صحيح ان السياسة الخارجية تكاد تكون غائبة عن برامج المتنافسين على الرئاسة الأميركية وأذهانهم، لكن مراقبة أميركا بتوجهاتها وأولوياتها، بمشاغلها ومصادر هوسها، بعقدها، بانعزالها أو بانخراطها، مفيدة جداً للتعرف على سياسات الغد، الداخلية والخارجية منها. والحملات الانتخابية فرصة فريدة. فالرئاسة الأميركية مذهلة ومميزة في وطأتها على العالم عند المعجبين والساخرين على السواء. والوصول إليها مسألة معقدة على رغم بساطة مظاهرها. فهذه عملية عنيفة تتداخل فيها المؤسسة السياسية التقليدية ذات القبضة الحديدة مع المصالح الحاكمة، مع ما تفرضه النابغة الأميركية لا سيما في التكنولوجيا، مع ما ينبغي به الحس الشعبي نحو الأحزاب والأفراد، مع دور الإعلام القوي، مع سلطة الحظ والمفاجأة. إنها لعملية مدهشة ومملة في آن، تضع الساعي وراء البيت الأبيض في سلسلة امتحانات جوهرية ومصطنعة في وقت واحد. والجدير بنا مراقبتها. أميركا اليوم منشغلة باقتصادها وقوانينها وضرائبها وحقوقها، تريد ضمان استمرار تفوقها وازدهارها. يحاول قطاع منها أن يدقق في التفاوت الحاضر فيها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وفي إطار القيم والاخلاق. مشاغلها الخارجية تكاد تنحصر في المخاوف من الارهاب وتصديره إلى الساحة الأميركية ومن عدو مجهول التقاسيم. أميركا الشعبية منصبة على حياتها اليومية، تجهل إلى حد كبير ما يجري في بقية العالم وتتجاهل عمداً صراعات الآخرين طالما لا تؤثر في معيشتها. الأكثرية الساحقة لا تعرف من يحكم في الصين أو كوريا الجنوبية أو الهند أو باكستان، على رغم أهمية هذه الدول الحاسمة في الاعتبارات الدولية ولدى المؤسسة السياسية الأميركية. تعرف اسم الرئيس العراقي صدام حسين واسم اسامة بن لادن لأنهما ارتبطا في الذهن الأميركي بخطر على العالم وبتهديد للسلامة الأميركية، وتهتم بالشؤون الدولية فقط عندما تتطور إلى درجة الانفجار. أميركا المسيسة تختلف. فهي تقوم على الاختصاص وتحترم الخبرة. مجالاتها ليست فقط في صفوف أهل السياسة وإنما في محافل الفكر والدراسات الاستراتيجية. اهتماماتها الاقتصادية والسياسية تشمل التفاصيل المحلية، كما تفاصيل العولمة. نخبتها ضخمة في مختلف الحقول. معرفتها بالشؤون الدولية مثيرة للاعجاب. فكرها مزيج من التطلعات السباقة والتعصب الناتج عن "غسل دماغ". تضع الأهداف والسبل إليها ببراغماتية وتنظيم بعيداً عن العشوائية والاعتباطية والتنظير. الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية تجمع ما بين أميركا الشعبية وأميركا النخبة وأميركا المسيسة، في لقاء فريد يفرز مؤشرات على الانشغالات الأميركية كما على العملية الديموقراطية في أميركا. محطة ولاية نيوهامشير من الحملة الانتخابية بعثت رئاسل عديدة إلى الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديموقراطي، وإلى "المؤسسة"، وإلى الساعين وراء البيت الأبيض. ففي تلك المحطة قطع السيناتور الجمهوري جان ماكين حفلة "تتويج" جورج بوش الابن مرشحاً للحزب الجمهوري، حين حقق ماكين انتصاراً كبيراً وحصل على 49 في المئة من الأصوات مقابل 30 في المئة لصالح بوش. ذلك ان الافتراض السائد كان، ولربما لا يزال، ان بوش بات المرشح الجمهوري بلا منازع، لأنه ضمن الأموال الضخمة التي ليس في امكان أي مرشح آخر الحصول عليها في هذه المرحلة، ليتمكن من المضي في الانتخابات