يتنازع التفكير السياسي العربي، بشأن تفسير السلوك الاسرائىلي ازاء عملية التسوية، اتجاهان متعارضان. الأول، يعتقد بان اسرائيل بحاجة الى هذه العملية، والثاني يعتقد عكس ذلك. فالاتجاه الاول يعتبر أن المتغيرات الدولية والاقليمية، وضمنها التطورات في اسرائيل، ستدفع هذه الدولة، لتكييف ذاتها مع المتغيرات. أما الاتجاه الثاني فيعتقد ان اسرائيل لم تتغير، وأنها اذا تغيرت فنحو مزيد من التطرف والتعنت، إذ المتغيرات الحاصلة عززت قوتها وغطرستها، بخاصة بعد هيمنة الولاياتالمتحدة على النظامين الدولي والاقليمي. ولعل قيام حكومة ايهود باراك التي راهن عليها البعض بتجميد المسارات التفاوضية، والتنصّل من تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين، وتدمير محطات لبنان الكهربائية، ثم التوعد بحرق ترابه، رداً على مقتل الجنود الاسرائيليين الذين يقومون باعمال "انسانية" و"سياحية" هناك، تفتح المجال مجدداً للتساؤل عن معنى عملية التسوية وأبعادها من وجهة النظر الاسرائىلية. وفي الواقع فان كلاً من وجهتي النظر هاتين، تتمتعان بقدر كبير من الصدقية. فمن جهة بيّنت التجربة ان اسرائيل هي العائق الاساس أمام استمرار عملية التسوية، بسبب تعنتها، ورفضها تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها، منذ أكثر من ثماني سنوات، حيث كان من المفترض، اساساً، انسحابها من الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، كما أقرّ له بها المجتمع الدولي على الأقل. ففي حين تلكأت اسرائيل في تنفيذ ما عليها، وعملت على كل ما من شأنه التقليل من أهمية العرب، محاولة فرض إملاءاتها عليهم، قامت الدول العربية بتوجيه الاشارات الضرورية والمشجعة المتمثلة بالتخلي عن حال الحرب ضد اسرائيل وانتهاج طريق المفاوضات والسلام استراتيجيةً لها، فضلاً عن ابداء كل الاستعدادات المعروفة للاعتراف بالدولة العبرية، وإقامة علاقات طبيعية وصلت احياناً حد الاستعداد لاقامة علاقات تعاون ثنائي واقليمي معها. وعلى رغم كل الإشارات والتشجيعات، على مدى السنوات الماضية، فإن اسرائيل واصلت سياسة التعاطي مع عملية التسوية باعتبارها الفرصة المناسبة لفرض غطرستها واملاءاتها على العرب، بما في ذلك فرض روايتها للصراع العربي - الاسرائيلي. وقد عملت اسرائيل على قلب المشهد التفاوضي، رأساً على عقب، بتظهير نفسها وكأنها دولة مغلوبة على أمرها، أو كأنها هي التي سلبت أراضيها، والتي يتهددها جيرانها ومنهم الفلسطينيون، وباعتبارها "واحة الديموقراطية" في محاولة حرب مسار عملية التسوية عن مجراها الحقيقي، من عملية ذات بداية ونهاية الى عملية في حد ذاتها، ومن عملية تتطلب منها تقديم الاستحقاقات اللازمة، الى عملية تتقاضى فيها مكافآت لتمويل نشاطاتها الاستيطانية والأمنية والاقتصادية. وهكذا فبدلاً من أن تكون القضية الأساسية، استعادة العرب اراضيهم المحتلة، باتت القضية الاساسية لاسرائيل هي كيفية تنازل العرب عن حقهم في التصرّف بمصادر مياههم، والدخول في ترتيبات أمنية واقتصادية معها، واعتبارها عاملاً مقرراً في صياغة مستقبل المنطقة!" وهو ما يفسّر إصرارها على استئناف المفاوضات المتعددة الاطراف، المتعلقة بهذه القضايا، وما يفسّر إعاقتها للمفاوضات الثنائية التي تتطلب منها، ليس تقديم تنازلات بحسب المصطلحات الدارجة وإنما اعادة الحق المسلوب لأصحابه، والتجاوب مع كل