في السلوك الاسرائيلي حيال "الجيران" العرب مفارقة لافتة: مع السوريين تتوقف المفاوضات أو تُستأنف من دون ان أي اجراء عدائي، وكثيراً ما يسود كلام طيب عن النيات والاستعدادات. أما مع الفلسطينيين فالاجراءات على الأرض سيف مسلّط دائماً، ومع اللبنانيين هناك العقاب الجماعي بما فيه من ثأرية ووحشية. وهذا بالتأكيد له تفسيراته العملية والميدانية في ما يتصل بسورية، كما له تفسيراته البسيكولوجية في ما يعني الفلسطينيين، واخيراً اللبنانيين، الا انه ايضاً يدل على عقلية تتعدد مصادرها. فكيف وان تل ابيب لم تكتم، منذ انطلاق عملية السلام، تفضيلها المسارَ السوري على ذاك الفلسطيني، ولا لجمت رغبتها في مواجهة التحديات السورية لها في لبنان لا في سورية. والمطلوب، حصراً، ليس اعتماد سياسة اسرائيلية حيال سورية كتلك المعتمدة حيال لبنان والفلسطينيين، بل اعتماد سياسة حال لبنان والفلسطينيين كتلك المتبعة حيال سورية من حيث تحكيم السياسة بعيداً عن العنف بسائر أشكاله. غير ان الأمر أبعد بالطبع. وقد يكون من المفيد، بغض النظر عن هذه الفوارق وغيرها، ان يشار الى عناصر ومفارقات متصلة بها: فسورية دولة هادئة الحدود، وهذه ليست حال لبنان. وهي حدود دولية مكرّسة وهذه ليست حال الفلسطينيين. ثم، وما دامت العودة الى الرابينية من مفاتيح فهم سياسة باراك، تُستحسن الإشارة الى تجربة رئيس الحكومة الراحل: صحيح انه نشأ وتربّى في البالماخ، ما يسمح بافتراض تفهّمه للتحولات التي تطرأ في الصلب الاجتماعي وفي القواعد الشعبية، لا بل بمنحها أهمية تفوق تلك التي تُمنح عادة للدول أو المؤسسات الناجزة. بيد ان صعود رابين انما حصل في 1956 - 1967، وهي حقبة التأهب العسكري حيث الأولوية للتراتب والمعايير البيروقراطية في القدرة على تنفيذ الأوامر والتزام التعهدات. وهذا سبب بعيد وراء تلك العبارة التي صارت من المعادلات الذهبية لاسرائىل، وهي ان سورية ورئيسها يلتزمان ما يتعهدانه، كما أنه من أسباب الميل الى عدم أخذ السياستين الفلسطينية واللبنانية مأخذ الجدّ، هما الناجمتان عن تضارب وتعدد عشوائي لا حصر لهما. وباراك، بدوره، لم تختلف تجربته، من هذه الناحية، عن تجربة استاذه. فهو صعد إبان التصدي لمنظمة التحرير حين بدا التصدي سهلاً، فيما شاطره الرغبة في سلام الحد الأدنى الذي لا يتعدى كثيراً وقف حال الحرب. لكن خيار التعاطي مع الدول، لا الشعوب أو الجماعات، يعزّز الميل العنفي والإخضاعي، اذ يحصر المستقبل بمفهوم توازن القوى، فيما يخدم، تعريفاً، سلام الحد الأدنى الديبلوماسي. والراهن ان الشرق الأوسط محكوم بالسلام، لا بوقف حالة الحرب، الشيء الذي يملي طريقاً آخر اليه: طريقاً يكون اكثر تحرراً من عقدة توازن القوى بالإخضاع، وأقل استخداماً بالتالي للعبة التنافس بين المسارات. وهذه مصلحة عربية واسرائيلية في آن: فالاسرائيليون حين يستبعدون السلام يستبعدون التفكير في مستقبل العلاقات بين شعوب المنطقة، ولا يعود يهمّهم ان تؤسس عدوانيتُهم الصارخة، لكراهية وللاسامية يصعب ان يذللهما الزمن. ذاك ان سلام وقف حالة الحرب غير معني بهذا، وهو، بالضبط، بعض أسباب ما نراه من همجية تُمارس على اللبنانيين والفلسطينيين. اما السلام الكامل فوحده المسكون باقناع الآخر وكسب عاطفته وتغيير عقله والدخول معه في مغامرة ذات أكلاف مؤكدة شأن أية مغامرة، لكنها تحول دون ترك الهواجس الأمنية تصنع المستقبل. وربما كان دعاة السلام الكامل من الاسرائيليين "حالمين"، الا انه من غير وضع هدفٍ كبير لهذا المستقبل تصبح اللحظة العنفية التي نعيش هي اليوم الأخير.