تُنتج المسألة السورية في لبنان سطحاً يتلاقى عنده أمران لا ينتميان للوهلة الأولى الى الطينة نفسها. فهناك من جهة ما يمكن تسميته بالمصلحة العربية العامة، تلك المسكونة بهاجس ألا يكون لبنان مدخلا للنيل من سورية لمصلحة مزيد من الهيمنة الاميركية على المنطقة، ولمصلحة الغلبة الاسرائيلية في التوازن الاقليمي. وهناك من جهة اخرى قوانين وآليات حركة الحياة السياسية الداخلية اللبنانية، أي هذا الاطار المحدود الذي يمتلك دوافعه ومحركاته الخاصة. وتتحرك الأطراف اللبنانية على هذا السطح، محمولة باعتباراتها التي قد تغلّب واحداً من الأمرين على الآخر. وقد يذهب هذا التغليب الى حدود قصوى فلا يعود يرى اعتبارات سوى تلك التي تهمه، فتنتج عن هذا مواقف وسلوكيات تستعصي على التأويل السليم، وتتيح للبعض رمي البعض الآخر بتهم "العمالة للاستعمار" أو "التنكر للبنان"، ويخرج البلد بعد هذه التهم المتقابلة وقد تسربل عن بكرة أبيه بخيانة ما، هي وفي كل الاحوال، جوهرية. لكن هل هذا ضروري حقاً؟ ألا يوجد سلوك أو موقف يتجنب كل أنواع "الخيانات"؟ وهل المصلحتان، القومية والوطنية، متناقضتان الى هذا الحد؟ وهل هما صافيتا الملامح بصورة كافية؟ هناك في السلوك السياسي لأطراف لبنانية وسورية، على السواء، مفارقات خطيرة. فثمة سياسيون لبنانيون قوميون جداً حينما يتعلق الأمر بسورية، إلا ان عروبتهم تقف عند حدود... فلسطين. والأمثلة على ذلك كثيرة آخرها ما جاء منذ أيام في خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة الاحتفال بعيد الاستقلال من كلام عن الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، المدججين بالسلاح، الذين يشكّلون قنبلة موقوتة. وهو كلام أعاد الى الأذهان خطاباً سابقاً للرئيس اكد فيه ان وفاء اللبنانيين لمستقبل أطفالهم يحتّم عليهم العمل من أجل التخلص من اللاجئين الفلسطينيين. والمفارقة هذه تطرح، ولو من موقع آخر، التواطوء على الصمت حيال الأوضاع المزرية لمخيمات اللاجئين في لبنان. فإذا كان لا يوجد أدنى شك في انشغال حزب الله الطاغي بهمّ المواجهة مع اسرائيل، وفي تضامنه مع نضال الشعب الفلسطيني، إلا ان حزب الله يتجنب اثارة مسألة أوضاع المخيمات واللاجئين، مع ان وقوع معظم الكتلة البشرية الفلسطينية اللاجئة في جنوبلبنان، والوزن النضالي لحزب الله وتاريخ علاقته بالمسألة الفلسطينية، بما فيها شقها اللبناني، تتيح كلها له، بل تفرض عليه، ان ينتقل الى الاهتمام ببلورة موقف وطني متوازن حيال هذا الموضوع. وهو أمر ليس بالتأكيد مستعصياً على الطرح والحل، بل لعله اذا ما تصدى طرف كحزب الله للمهمة، أخرجها من التناول والتوظيف الخاطئين اللذين يجعلانها بحق قنبلة موقوتة. ذلك ان هناك في المقابل "عادة" لبنانية تتخطى، بعكس ما قد يُظن، حدود أوساط بعينها لتحوز على عمومية كبيرة. وهي عادةٌ تميل الى إلقاء تبعات الأزمات والمصائب التي يواجهها لبنان على كاهل "آخر" ما، دوماً ودواليك. ولهذا الميل جذر نفسي جماعي يكمن اساسه، على الأغلب، في ضعف تشكل المجتمع اللبناني وخصوصيات هذا التشكل التي تمنح العوامل الخارجية قوة تأثير مضاعفة. ويمثل الوجود الفلسطيني في لبنان مشجباً جاهزاً لهذا الاستعمال. وكما حاولت مقولة "حروب الآخرين على أرضنا" تهريب أسباب الحرب الاهلية الى الخارج، فكذلك اليوم يجري اختصار كل أنواع الأزمات بالوجود السوري في لبنان، وآخرها اكتشاف انهيار مستوى التعليم في الجامعة اللبنانية على ضوء الامتيازات الممنوحة للطلاب السوريين. ولعل رأس الأسئلة المطروحة بصدد المظاهر المتعددة للأزمة اللبنانية، هو المتعلق بضعف المناعة التي يعاني منها المجتمع اللبناني بكل فئاته، والتي سوغت للسياسيين بداية، وعلى انتماءاتهم المختلفة، ثم لجميع الفئات من اقتصاديين ونقابيين واساتذة جامعيين ووجهاء أحياء ومخاتير قرى، استسهال طريق دمشق لكل شاردة وواردة، بل استساغة نسج أكبر قدر ممكن من العلاقات مع