بدا "المهرجان الشعري العربي الأول" الذي يحييه معهد العالم العربي منذ ليلته الأولى أقرب الى فسحة لقاء بين الشعراء العرب أنفسهم أولاً ثم بينهم وبين بعض الشعراء الفرنسيين ثانياً، وبين الشعر والفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والمسرح. ولعل ما منحه هالة خاصة ابتعاده عن المنبرية التي تسم عادة المهرجانات الشعرية العربية. فالأمسيات الشعرية كانت هادئة في معظم الأحيان ولم ترتفع فيها أصوات الشعراء ولا صخبت قصائدهم على المنابر. وقد تخللت تلك القراءات الهادئة ندوات طرحت فيها قضايا مهمة وشائكة سعى المنتدون خلالها الى التأمل في أحوال الشعر وفي بعض همومه المعاصرة ومنها: الشعر والترجمة، الشعر والصوفية، المغايرة الشعرية بين الشرق والغرب، الشعر العربي الشاب... وقدم بضعة شعراء تحية الى الشاعر العراقي الراحل عبدالوهاب البياتي. إذاً لم يغرق المهرجان الشعري العربي الأول في شرك الخطابية على الرغم من حمله عنواناً ثانياً هو "شعراء الأمل". وقد أثارت هذه العبارة حفيظة البعض: أي أمل هو المقصود ومن هم شعراؤه؟ الا ان شاعراً وناقداً من مثل جمال الدين بن شيخ عرف كيف يفسر معنى الأمل حين ربطه بما سماه تطلعاً الى شطآن أخرى بغية احياء الكلمة الشعرية. وجمال الدين بن شيخ كان واحداً من الشعراء الثلاثة الذين ألفوا اللجنة الاستشارية وضمت اليه الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي والمستشرق الفرنسي أندريه ميكيل. وبدا حجازي الأكثر ارتياحاً خصوصاً في كلمته الافتتاحية، اذ خلا له المنبر كشاعر عربي رائد ليمثل الحركة الشعرية العربية الحديثة. فالشاعر أدونيس كان اعتذر قبل شهور عن الانضمام الى اللجنة، وعزا البعض السبب الى طغيان حجازي عليها تبعاً لعلاقته الجيدة بالمدير العام للمعهد ناصر الأنصاري. وغاب أدونيس عن حفلة الافتتاح علماً بأنه في باريس، كذلك غاب محمود درويش الذي أحيا أمسية قبل أيام في "بيت ثقافات العالم" ويحيى اليوم الاثنين أمسية أخرى في "بيت الشعر" في باريس. وغاب كذلك سعدي يوسف وعبدالكبير الخطيبي... غير ان كتب أدونيس ومحمود درويش تحتل بعض واجهات المكتبات التي تشارك في "ربيع الشعر" الفرنسي وهو يعقد للمرة الثانية في نجاح شعبي باهر. اما أطرف ما حصل فهو حضور الشاعر السوري سليمان العيسى كشاعر يمني، اذ حل محل الشاعر عبدالعزيز المقالح آتياً من صنعاء حيث يقيم. وقد تهيأ للبعض أنه شاعر يمني فيما مثل سورية في المهرجان العربي الأول الشاعران ممدوح عدوان ونزيه أبو عفش. وان حاول المهرجان ان يكون عربياً قبل ان يكون عربياً - فرنسياً، فإن طابعه العربي لم ينحصر في تمثيله الدول العربية مقدار ما بدا في تقديمه الأجيال العربية المختلفة بدءاً بجيل الرواد وانتهاء بجيل الشعراء الشباب، وفي طليعتهم الشاعر الاماراتي أحمد راشد ثاني أو المغربي حسن نجمي. وبين الجيلين حضر شعراء كثيرون: التونسي المنصف الوهايبي والفلسطينيون أحمد دحبور ومحمد القيسي وغسان زقطان والبحريني قاسم حداد وسواهم... ليس المهم ان تتمثل الدول العربية بل الاتجاهات والمدارس التي يشهدها المعترك الشعري الراهن. وقد بدا صوت الشاعر العراقي سامي مهدي الذي ينتمي "تاريخياً" الى جيل الرواد مجروحاً بالحزن والأسى اللذين يعرفهما العراقيون "المحاصرون" في الداخل. وغدا سامي المهدي الآتي من العراق كأنه آتٍ من زمان آخر أو مكان آخر. أما الشعراء الفرنسيون المشاركون في المهرجان فحضورهم شديد اللطافة والخفر، ومن بينهم اسماء معروفة مثل أندريه فلتر وجان بيار فاي وكلود ميشال كلوني وسواهم. وكم يشعر الجمهور الذي يتابع القراءات والندوات ان الشعر ليس غريباً عن الرسم والمسرح. فاللوحات التي ضمتها القاعة تؤكد قدرة الفن التشكيلي في مجاراة الشعر وليس في مرافقته فحسب. فأعمال فنانين مثل فريد بلكاهية المغرب ورشيد القريشي الجزائر وسواهما تمثل حقيقة العلاقة التي تجمع بين الصنيع الشعري والصنيع التشكيلي. ولعل مشاركة بعض الفرق المسرحية والمغنية الجزائرية الأصل سافو وبعض الموسيقيين في اللقاء هي خير دليل على قدرة الشعر الباهرة على استيعاب بقية الفنون واحتوائها في صيغة أصيلة وجميلة.