منذ مطلع التسعينات، وعلى خلفية انهيار عالم القطبين بانتهاء الاتحاد السوفياتي، والهيمنة الأحادية للولايات المتحدة على النظام الدولي، والتداعيات الناجمة عن حرب الخليج الثانية (2001)، برز إزاء العالم العربي عديد من المشروعات الخارجية (بخاصة الأميركية)، وضمنها مشروع «الشرق الأوسط الجديد» لمنظّره شمعون بيريز، والذي يُتوخّى منه، بحسب ادعائه، الجمع بين اليد العاملة العربية والمال الخليجي والعبقرية الإسرائيلية! وقد نظّمت لهذا الأمر مفاوضات «متعددة الطرف» (منبثقة عن مؤتمر مدريد 1991) ومؤتمرات «القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، وهي أربعة في الدارالبيضاء وعمان والقاهرة والدوحة (1994-1997). لكن هذا المشروع لم يلق النجاح بسبب ممانعة العالم العربي له، على صعيدي الحكومات والمجتمعات، كونه لم يكن ناضجاً أو جاهزاً لقيام هكذا تجمّع من مختلف النواحي، وبحكم التوجّس من إعطاء موقع متميّز لإسرائيل فيه، على حساب مصالح العرب وحقوقهم، لاسيما أن هذا المشروع لم يكن يشترط انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة (عام 1967). لكن ما يجب الالتفات إليه هنا، هو أن إسرائيل بغطرستها وعنصريتها مانعت أيضاً قيام هكذا مشروع تماماً، مثلما مانعت عملية التسوية، برغم إجحافاتها بالنسبة للفلسطينيين. ففي عهد حكومة حزب العمل، رفضت إسرائيل الربط بين التسوية ومسارات التعاون الإقليمي، مدّعية ان ليس ثمة صلة بين الأمرين، وأن قيام علاقات التعاون الإقليمي بدايةً من شأنها أن تؤسّس لعهد جديد من الثقة بينها وبين جيرانها العرب، ما يعزّز تالياً مسار عملية التسوية. وبديهي، فإن ذلك لم يبد جدياً ولا مقبولاً، فضلاً عن انه اعتبر بمثابة امتهان للعرب واستخفاف بحقوقهم، في ما فهم بأنه محاولة من إسرائيل لنيل «جوائز» عن احتلالاتها للأراضي العربية. أما في عهد الليكود، فإن حكومة نتانياهو (1996-1999) لم تتحمّس لهذا المشروع لرفضها لعملية التسوية جملة وتفصيلاً، وعند الليكود فإن إسرائيل بإمكانها أن تفرض التسوية التي تريد على جيرانها بوسائل القوة، والدعم الأميركي، من دون حاجة لتنازلات إقليمية (جغرافية)، قد تظهر إسرائيل كدولة ضعيفة، ما يشجّع العرب تالياً على بذل مزيد من الضغوط لنيل مزيد من التنازلات. أما بالنسبة للتعاون الإقليمي، فإن إسرائيل الليكود ترى أنها تنتمي إلى الغرب وليس إلى الشرق الأوسط، وتعتقد أن بإمكانها أن تعيش من دون علاقات اقتصادية أو حتى تطبيعية مع العالم العربي، الذي تعتبره متخلفاً وفقيراً، وأن كل المطلوب هو اعتراف الدول العربية، وفي إطار الرضوخ للإملاءات والرواية الإسرائيلية! بعد إخفاق مشروع «الشرق الأوسط الجديد» بانتهاء عهدي الرئيس الأميركي بيل كلينتون (1992-2001)، طلعت إدارة بوش (الابن) بمشروع جديد سمّته مشروع «الشرق الأوسط الكبير». لكن هذا المشروع الذي جاء في لحظة غزو العراق، وفي خضم الحرب الأميركية على الإرهاب، لم يعط أولوية للصراع العربي-الإسرائيلي، واعتبر أن مشكلات الشرق الأوسط ليست لها صلة البتّة بإسرائيل ولا باحتلالاتها، وإنما تنبع من وجود أنظمة متسلطة وفاسدة فيه؛ وكان هذا المشروع أوجز استهدافاته في «نشر الديموقراطية» في البلدان العربية. ولم يلق هذا المشروع