إذا كانت فصائل المقاومة الفلسطينية المعارضة لقيادة ونهج عرفات، قد استغرقت زمناً طويلاً، وهي تبحث عن صيغة فكرية وتنظيمية لعملها النضالي المستقبلي تكون مرضية لها قبل أن تكون مرضية للآخرين، أو بالتحديد لمن تطمح في أن تكسب ثقتهم بها، بعد أن تكون قد كسبت الثقة بالنفس، فإن تعثر هذه المحاولات، وبروز الخلافات في ما بينها، كل ذلك مصدره - في اعتقادنا - أزمة بنيوية تقود بدورها إلى أزمة وظيفية. والواقع ان كل فصائل المقاومة الفلسطينية، سواء منها من كانت ضمن تحالف عرفات أو في المعارضة، تعاني بدرجة أو بأخرى من الأزمة البنيوية. لكن عرفات بإمساكه بالسلطة، وقبل ذلك بمقدرات مالية لا بأس بها، استطاع ان يعالج الأزمة البنيوية في صفوف جبهته من خلال استيعاب الكوادر حتى وإن كانت قد تجاوزت سن التقاعد في أجهزته الأمنية والوظيفية، واستطاع أيضاً ان يكسب عناصر جديدة لصالح هذه الأجهزة ولصالح البنية التنظيمية لحركة فتح الموالية له في الداخل. عدا عن كونه يمسك بشؤون معظم التجمعات الفلسطينية في الخارج، وحتى في مخيمات لبنان حيث كان يفترض ان يضعف نفوذه إلى حد التلاشي، فإن مساهمته في حل جزء من مشكلة البطالة جعلت منه قوة يحسب لها حساب. وحين نتحدث عن الأزمة البنيوية في صفوف فصائل المعارضة، فإننا لا نستطيع إلا أن نميّز بين مجموعات ثلاث: 1- فئة تضم حركتي حماس والجهاد، تبدو الأزمة البنيوية فيها محدودة أو طارئة. وذلك عائد إلى الأسباب التالية: أ - ان بنية التنظيمين كان ثقلها ولا يزال في الداخل أكثر مما هو في الخارج. ومن ثم فإن العراقيل الطارئة التي يواجهانها تدور بشكل أساسي حول العلاقة التصادمية مع أجهزة أمن السلطة التي تتعرض لضغوظ أميركية وإسرائيلية مستمرة لملاحقة عناصر التنظيمين، والتي يحرجها أيضاً استمرار التنظيمين في محاولة تنفيذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال، وترى في ذلك إعاقة لسير العملية السلمية. ب - ان تنظيمي حماس رغم جذوره التاريخية في جماعة الاخوان المسلمين والجهاد، هما تنظيمان حديثان نسبياً. وبانبثاقهما من الداخل فقد استقطبا طوال الوقت عناصر شابة، بل ان قيادات التنظيمين - إذا استثنينا المرشد الروحي لحماس الشيخ أحمد ياسين - هي قيادات شابة. ج - اعتمدت حمالس في نشاطها في الداخل اسلوب بناء مؤسسات الخدمات الاجتماعية ونجحت في تأمين شبكة من العلاقات الخارجية مع فلسطينيي الشتات تسهم في تمويل هذا النشاط. كما أنها يمكن ان تستمر في هذا اللون من النشاط التكافلي حتى وإن اضطرت في أي ظرف من الظروف لوقف نشاطات جناحها العسكري المتمثل بكتائب عزالدين القسام. وقد أمن لها هذا النمط من البناء التنظيمي الاجتماعي قوة جماهيرية لا تستطيع السلطة إلا أن تحسب لها الحسابات. وهو وضع يتضح في التنافس الانتخابي بين الطلاب خاصة حيث لا تقف حماس عند تشكيل منافس قوي لفتح، بل انها تتخطاها في معظم الأحيان. 2- فئة ثانية تضم حركة فتح الانتفاضة والصاعقة والجبهة الشعبية القيادة العامة. وهذه الفئة تعاني من أزمة بنيوية مصدرها الأساسي محدودية مواردها المالية، مما اضعف قدرتها على النشاط التنظيمي في التجمعات الفلسطينية في الداخل والشتات. وإن تميزت الصاعقة بكونها امتداداً تنظيمياً لحزب سياسي هو حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو بطبيعته يقوم على بنية مختلفة عن بنية التنظيم الفدائي. ومع ذلك فقد كفت الصاعقة، ومنذ أمد بعيد، عن التوسع البنيوي حاصرة بنيتها فيما هو مهيأ لها من قدرات مالية متناقصة. وينطبق الأمر نفسه على حركة فتح الانتفاضة التي لم تستطع بحكم محدودية مواردها ان تستقطب صفوف المعارضة في حركة فتح في الشتات. كما لم تستطع