شهدت منطقة البلقان، الاسبوع المنصرم، نشاطاً دولياً مكثفاً، قلما حصل مثله حتى في أشد الأوقات سخونة، ما يمكن تفسيره بأن الأحداث لا تزال بعيدة عن الاستقرار، وأن الأمور تتطلب مزيداً من تقويم ما جرى ترتيبه، سواء بعمليات عسكرية أو بوسائل أخرى. وشارك في هذا التحرك على المستويات العالية الذي وصف بالزيارات: وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت والأمين العام لحلف شمال الأطلسي جورج روبرتسون - البوسنة، وفد أميركي يتصدره الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية جيمس روبين ومستشار شؤون البلقان في مجلس الأمن القومي الأميركي السفير الأميركي السابق في مقدونيا كريستوفر هيل - كوسوفو، مسؤول الشؤون الأمنية والدفاعية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا ورئيسة الدورة الحالية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبية وزيرة خارجية النمسا بينيتا فيريرو فالدنير - مقدونيا، وزير الخارجية البريطاني روبين كوك - كرواتيا، القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الجنرال ويسلي كلارك - بلغاريا، مبعوث الأممالمتحدة لحقوق الانسان يرجي ديسنبير - يوغوسلافيا صربيا والجبل الأسود. وناشد وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف الدول الغربية من أجل الحيلولة دون تصاعد عمليات الألبان جنوب صربيا. ويبدو واضحاً، من خلال ما ظهر علناً، ان التوجه الدولي الحالي، يسعى الى ازاحة المسؤولين المحليين في المنطقة الذين جاؤوا من خلال الأهداف العرقية، ليحل مكانهم "المتعاونون" في فتح صفحة جديدة "واقعية" في السياسة الداخلية والاستجابة للمطالب الدولية التي تقوم أساساً على المشاريع الغربية الراهنة، وفي الوقت نفسه يعمل هذا التحرك على دعم الحكومة "الديموقراطية" التي لا تزال في صراع على السلطة مع كل من: القوى التي حكمت على مدى نصف قرن ابان النظام السابق وتتمتع بنفوذ كبير، والفئات القومية والدينية التي استفادت من الأحداث الدامية التي وقعت، اضافة الى الجماعات التي استغلت الظروف غير الطبيعية واستفحل كسبها غير المشروع والجريمة المنظمة والمافيات الدولية، ما ألحق أضراراً فادحة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية وأشاع الفوضى. ويشير المراقبون في المنطقة، الى أن المشاكل لا تزال بعيدة عن الحل، والذي تحقق ينحصر في نوع من التهدئة الذي يمكن أن ينهار مع أي تخلخل في ما هو قائم. وعلى رغم ان الوضع في كوسوفو لا يزال يمثل معضلة للجهود الدولية العسكرية والمدنية، فإن هناك اهتماماً متميزاً بالبوسنة الآن، وذلك لأن العام الجاري سيكون حاسماً بالنسبة الى الكثير من قضايا "الوفاق" بين الأطراف العرقية البوسنية، اذ ستجري انتخابات بلدية نيسان - ابريل المقبل وأخرى برلمانية ورئاسية في الخريف، وهي مهمة جداً، بعدما اخفقت دورتان انتخابيتان سابقتان في توفير الظروف الملائمة لتطبيق "اتفاق دايتون" الذي أبرم في كانون الأول ديسمبر 1995 ولا يزال مفعوله محصوراً في وقف القتال، من دون أن يوفر السلام لأن غالبية بنوده المدنية الرئيسية اصطدمت، حين محاولة تنفيذها، بما افرزته الحرب من أحوال ديموغرافية وأحقاد وأطماع، حمّلت الوزيرة الأميركية اولبرايت مسؤوليتها الى بقاء الكثير من عناصر القرار البوسني في يد الفئات التي تحاربت ولم تتخل عن الأهداف التي تقاتلت من أجلها. وبحسب موقف اولبرايت، الذي يعتبر اطاراً دولياً، فإن الوضع البوسني الراهن يتسم بأن السلطة في الكيان الصربي التي يتولاها رئيس الحكومة ميلوراد دوديك "جيدة بقدر ما هو متاح لها"، في حين أن الطرف الكرواتي يمكن "ترويضه" بقليل من المشقة بفضل التغيير الذي شهدته كرواتيا مطلع العام الجاري. ويبقى التركيز على الطرف المسلم وبالذات على زعيمه علي عزت بيغوفيتش وحزبه "العمل الديموقراطي - الاسلامي" الذي "يتحمل" مسؤولية الحرب الى جانب الحزبين: الديموقراطي الصربي والاتحاد الديموقراطي الكرواتي، ما جعل اولبرايت تعلن مساندتها في المنافسة داخل العرق المسلم لزعيم "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" زلاتكو لاغومجيا وتبدأ لقاءاتها في البوسنة معه، متجاوزة أعراف البروتوكول التي تتطلب أن يكون ذلك مع بيغوفيتش باعتباره رئيس الفترة الحالية 8 أشهر لهيئة الرئاسة البوسنية رئيس الجمهورية. واللافت انه مع زيارة اولبرايت للبوسنة، تعرض بيغوفيتش لانتقادات شديدة من المسؤولين الدوليين، واعتبره بيان صدر عن مكتب المنسق الأعلى لعملية السلام البوسنية "معرقلاً لنسيان ضغائن الماضي ومحتفظاً بأطماع لا تتفق مع جهود إحلال الوئام في البلاد"، اضافة الى اتهامه بالتستر على "المجاهدين" الذين يعرقلون التعايش بين الاثنيات "والذين استولوا على ممتلكات الصرب في منطقة ماغلاي شمال البوسنة وقاموا بأعمال ارهابية ضد الكروات". ويسود الاعتقاد ان هذه الحملة للتخلص من بيغوفيتش، تشمل حتى أعوانه الذين كانوا الى وقت قريب يحظون بالرعاية الدولية، ومنهم رئيس الوزراء المناوب عن المسلمين حارث سيلايجيتش ورئيس الاتحاد الفيديرالي المسلم - الكرواتي أيوب غانيتش الذي هو أصلاً من منطقة السنجق في صربيا، وكان يقيم في الولاياتالمتحدة التي غادرها مع الأزمة البوسنية. ويؤكد المراقبون على أهمية هذا التغيير في السلطة البوسنية، باعتباره يتجاوز الماضي ويفتح صفحة جديدة، على الأقل في المجالات القيادية، لكنه، لن يحل المشكلة بين البوسنيين التي تقوم أساساً على استمرار نتائج الحرب المأسوية. وفي المقدمة منها قضية أكثر من مليون لاجئ ونازح يريدون العودة الى مناطقهم السابقة، وهي في صدارة البنود التي وردت في اتفاق دايتون، وان يتم ذلك قبل نهاية العام الجاري، اذ سيجري احصاء سكاني عام في البوسنة مطلع العام المقبل والذي سيحدد الوضع الانساني وأماكن الاقامة الدائمة التي تعتمد رسمياً حسب بيانات التسجيل، وهو ما يخشى معه ان يقوم على الوضع "غير الطبيعي الناجم عن الحرب والتطهير العرقي" وبذلك يفقد زهاء ربع سكان البوسنة ديارهم، ما يترك الأمور "مبتورة" واحتمالات الصراع "واردة" والمخاوف لها ما يبررها.