في مجتمع تغلب عليه العلاقات الاجتماعية والمظاهر، يبرز بين الحين والآخر أشخاص يجعلون من أنفسهم محور الحديث، فلا يكتفون بذلك، بل يستعرضون أمام الآخرين المدائح والإطراءات التي قيلت فيهم، أو التي نسجوها لأنفسهم. قد يبدو هذا المشهد في بدايته طريفًا أو ملفتًا للانتباه، لكنه يثير تساؤلات أعمق حول العقل، والرجولة، والمروءة. تخيَّل أنك تجلس في مجلس مكتظ بالحضور، ثم يفاجئك أحدهم وهو يمدح نفسه أو يتلو على الحاضرين قصائد كُتبت فيه، أو يعرض مدائح تشيد بمزاياه. لن يكون هذا التصرف مثيرًا للإعجاب، بل قد يدفع الحاضرين إلى التشكيك في اتزانه العقلي ونضجه الفكري. فهل يمكن لعاقل أن يستسيغ مثل هذا السلوك؟ وهل يعد التباهي المفرط انعكاسًا لشخصية ناضجة؟ المروءة ليست مجرد كلمة، بل مبدأ يعكس كمال العقل ورجاحة الرأي، وهي تتنافى تمامًا مع هذا النوع من التصرفات. فالرجل النبيل، الذي يحترم ذاته ويحترم الآخرين، لا يحتاج إلى إعلان فضائله أو استجداء الثناء. قوته تكمن في أفعاله، في حضوره، وفي الأثر الذي يتركه دون حاجة إلى تصفيق أو شهادات من الآخرين. ولا شك أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي فاقم هذه الظاهرة، حيث بات البعض يستغل منصات مثل واتساب وتويتر (X) وسناب شات لاستعراض عبارات المديح التي كُتبت فيهم، وكأن قيمتهم الذاتية باتت تُقاس بعدد الإشادات والمشاركات. إلا أن العقلاء يدركون أن القيمة الحقيقية تُصنع بالأفعال لا بالكلمات، وأن الاحترام لا يُشترى بالإطراء، بل يُكتسب بالمواقف الصادقة. فالشخص الناضج، سواء كان في مجلس أو على منصة اجتماعية، لا يحتاج إلى مدح الآخرين ليبرهن على جدارته، بل يترك عمله وأخلاقه تتحدث عنه دون وسائط. المروءة تنبع من الداخل، وهي انعكاس لاحترام المرء لنفسه قبل الآخرين. ومن يظن أن التفاخر بالمديح وعرض الثناء يمنحه مكانة أو هيبة، يغفل عن حقيقة أن الهيبة تُكتسب بالصمت حين يجب، وبالحديث حين يكون ضروريًا، وبأثر الفعل الصادق الذي يُغني عن أي قول.