ان تبني تنظيماً منافساً لفتح الأساسية في الداخل. أما الجبهة الشعبية القيادة العامة فقد وصلت أزمتها البنيوية خلال الأشهر الأخيرة حالة لا تحسد عليها بسبب حسابات التمويل. وأبسط ما يقال بسبب هذه الأزمة إنها باتت مؤسسة قيد التصفية. إن هذه المنظمات يتركز وجودها التنظيمي في سورية ولبنان، وقد خرجت من حساب الممارسة العملية للمقاومة المسلحة منذ أمد بعيد. وهذا الأمر لا يعود فقط إلى حسابات سياسية وعسكرية استلزمت وضع إمكاناتها في خدمة المقاومة الوطنية اللبنانية لبعض الوقت، لكنه يعود أيضاً إلى حقيقة أن استقطاب العناصر الشابة قد توقفت منذ زمن. ومن ثم، فإن معظم الكوادر الآن تقترب من سن الشيخوخة إن لم تكن تخطته. وإذا كان لهذه الفصائل من أمل في تجديد نشاطها المقبل، عبر ممارسة ما تعرف بعمليات القشرة، فإن هذا الأمل يبدو مستحيلاً في ضوء التطورات المرجحة لعملية السلام في المنطقة. فإذا لم تحدث هذه التطورات، وإذا طرأت تبدلات حاسمة في ميزان القوى وسير الصراع تمكن من استئناف المقاومة، فلا بد من دم جديد يضخ في عروق هذه الفصائل ليكون بوسعها مواجهة الموقف المستجد. وعلى أية حال، فإن ما يمتاز به موقف هذه الفصائل هو الوضوح السياسي، والمعارضة الصريحة لنهج عرفات. ومع ذلك فثمة تمايز في الرؤية السياسية بين الصاعقة وبين الفصيلين الآخرين. فالصاعقة تبدو أكثر مرونة في تبني موقف من عملية السلام موازٍ للموقف السوري، مما يجعلها أيضاً واسطة خير في محاولة تقريب وجهات النظر بين فصائل المعارضة إذا ما تباينت وجهات النظر بينها، وهي تتفهم بشكل خاص السياسة التي تتبعها حماس في تعاملها مع السلطة. وإلى جانب هذه الفصائل، توجد فصائل أخرى هي جبهة التحرير الفلسطينية وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني والحزب الشيوعي الثوري، وهي جميعاً تعيش أزمتها البنيوية كالفصائل الأخرى، ولكن بظروف أشد قسوة، حيث مصادر تمويلها محدودة للغاية، وحيث نجح عرفات في إحداث انقسامات تنظيمية أوجدت لديه فصائل وأحزاباً موازية انشقت عن أو انشقت عنها هذه التنظيمات. وإذا كانت وسيلة التعبير عن هذه الفصائل خلال حوالى عقدين من الزمن قد تمثلت بالنشاط الإعلامي، فإن هذا النشاط الإعلامي قد تراجع نوعياً وانتشاراً منذ أمد بعيد، وأصبح أقرب إلى النشاط الروتيني الذي يتم انتاجه لاثبات الوجود أو توقف كلياً في بعض الحالات. 3- تبقى الفئة الثالثة في صفوف المعارضة، وهي تضم الجبهتين الشعبية والديموقراطية. وقد دخلت الجبهتان حواراً مع اللجنة المركزية لحركة فتح، خرجتا بنتيجته عملياً من صفوف المعارضة المطلقة، إلى صف المعارضة المحسوبة التي لا تمانع من التعاون مع السلطة الفلسطينية حيثما امكن هذا التعاون. وقد بدا سلوك هذين الفصيلين لهذا النهج مستغرباً في ضوء اصولهما التنظيمية التي تعود إلى حركة القوميين العرب، وفي ضوء التقاليد الطويلة للنهج المعارض، خصوصاً بالنسبة للجبهة الشعبية. ولكننا نعتقد جازمين، خصوصاً في ما يتعلق بسلوك الجبهة الشعبية، ان هذا القرار وليد التسليم بالأزمة البنيوية التي تعانيها الجبهة. لقد تحولت الجبهتان واقعياً خلال العقدين الأخيرين إلى حصر نشاطهما في العمل الإعلامي من خلال مجلتي "الهدف" و"الحرية"، وأعتنت الجبهة الديموقراطية بشكل خاص في تكثيف النشاط الاعلامي، بحيث يطل قادتها وكوادرها على قراء الصحف المختلفة بالمقالات والتصريحات التي يتم الاجتهاد في ترتيبها لتكون مؤشراً على استمرار وجود الجبهة. ولكن، ماذا بخلاف ذلك؟ إن الأزمة البنيوية قائمة، وأزمة تمويل التنظيمين قائمة ومتفاقمة، وأزمة تأمين حياة الكوادر التي شاخت أو اقتربت من الشيخوخة تفرض نفسها بضراوة، خصوصاً على الجبهة الشعبية. والبديل الذي يمكن ان يطمح إليه قائد خبير ومجرب وصلب مثل جورج حبش هو بديل مستقبلي بعيد ليس قابلاً للانجاز الفوري المباشر. أما البديل الذي يطرحه قائد خبير ومجرب ولكنه مناور مثل نايف حواتمة في أن يسهم بتحسين شروط التسوية، فيبدو لنا ان حواتمة نفسه هو آخر من يستطيع اقناع نفسه به، ومن المؤكد انه يدرك أن تحسين هذه الشروط لن يتحقق بحلوله هو شخصياً محل رفيقه الذي انشق عن الجبهة ليؤسس حركة فدا ويلتحق بعرفات ياسر عبدربه. إن حواتمة الذي يدرك أزمة جبهته البنيوية يريد حلها بأن يكون شريكاً لعرفات بشروط تحفظ ماء الوجه سياسياً. أما الجبهة الشعبية فكانت أكثر انسجاماً مع النفس وأكثر حسماً بتحميل عرفات عبء إحالة كوادرها التي شاخت على التقاعد، ليفكر الحكيم بعد ذلك بمدخل جديد إلى المستقبل. وليس لنا ان نستغرب إذا كان الحكيم، الذي حرص على تسجيل اعتراضه على قرار قيادة الجبهة بالتفاهم مع عرفات، ليظل في الصف المعارض، قد وجد ضالته في التفكير بتأسيس مركز للدراسات والأبحاث برعايته، بل قيل إنه يفكر بتأسيس عدد من المراكز في القاهرةودمشق وبيروت وعمان وليس بمركز واحد، وأنه راح يسعى للبحث عن التمويل من خلال الرفاق القدامى في حركة القوميين العرب وغيرهم من الأصدقاء. وللأسف فإن البعض في المعارضة الفلسطينية اساء تفسير مسلك الحكيم في هذا الاتجاه، وكأن الرجل وهو الذي يعاني صحياً ما يعاني، يسعى لتأسيس ثروة ذاتية كان في غنى عنها في الماضي، وهو حتماً في غنى عنها الآن. وإذا كان لا يحق لأحد أن يفكر بصوت مسموع بدلاً عن رجل يبدو من موقفه أنه يفكر دون ان تصدر عنه أي نأمة توحي بما يفكر به، فإن أقصى ما نستطيع قوله هو ان الحكيم اراد بهذا المشروع القول إن المقاومة الفلسطينية كتجربة من الماضي حاول بعض قادتها استثمارها بقدر ما يستطيعون، وحاول آخرون أن يمدوا في عمرها أكثر ما استطاعوا، وانتهت إلى الحصيلة السيئة الراهنة، هي - في جميع الأحوال - تجربة تتطلب ممن قادوها أو أسهموا في قيادتها وقفة مع الذات، يراجعون فيها الحسابات، ويدرسون فيها المعطيات، ويقدمون للأجيال الجديدة من العرب بشكل عام وعرب فلسطين بشكل خاص، ليس فقط جردة حساب، ولكن أيضاً مؤشرات لكيفية تعديل المسار في المستقبل. فإذا كان الحكيم يفكر على هذا النحو، فلا شك انه يكون بذلك قد وضع قدمه على بداية شوط جديد قد يتطلب خمسين سنة مقبلة من العمل الذهني النضالي. ومثل هذه الفكرة ستحتاج إلى أجيال شابة من الباحثين، ولكنها لن تستغني في البداية عن أصحاب التجربة الطويلة السابقة. وإذا كان الحكيم يفكر على هذا النحو، فإن من واجبنا ان نساند خطواته في هذا الاتجاه، ومن واجبه أيضاً أن يفكر - ومنذ هذه اللحظة - بأن مثل هذا التجربة الجديدة في التفكير عن طريق البحث المعمق والدراسات، يفضل أن تستوعب كل الاتجاهات الفكرية الأساسية في الساحة الفلسطينية قومية وإسلامية وأممية، وألا تشكل مجرد محاولة للمد في عمر تجربة حركة القوميين العرب أو تجربة الجبهة الشعبية أو تجربة الحكيم نفسه. فالمشكة هي مشكلة القضية الفلسطينية وما آلت إليه بشكل عام. والمشكلة هي مغادرة كارثة الماضي للبحث عن افق جديد. ولا أحد يملك ان يحدد منذ الآن ملامح هذا الافق الجديد وان يطرح حلولاً للأزمة البنيوية للمقاومة، سواء كان في مواقع السلطة أو في مواقع المعارضة. فمصباح علاء الدين السحري ليس موجوداً في يد أحد، ومن الخير لنا ان نعترف بهذه الحقيقة بدلاً من مواصلة المناورة في المكان، ونحن نعرف على وجه اليقين ان مواصلة المناورة في المكان إنما هي من قبيل المكابرة مع النفس، وان عد الخلاص الناجز من المأزق لم يعد في حوزة أحد. * كاتب فلسطيني - دمشق.