حماسة ولا قبولاً من الحكومات العربية ومن مجتمعاتها بحكم الشبهات التي حامت حوله، والناجمة عن غزو العراق وتدمير مؤسّسات الدولة فيه، وبالنظر الى بروز النزاعات الأهلية المذهبية فيه، وخضوعه للنفوذ الإيراني. الشبهة الثانية تعلّقت بمحاباة إدارة بوش (وحزب «المحافظين الجدد») لإسرائيل، ولامبالاتها الفظّة إزاء معاناة الفلسطينيين، لا سيما أن هذا المشروع جاء في خضم الحرب الوحشية المدمرة التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين (2002-2004). جدير بالذكر أن الحكومات العربية، حتى المحسوبة بمثابة صديقة للولايات المتحدة توجّست شراً من توجهات الإدارة الأميركية، واشتغلت على صدّ هذا المشروع. ولم يكن ثمة إجماع في إسرائيل، فثمة من اعتبر المشروع بمثابة فرصة لتغيير الواقع العربي، بحيث يمكن بعده فتح أفق لإقامة سلام، في حين ثمة من اعتبره مشروعاً فاشلاً، باعتباره المجتمعات العربية غير مؤهّلة للديموقراطية، وان البديل للنظم القائمة سيكون نوعاً من أنظمة إسلامية متطرفة، ولا مصلحة لإسرائيل ولا لأميركا في تغيير الواقع السائد. طبعاً ثمة مشاريع أخرى أوروبية (فرنسية وألمانية ومن الاتحاد الأوروبي) دخلت على الخط، وربما كانت أكثر تلمّساً لمصالح العرب، وحقوق الفلسطينيين، لكن هذه المشاريع لم تلقَ النجاح بسبب ضعف الإرادة السياسية عند الاتحاد الأوروبي، قياساً الى الولاياتالمتحدة، وبسبب ممانعة إسرائيل لأي مداخلات أوروبية بهذا الشأن، حيث ترى الدولة العبرية أن أوروبا منحازة للفلسطينيين، وأن دورها يجب أن يقتصر على منح الأموال والدعم الفني لهم. الآن، وعلى عكس المشاريع الخارجية، لا سيما الأميركية، و «الستاتيكو» السائد منذ عقود، فإن العالم العربي يحثّ الخطى نحو التغيير، بالطريقة السهلة أو الصعبة. فالمجتمعات العربية أخذت زمام المبادرة، وباتت فاعلاً يُحسَب حسابه بين الفاعلين الدوليين والإقليميين، وهذا ما تحاول أن تقوله الثورات الشعبية العربية. وما يجب الانتباه إليه، هو أن وعي الشعب لذاته وحضوره على مسرح التاريخ يعنيان أن اللعبة باتت مختلفة، بحيث أن كثيراً من المصطلحات والمفاهيم تنبغي مراجعته، وضمن ذلك الحديث عن مؤامرة أو عن «سايكس بيكو» جديدة أو «تغيير خرائط»، فهذه أمور باتت تنتمي لعصر قديم انتهت مفاهيمه وأدواته. ولا يمكن الحديث اليوم عن رسم خرائط، أو مخططات تقسيم، أو عودة للاستعمار، فها هي الولاياتالمتحدة تخرج جيشها من العراق، وها هو العراق يبدو موحّداً من الناحيتين الكيانية والجغرافية، في حين نلحظ أن عوامل التفتيت فيه ليست لها صلة بالولاياتالمتحدة بمقدار ما لها من صلة بالنزاعات الإقليمية والمذهبية. وما ينبغي إدراكه أيضاً، أن العالم لم يعد منذ زمن بعيد، يشتغل وفق الطرق القديمة، فثمة اليوم وسائل أخرى (اقتصادية ومالية وإعلامية) لصوغ مستويات العلاقات، التابعة أو المتكافئة، الاستغلالية أو المتبادلة، ولم يعد من مصلحة الدول الكبرى في عصر العولمة تقسيم الأسواق، وإنما من مصلحتها توحيدها. هكذا ينبغي أن يكون ثمة نوع من الثقة بالذات، أي بقدرة المجتمعات العربية على استعادة زمام المبادرة وامتلاك مصيرها، على رغم ما يشوب ذلك من شبهات أو مشكلات، لأن هذه الأمور بمثابة نوع من آلام الولادة لعالم جديد.