إلى حين موعد مؤتمر الحزب الذي يعلن المرشح الحزبي رسمياً. ولاية نيوهامشير اتخذت قرار تحدي الافتراض وسحب البساط من تحت أقدام الافراط في الثقة. بذلك لقنت بوش درساً عنوانه التواضع والأخذ في الحسبان أن المال وحده ليس الوسيلة وان النتيجة ليست مضمونة. ولربما سيكون هذا الدرس فائق الفائدة لبوش من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية. فمجموع الأموال التي جمعها بوش لحملته الانتخابية حتى الآن يقارب 69 مليون دولار، 31 مليوناً منها في البنك مضمونة. جان ماكين جمع حتى الآن ما يقارب 14 مليون دولار. المرشح الجمهوري الثري مالكولم فوربز، الذي يكاد يكون محسوماً خارج السباق، انفق حتى الآن حوالى 35 مليون دولار على حملته الانتخابية، 28 مليون دولار منها من أمواله الخاصة. وعلى صعيد الديموقراطيين، حيث المنافسة بين نائب الرئيس آل غور، والسناتور السابق بيل برادلي، يفوق ما جمعه غور ب28 مليون دولار، وبرادلي ب27 مليوناً. ومعروف ان الأموال الفيديرالية تعطى للمرشح بنسبة تتماشى مع ما جمعه من أموال عبر التبرعات. الجديد في حملة الجمهوري ماكين، الذي طالما هاجم عملية تمويل الانتخابات، أنه لجأ إلى بدعة تعطي الناخب الأميركي وسيلة لتصحيح واصلاح افرازات التمويل التقليدي. فهو سيبدأ أول عملية جمع للتبرعات عبر الانترنت في 10 الشهر الجاري. وحسب مساعدي ماكين قدم 60 ألف شخصاً خدماتهم عبر "ماكين وب سايت"، وحتى الآن تم جمع 5.1 مليون دولار، قبل بدء حلقات النقاش الحي "أون لاين". بمثل هذا الأسلوب سعى ماكين لتحدي "المؤسسة" التي تتحكم بالحياة السياسية الأميركية. فأصحاب القدرات المالية الضخمة الذين يتبرعون لمرشح ما يتوقعون ان يكافأوا يوماً ما بشيء ما. وهؤلاء يدعمون جورج دبليو بوش ويعتبرون ماكين ثائراً معارضاً للمؤسسة الحزبية وقياداتها. وهو كذلك. بل إنه قادر، كما اثبت في نيوهامشير، على استقطاب الناخب الثائر والمستقل والشاب الراغب في لعب دور. ولذلك، لربما يأتي ماكين بمفاجأة. المفاجأة تكون إذا ما تمكن حقاً من عكس تيار بوش. وهذا في الوقت الحالي مستبعد على رغم أن ماكين يتعمد التذكير بأن رونالد ريغان كان يوماً عاصياً قام ب"ثورة" على التقليديين في الحزب الجمهوري ووصل إلى البيت الأبيض، لأنه أحسن استقطاب ليس فقط المستقلين وإنما الديموقراطيين أيضاً. العلاقة الشخصية بين بوش وماكين ليست بدرجة من السوء بما يجعل التفكير بهما معاً على قائمة الترشيح الجمهوري مستحيلة. وليس صدفة ان كلاً منهما "يقنن" سمومه في الانتقادات اللاذعة للديموقراطيين، لا سيما لإدارة بيل كلينتون ونائب رئيسه. فقد يجوز ان يرشح الحزب الجمهوري لاحقاً بوش رئيساً وماكين نائباً له. إنما حتى الآن المعركة حقيقية بين الاثنين، وحتى الآن يبدو بوش المرشح الجمهوري ما لم يأتِ ماكين بمفاجأة مدهشة. بيل برادلي لن يحصل على الترشيح الديموقراطي، ولن يكون أبداً مرشحاً نائب رئيس لغور بسبب عمق عدم الاحترام والتقدير الذي يكنه له، ليس لأسباب تنافسية، وإنما لأن هذا ما يشعره برادلي في صميمه. فهذا رجل صادق لا يحسن اللعبة الاسترضائية الضرورية في فن السياسة، وهو بتلك الدرجة من "اللاهراء" ما يجعله يبدو "لوحاً" واستاذاً في قاعة محاضرات. وقد يكون بيل برادلي ضحية الإعلام الذي ألح على استدعائه ليدخل الساحة ويتحدى المرشح التقليدي للحزب، ثم ملّ الإعلام منه ومن اسلوبه