطأ أن لا يكون هناك اتقان لهذه الأفكار لأنه من المعيب جداً، أن يكون الجزء الأول ناجحاً وفيه أفكار ومواضيع جيدة، والجزء الثاني هابطاً فنياً وغير متوافق مع الأول، وهناك أجزاء في القسم يجدها المشاهد عادية والقسم الثاني تبدأ الأفكار بالنهوض والاجتهاد.