التشجيعات المقابلة. بمعنى آخر فان اسرائيل تحاول، من خلال عملية التسوية، حصد المزيد من التنازلات المادية والمعنوية من العرب الذين تعتبرهم بمثابة الطرف المهزوم في مجمل التطورات الدولية والاقليمية الحاصلة، مستفيدة من قصورهم في التعاطي مع التحديات الجديدة التي تفرضها هذه العملية. وبالطبع فان منطقاً كهذا ينطلق من واقع موازين القوى الراهنة، ومن عدم التكافؤ والاحترام المتبادل، لا يمكن ان يعطي صدقية لمسعى اسرائيل نحو التسوية، بل إنه يثير الشبهات حول هذا المسعى الذي تظهر فيه وهي تحصد المكافآت، على شكل معاهدات سلام واملاءات. واذا أخذنا المسار الفلسطيني، مثلاً، فما زالت اسرائيل تراوغ على الأقل في تنفيذ متطلبات الحلّ الانتقالي مع الفلسطينيين، على رغم توقيع عدة اتفاقيات وبروتوكولات ومذكرات، لتطبيق هذا الحل. ولا زالت اسرائيل تحتفظ ببضعة ألوف من الاسرى في معتقلاتها، وقضية المعابر والميناء والمطار ما زالت تخضع للابتزازات والقيودات الاسرائىلية. أما مسألة إعادة الانتشار فلم ينفّذ منها الا جزء من المرحلة الثانية. هذا فضلاً عن تغييب قضيتين أساسيتين هما: عودة النازحين، والاعتراف بقيام دولة فلسطينية. وفي الواقع فانه من غير المنطقي التوفيق بين ادعاءات اسرائيل بالسعي من اجل "السلام"، وبين احتفاظها بمعتقلين أو وضعها مزيدا من القيود على الكيان الفلسطيني الناشىء، أو ترخيص بناء ألوف الوحدات السكنية للمستوطنين. وقد شمل التعنت الاسرائيلي المسارين السوري واللبناني، اذ عكست المفاوضات السورية - الاسرائىلية ذلك بوضوح. حيث ان حكومة باراك أرادت من سورية تقديم التنازلات، في مجالات مختلفة، من دون ان تقدم، من جهتها، ولو تعهدا بالانسحاب من الاراضي السورية المحتلة. وعليه، فان كل المقدمات السابقة تؤكد هشاشة عملية التسوية، التي يجري فرضها على العرب، بدفع من المتغيرات الدولية والاقليمية، والتي يظهر فيها العرب وهم يدفعون من كيسهم الثمن الباهظ، للصراع العربي - الاسرائيلي، من ماضيهم ومن حاضرهم، ومن مستقبلهم ايضاً. وفي الجهة المقابلة، ثمة وجهة نظر اخرى تؤكد بأن اسرائيل ستضطر للتكيف مع المتغيرات الحاصلة، على شكل تقديم تنازلات للعرب، في مجال الاراضي المحتلة، وعلى شكل استثمار في مشاريع "السلام" في بعض مجالات التعاون الاقليمي. ووجهة النظر هذه تفسّر السياسات الاسرائىلية المتعنتة، بصعوبة تغيير الواقع، الذي هو محصلة قرن من الصراع المستمر بين العرب واسرائيل، في ظل بضع سنوات، وبأن المجتمع الاسرائىلي يحتاج الى مزيد من الوقت والى مزيد من عوامل بناء الثقة ليعطي صوته لعملية التسوية. ويؤكد هؤلاء وجهة نظرهم بالتغيرات الحاصلة على صعيد مراجعة المنطلقات التقليدية للصهيونية، وظهور تيارات "ما بعد صهيونية"، وباعتراف معظم التيارات الاسرائيلية بالشعب الفلسطيني، والاستعداد المتزايد للاعتراف بقيام دولة فلسطينية ولو في ظل شروط معينة. وتعزز وجهة النظر هذه منطقها بواقع تصاعد حدة التناقضات الاسرائيلية التي برزت على خلفية عملية التسوية، والتي بلغت ذروتها في اغتيال اسحق رابين رئيس الوزراء الاسبق، وفي تخوين طرف لطرف آخر. وأخيراً فإن وجهة النظر هذه استندت الى حقيقة فشل العرب في الصراع مع اسرائيل عن طريق الحرب، ما يعني ضرورة تجريب طريق السلام معها. وفي الحقيقة فإنه منذ تسلم حزب العمل السلطة في اسرائيل 1992 بقيادة اسحق رابين