على هامش زياراتهم لاسرائيل يُعرّج علينا رسميون من دول مختلفة للزيارة التي اصبح يقرأ فيها المروّجون للتفاؤل الزائف بيننا اكثر مما ينبغي من تفسيرات يُقال بأنها ايجابية. هؤلاء الزائرون لاسرائيل يقومون بكل ما يلزم، وفي احيان كثيرة بكل ما لا يلزم، لإرضائها وخطب ودّها والحصول على "صفحها". فهم يزورون كل ما تريد اسرائيل منهم زيارته ابتداء من "متحف الكارثة والبطولة"، وانتهاء بجولة طوّافة مروحية فوق الضفة والجولان لاثبات حيويتها الامنية لاسرائيل وتثبيت استمرار الاحتلال الاسرائيلي لها. وهم يصرّحون كذلك بكل ما تريده اسرائيل منهم، عن ضرورة توثيق عرى التعاون معها وحتى حماية امنها على رغم استمرار احتلالها ارض الغير بالقوة، ولدرجة وصول المبالغة في التملّق في بعض هذه التصريحات الى درجة البؤس. اما عندما يُعرّجون في نهاية المطاف علينا فإنهم يحرصون على عدم اغضاب اسرائيل منهم، فهم لا يزورون ما لا تريد منهم اسرائيل زيارته مثل "بيت الشرق" على سبيل المثال، ولا يُصرّحون الا بتصريحات توفيقية وفاقية حول ضرورة التوصل الى تسوية تفاوضية رضائية بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، متناسين عدم وجود اية امكانية لموازاة المحتل مع القابع تحت الاحتلال. الغريب في الامر أننا اصبحنا نقبل هذا التقسيم العجيب للاداور، لأن البعض منّا روّض نفسه على اللهاث وراء عملية التسوية التفاوضية التي لم تجلب لنا سوى تثبيت المطامع الاسرائيلية وقائع على الارض الفلسطينية. اما الزائرون فيبدو عليهم الارتياح لهذا النوع من تقسيم الادوار، اذ يخرجون دائماً بتحقيق الهدف المزدوج: تملّق اسرائيل وتحقيق رضاها، وتحقيق القبول الفلسطيني بذلك تحت تورية تصريحات عمومية ومساعدات عينية. وعرّج علينا حالياً المسيو ليونيل جوسبان، رئيس الوزراء الفرنسي "اليساري"، بعد ان أنهى زيارة لاسرائيل جاءها لمناسبة تسليم لوحة فنية فرنسية بعد الحصول على اذن استثنائي فرنسي بإخراج مكتنز وطني من فرنسا. فالعلاقة الاوروبية، ومنها الفرنسية، مع اسرائيل معقدة واستثنائية، يُسمح فيها لاسرائيل ما لا يُسمح لغيرها، ويُقبل فيها لاسرائيل ما لا يُقبل من غيرها، وتُطوع فيها القوانين والمواقف لتلائم اسرائيل ولكن ليس لغيرها. كل ذلك ونحن العرب نقبل بإزدواجية الموقف علّ اوروبا تؤثر في اسرائيل من ناحية، وترفع دعمها الاقتصادي لنا من ناحية اخرى. قام المسيو جوسبان وهو في اسرائيل بلطم العرب بتصريحات لا تقل سوءاً بل تزيد، عن تصريحات وزير الخارجية الاسرائيلي ليفي النازية بشأن لبنان. فليفي يميني متعصب يأتي من خلفية ليكودية ومواقفه وآراؤه السلبية معروفة ومتوقعة. اما جوسبان فهو زعيم الحزب الاشتراكي اليساري في فرنسا، ووصل الى رئاسة الحزب بعد قيادته للجناح التقدمي في هذا الحزب وشنّه حملات على مجموعات المصالح المتنفذة به. اي باختصار، لجوسبان ماضٍ جيد في بلدٍ كانت سياسته الخارجية منذ اواخر الستينات ايجابية تجاه العرب والقضايا العربية. فما الذي يُفسّر والحال كذلك التصريحات السيئة له في اسرائيل عن لبنان، خصوصاً انه لم يكن مجبراً عليها، او كان بإمكانه ان يتخذ موقفاً ديبلوماسياً كما هو الحال عندما يُصرّح حول السياسات الاسرائيلية، كالاستيطان على سبيل المثال؟! قال جوسبان وهو في اسرائيل ان هجمات حزب الله ضد الجنود والمواطنين الاسرائيليين ارهابية، وقام بإدانتها مُعتبراً انها لا تدخل تحت باب المقاومة، منوّهاً على ما يبدو بزهو للحصول على رضى مضيفيه الاسرائيليين بأنه لم يستخدم ابداً عبارة "المقاومة اللبنانية". "مرحى" للمسيو جوسبان و"مرحى" ل"يساريته" و"مرحى" للطريقة التي يفهم بها الحرية والمساواة والاخاء التي كانت المفاهيم الارتكازية التي قامت عليها الثورة الفرنسية! في الواقع لم يكن احد من العرب ليتوقع منك ما صدر عنك يا مسيو جوسبان. وان كنت لا تعلم، مع ان فرنسا تجلس في اللجنة الرباعية لمراقبة تطبيق تفاهم نيسان، فان الجنوب اللبناني مُحتَل من قبل اسرائيل، أوليس كذلك؟ يجب عليك ان تُعرّف لنا، وانت رئيس وزراء دولة دائمة العضوية في مجلس الامن، معنى الاحتلال قانونياً، كما يجب عليك ان تُعرّف لنا، وانت تأتي من بلد يعتزّ ويفاخر الدنيا بمقاومته للاحتلال النازي، معنى مقاومة الاحتلال وكيفية القيام بذلك، ويُفترض بك بعد تصريحاتك، وانت تأتي من بلد له علاقة مديدة مع لبنان، ان تقول لنا هل من حق لبنان ان يقاوم احتلال اراضيه؟ واذا كان جوابك بالنفي فلماذا لا تقوم فرنسا بالعمل، ليس فقط بالقول، على تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 425؟ هل يا مستر جوسبان، "وريث الثورة الفرنسية اليساري" تريد ان تحرم الشعوب من حقها الشرعي في مقاومة الاحتلال والمحتلين؟ اذا كان الامر كذلك فماذا تقول عن المقاومة الفرنسية للاحتلال الهتلري لبلدك؟ أتمنى ان يكون ما صدر عنك من تصريحات سيئة بهذا الشأن في اسرائيل، لم يكن سوى زلّة لسان ناجمة عن انجراف لحظي لا يُعبّر عن تغيّر في سياسية بلد صديق كفرنسا، يعوّل العرب كثيراً على مكانته وموقفه ودوره. وان كان التمني صحيحاً فيجدر بك تصحيح الخطأ علنياً. اذ ان بقاءك على هذه التصريحات وتمسكك بها سيُلحق ضرراً مستقبلياً بنوعية العلاقات الفرنسية - العربية. اما اذا اخترت البقاء على هذه التصريحات وتشبثت بها فمن الضروري ان تتلقى دروساً حول حق الشعوب في تقرير مصيرها. وحقّها في التحرر ومقاومة الاحتلال، اذ يبدو انك نسيت الدرس العملي للثورة الجزائرية. اما بالنسبة لنا وللعرب أجمعين فيبدو اننا جميعاً نستحق كل ما يجري لنا وبنا، فقد استُبحنا عندما قبلنا ان ينمو بيننا تيار يُشرعن هزيمتنا ويثقب المرتكزات الوطنية للقضايا العربية المصيرية. * استاذ العلوم السياسية - جامعة بيرزيت.