الاجهزة السورية العاملة في لبنان، استقواء بكل هذا على المنافس القريب وتحصيناً للموقع الخاص وطلباً للمنافع، وما الى ذلك من المبررات. وبهذا يمكن القول ان أزمة وجودية أو بنيوية تسبق وتغلّف الأزمة السياسية التي يحملها لبنان معه، وهي التي غذّت إدامة الحرب الاهلية المسلحة ثم عادت الى البروز بجلاء مقيت عند انتهاء القصف والقنص والحواجز، لتقيم في زمن السلم المفترض متاريس من نوع آخر، لكنها متاريس! أما الاضطراب غير المسبوق الذي تثيره مواقف مثل التي أعلن عنها السيد وليد جنبلاط، فمرده الى ان هذه المواقف تشوش خريطة المتاريس تلك. وأما الحدود بين الكلام والأفعال فرجراجة، ليس فحسب لأن أصواتاً تهدد السيد جنبلاط بالقتل، بل لأن هناك ظواهر تنشأ على الأرض، متلازمة مع احتدام المواجهات الكلاميةالتي ربما كان آخرها عودة الحياة الى الدبيب في "حركة التوحيد" في شمال البلاد. أما الأخطر من هذا وذاك فأن السياسية السورية في لبنان تبدو وكأنها تقيم خطتها على بعد واحد هو تحديداً بُعد المتاريس هذه. فتدير اللعبة، موازية بين الاطراف، محتفظة بالقدرة على زجر من يتجاوز قوانينها، ملوّحة بالزجر ومستخدمة اياه بأشكال مختلفة، تبدأ من القمع العاري لتنتهي بالحرمان من الامتيازات. وتفتقر السياسة السورية، وهي على هذا القدر من الاعتياد البليد على نمط معهود، الى روح المبادرة والاستشراف والاستباق، أي انها تفتقر الى الحيوية الفاعلة. ويذكر الجميع كيف انها بنت، ولسنوات، المبرر الشرعي لوجود الجيش السوري في لبنان، على واقعة الاحتلال الاسرائيلي، وظلت تشكك في نيته الانسحاب الى أن أسقط بيدها. وهي تبني اليوم هذا المبرر على مجموعة من الشروط، يكمن عيبها في ما تظن انه نقطة قوتها. فقد اطلقت الحكومة في بيانها الوزاري شعاراً مبهماً يقول ان الوجود السوري في لبنان "شرعي وضروري وموقّت". وتفترض الشرعية حصر تناول هذا الوجود بقرار الدولة اللبنانية، وتفترض الموقّتية استهداف الطمأنة. اما الضرورة فعبر عنها رئيس الجمهورية اللبنانية بقوله ان أهدافاً ثلاثة يجب ان تتحقق قبل الانسحاب السوري، وهي انتهاء الاحتلال - ما يُعرف بمزارع شبعا - وقيام حل شامل يعيد الجولان الى سورية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم! وقد تمسك المسؤولون السوريون بمجمل هذا الاخراج، مرددين ان الموضوع لا يُبحث الا بين الدولتين. ثم أبدت دمشق مزيداً من الحيطة والحذر تجاه الهيئات الرسمية اللبنانية المؤهلة لذلك، وقررت اخيراً اناطة بحث موضوع "الوجود السوري في لبنان" برئيس الجمهورية اللبنانية "حصرياً". وتعالت أصوات لبنانية تدعو الى "سحب الموضوع من التداول"، كأنما هو أوراق نقدية مزورة، وتعالت أصوات أخرى تردد بنزق ببغوي انه "شرعي وضروري وموقت" وكفى. ثم تعالت أصوات تحذر من ان سورية تتصلب إزاء الضغط وان من عاداتها ألا ترضخ له، وانه يؤدي الى مفعول عكسي... واذا تكاثرت مؤخراً المبادرات والوساطات قامت السياسة السورية على تشجيعها وعلى انكارها في وقت واحد، في ما يبدو وكأنه مجدداً "إدارة اللعبة"، أي التكتيك المطابق عادة لكسب الوقت وتمرير اللحظة واشاعة الغموض. لا شك ان هذا السلوك السياسي السوري قاصر عن معالجة المسألة التي باتت مطروحة للنقاش والبحث، كما هو قاصر عن ضبطها التجاهلَ المكابر أو الإجابة القاطعة المبرمة التي تفترض لنفسها سلطة البتّ مرةً والى الأبد، كما الإجابة خارج الصدد أو الى جانب الموضوع، كما يقال في اللغة المدرسية. في لبنان أصوات متعددة، سياسية وفكرية وثقافية واجتماعية، تتحسس الحاجة الى يقظة استثنائية حيال هذا الموضوع والمواضيع المتشابكة المتصلة بالحاضر والمستقبل. والمأمول ان تتمكن من تشكيل أرضية صالحة لحوار وطني ولمبادرات. والمأمول ايضاً ان تتمكن السياسة السورية من ترك الدروب - والأساليب - المطروقة وانتهاج سياسة عقلانية ووظائفية هي وحدها القادرة من الآن وصاعداً على تحصين الحاضر والمستقبل.