آنذاك، قدمت اسرائيل نفسها للعالم، بوصفها داعية للسلام وراغبة فيه. وخلقت بذلك انطباعاً لدى الرأي العام، مفاده ان عملية التغيير التي اكتسحت العالم بدأت تشق مجراها في الدولة العبرية التي عملت منذ قيامها على معاندة حقائق التاريخ والجغرافيا والبشر في هذه المنطقة بوسائل القوة والغطرسة والعدوان. وكان للخطاب السياسي الاسرائيلي الجديد، الذي اختطه قادة حزب العمل، خصوصاً الافكار التي روّج لها شمعون بيريز، منذ زمن ولا يزال، حول عصر جديد في الشرق الاوسط، يتأسس على نبذ الحروب وحال العداء وتبديد الموارد على السلاح، دور كبير في خلق حال من الالتباس في الخطاب السياسي العربي، حيث اخذ بعض الاوساط يتعاطى مع فكرة تغير اسرائيل باعتبارها امراً واقعاً، وحقيقة لا يمكن الجدال فيها، مع كل ما يستتبع ذلك من استنتاجات وتصورات. وتعزز ذلك بتطورات كبرى كانهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وعدم لعب اسرائيل دورا في حرب الخليج الثانية، وتعاظم دور العامل الاقتصادي، والقدرات العلمية - التكنولوجية في العلاقات الدولية، والتدخلات الاقتصادية وتزايد حالات الاعتماد المتبادل، ونشوء التكتلات الدولية والاقليمية، ما فرض ضرورة "التعاون" بين اسرائيل ودول المنطقة لحل المخاطر المستقبلية المتمثلة بحاجات المنطقة المتزايدة الى المياه وحماية البيئة والتنمية الاقتصادية وغير ذلك، فضلا عن مصلحة الولاياتالمتحدة، التي تهيمن على النظام الدولي، في قيام "نظام اقليمي جديد" في المنطقة. وبالطبع لا يمكن التقليل من اهمية المنطلقات المذكورة، ومع ذلك من الواجب تعيين حقيقتها في الممارسة السياسية للدولة العبرية، لا في الرغبات او الاوهام الذاتية. وفي الواقع، وكما قدمنا، فإن وجهتي النظر السائدتين في الادبيات السياسية العربية، تحتاجان الى مزيد من المراجعة والتفحص. فالاسئلة التي تطرح نفسها كثيرة ومركبة ومعقدة، بحيث لا يمكن الاجابة عنها بسهولة او ببساطة. والشيء الاكيد ان ثمة تغيرات في اسرائيل، ليس بحكم المتغيرات الدولية والاقليمية فحسب، وانما ايضاً بحكم التطورات المجتمعية والثقافية والاقتصادية فيها، لكن الحديث هنا يتعلق بمدى هذه التغيرات وبمضمونها. اما تجاهل التغير او الركون اليه، فهذا لا يفيد العملية السياسية. وبالمحصلة فإن اسرائيل شأنها شأن الظواهر السياسية والاجتماعية تخضع لمتغيرات، ولكن حتى اللحظة فإن كل المتغيرات والمعطيات، لا تشير الى ان ثمة تغيراً جوهرياً في طبيعة اسرائيل ووعيها لذاتها ولدورها في المنطقة. فقادة اسرائيل، على اختلافاتهم، يعتبرون التغيرات الدولية والاقليمية الراهنة بمثابة الفرصة السانحة التي عليهم استثمارها والتكيف معها، من اجل تحقيق انطلاقة جديدة لدولتهم من خلال الانخراط في عملية التسوية ومشاريع التعاون. لكن الخلاف بينهم يدور حول ما اذا كان يتوجب على اسرائيل ان تدفع ثمناً مقابل ذلك، وبالتالي مقدار هذا الثمن وماهيته. بمعنى انه ينبغي الاعتراف بأن ثمة قراءة اسرائيلية جادة للمتغيرات لكن هذه القراءة، حتى الآن، لم تخرج تماماً عن الافكار العتيقة للصهيونية، وهي تقتصر على محاولة التكيف مع ما يلائم المصالح الاسرائيلية من دون اخذ الآخرين بالاعتبار . فاسرائيل تحتاج الى التسوية وتسعى اليها، لكنها التسوية التي تريدها هي وبمعاييرها هي، وليس بالطبع التسوية التي يتخيلها العرب. × كاتب فلسطيني.