المستقيم، فساهم في القضاء عليه باكراً. ولأنه لا يحسن خطب ود الناس ويعتبر النفاق مرضاً، فشل بيل برادلي في الخوض في اللعبة السياسية الانتخابية، وفشلت أميركا في أن تستحقه على الأقل منافساً جديراً للمتأقلم آل غور. غور المتأقلم في الاخراج ليس بالضرورة غور المتأقلم في العمق. فهو رجل يصعب تغييره قلباً وقالباً، يعرف عنه التمسك بمواقف أو حتى بفضول لدرجة الهوس. ولسنوات عديدة عرف عنه انه ثقيل الوجود، يشبه "الروبوت"، يكاد لا ينطق إلا وأمامه أو في ذهنه نص مكتوب. فجأة، وفي الأسابيع القليلة الماضية، تغير الرجل وكأنه خلع عن جلده قشرة من الشمع، فبدأ يتحرك. أصبح عفوياً نسبياً واكتسب ملامح "الإنسان". وحسب ناقد عرفه لسنوات، حتى الذكاء وسرعة البديهة تطورت عنده وصقلت فيه حس البناء على المعرفة والتأقلم، إنما باستثناء مواقفه من السياسة الخارجية. فهناك ما زال آل غور مجمداً في ما اعتبره صحيحاً، وإن كان قبل ثلاثين سنة، وكأنه انشغل عن أخذ علم بالتطورات. ونظرته إلى إسرائيل والعرب ليست سوى مثال واحد، ذلك أنه يبدو وكأنه اغلق على فكره، كما ارتآه، عام 1967، وفشل في تحرير عقله على رغم ما حدث من اختراقات منذ ذلك الحين. ولأن مجال البحث هنا ليس السياسة الخارجية للمتنافسين، فإن العودة إلى الاعتبارات الانتخابية تستلزم التطرق إلى النواحي الشخصية للمتنافسين. فآل غور يحمل عبء إدارته بما ينطوي ذلك على إرث القيم الذي يرافق بيل كلينتون. فأخطاء كلينتون الشخصية ذات العلاقة بمونيكا لوينسكي اثمه هو، أما الفضائح الأخرى ذات العلاقة بفضائح الإدارة فإن غور ملتصق بها أقله كانطباع. وهنا أحد مصادر ضعفه. أما مصدر قوته لدى الناخب فهي خبرته كنائب رئيس وكونه مادة معروفة ومختبرة في مناصب الحكم الأميركية. جورج دبليو بوش، مشهور أكثر مما هو معروف في سياق الحكم والخبرة والتجربة على الصعيد الوطني. لكنه ابن السياسة الذي سار الخطى التدريجية الضرورية التي تخوله التنافس على المنصب. اهتماماته محلية ووطنية تكاد لا تشمل السياسة الخارجية سوى في تأكيد أولوية التفوق في الدفاع. وهو، شأن المتنافسين الآخرين، يتمسك بالعناوين العريضة للسياسات الاقتصادية والسياسية الخارجية وينصب على القضايا الداخلية التي تشغل الرأي العام الأميركي. وفي الأمر عبرة تثير بعض الحسد ليس فقط لأن مثل هذه العملية الديموقراطية عبر الانتخابات تكاد تكون غير موجودة في العالم العربي، وإنما لأن القضايا التي تهم الناس وتطلق حماسهم حقيقة ملموسة في حياتهم اليومية، في الالتهاءات العربية بغير وارد الواقع ومعالجته. ففي العالم العربي 68 مليون أمي في الوقت الذي تنفق فيه الدول العربية 8.8 في المئة من المدخول الوطني، أي حوالى 40 بليون دولار، على التسلح سنوياً. ولو كان هناك ناخب عربي لربما أثار على الأقل فكرة الاصلاح في فكر القيادات، إنما هذا لا ينفي ان الفرد العربي، لا سيما من النخبة، قاصر ومقصر في فرض التوجهات بالأولويات الضرورية. الأولوية الأميركية اليوم قد تثير امتعاض كثيرين في العالم، لأنها تبدو أنانية منصبة على نفسها بانعزالية. لكن أميركا تدرك أنها أبداً ليست في عزلة. والعالم بدأ بعد نيوهامشير يتحدث عن جورج دبليو بوش وآل غور وجان ماكين وبيل برادلي بتشوق للتعرف على شخصية وأهلية الرئيس الأميركي المقبل. والعملية الانتخابية لن تقتصر في التدقيق، ولهذا فإنها مهمة ومفيدة.