"لماذا يذهب كل اللبنانيين الى أول مفرق"؟ هذه العبارة التي صارت نكتة، منسوبة الى جندي في الردع السوري في لبنان كان كلما اوقف سيارة وطلب من سائقها ايصاله الى مكان ما، اجابه السائق: انا ذاهب فقط الى اول مفرق. والحال ان اسبابا كثيرة كانت تفسر هذه الاجابة، بعضها لصالح السائقين اللبنانيين وبعضها عكس ذلك. فهناك شيء من التشاوف والعجرفة اللبنانيين الكريهين مما يحب اللبنانيون ان لا يعترفوا به. لكن السيارة، في المقابل، مكان فردي بحت بحيث يصعب على جليسها ان يترافق طويلا مع من لا يعرفه ومن لا يختاره، ناهيك عن ارتباطه به بعلاقة قوة وسلطة. والى ذاك اشتُهر جنود الردع، هم المتروكون كالمقلوعين من شجرة، بكثرة المطالبة لسائقي السيارات بإيصالهم من مكان الى آخر. فاذا كان السائق عمومياً خسر اجرة راكب لأن جندي الردع لا يملك ما يدفعه له، او لأن العلاقة بينهما قضت ان لا يدفع. مهما كانت الاسباب، دلّت النكتة على واقع بعينه، واقعٍ يصعب معه القول ان اللبنانيين ينظرون الى الجيش السوري في بلدهم بصفته جيشهم، فيحيطونه بالالتفاف "الأخوي" والرعاية، ويجهدون لمساعدته واقالة عثرته. فجواب "ذاهب الى اول مفرق" الذي يُنسب قوله الى اللبنانيين جميعاً، لا يوحي على الاطلاق بما يردده الكلام السياسي عن الشراكة في المصير والتحرير والمساعدة على بلوغ الخلاص الوطني الناجز. أبعد من هذا، يدور كلام السياسيين على وحدة المسارين بصفتها قدرا محتوما. ولأن المسار يشمل عدداً لا يُحصى من المفارق، جاز لنا الخروج بالحسبة التالية: ان وحدة المسارين تعني وضع لبنان وسورية وشعبيهما في سيارة واحدة لا تذهب بهما الى اول مفرق، بل الى نهاية النهاية التي لا يعلمها الا الله. وكان يُستحسن في ظل ما تكشفه أزمة "أول مفرق"، ان يهتم المعنيون بالأمر في البلدين بكيفية التقريب بين الشعبين الجارين، كأن ينعكس ذلك على برامج التعليم وتوجهات الاعلام ومضاعفة الزيارات والتبادل والاغراء بالنماذج. وتتويجاً لعملية تاريخية من هذا النوع نتوصّل الى وضع ينتهي فيه العمل بكذبة "أول مفرق". اما ان يتم القفز عن دلالات هذه الكذبة باجلاس البلدين في سيارة واحدة اسمها "وحدة المسارين"، فهذا خطير. واخطر ما فيه انه لا يعتبر السياسة العليا انعكاساً لرغبات الناس اطلاقاً، ولا يعتبر ان هذه الرغبات شيء يستحق اخذه في الاعتبار قياساً ب"الأولويات الاستراتيجية". وذلك، للأسف، جزء من عقلنا كما استقر عليه بعد عقود من هذه "السياسة" وهذا الفهم لها. ويمكن بقليل من التحوير ان نقول مع الطقطوقة الخفيفة الظل: "ودا عقلي وانا حره بيه". ولنقل هذا وللنتشِ ونغنّ.